من بلاغة القرآن في الأوامر التي وجهها الله لنساء النبي صلى الله عليه وسلم

 

بعد أن أمر اللهُ عز وجل رسولَه صلى الله عليه وسلم بتخيير نسائه، واختيارهن الله ورسوله والدار الآخرة، خاطبهن اللهُ عز وجل بعد ذلك خطابًا مباشرًا؛ لأنهن في هذا الوقت أصبحن على عهد مع الله تعالى أن يؤتيهن أجرًا عظيمًا، فوجَّه اللهُ ـ إليهن الأوامر مباشرة، فقال: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا * وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا * يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا * وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا) [الأحزاب: 30 - 34].

بدأت الآيات بتوجيه الخطاب إلى نساء النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة بعد توجيهه؛ لإظهار الاعتناء بنُصْحِهنَّ، وتعريفهن بالإضافة إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّها التي يدورُ عليها ما يردُ عليهنَّ من الأحكامِ.

الفَاحِشَةُ: ما عَظُم قُبْحه من الأفعال والأقوال، وهو كناية عن الزنا. وذهب بعض المفسرين إلى تفسيره بسوء الخُلُق أو النشوز أو غير ذلك خوفًا من اتهام أهل بيت النبوة بما لا يليق. ومجيء الفاحشة في الآية نكرة وتقييدها بالوصف فيه إشارة إلى أن المراد عقوق الزوج وفساد عشرته. وذكر الدكتور محمد أبو موسى أن الفاحشة في هذه الآية وردت بمعناها اللغوي المعروف، وهو الزنا، ولكن الكلام هنا واردٌ على سبيل الفرض والتقدير، مبالغة في التنفير من هذه الفاحشة، ومبالغة في بيان خطرها، فليس فيه أي اتهام لسيدات بيت النبوة بما لا يليق.

والضِّعف في كلام العرب: الْمِثْلُ، هذا هو الأصل، ثم استُعمل الضِّعْفُ في الْمِثل وما زاد وليس للزيادة حَدٌّ. وصيغة التثنية في قوله: (ضِعْفَيْنِ) مُسْتَعْمَلَةٌ في إرادة الكَثْرَةِ، فالتثنية في كلام العرب ترد كناية عن التكرير كقولهم: (لَبَّيك وسَعْدَيك)، وهذا يدلُّ على عِظَم قُبْحِ هذه الفاحشة، ويدلُّ أيضًا على عِظَم منزلة أُمَّهات المؤمنين، ولهذا جاء الكلام مؤكَّدا.

وقوله: (وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا) اسم الإشارة ذلك موضوع للإشارة إلى البعيد وجاء في هذا المقام؛ ليدل على عظم الأمر وخطورته.

ثم أعقب هذا الوعيد بالوعد، فقال: (وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا) والقنوت: لزوم الطاعة مع الخضوع. والقنوت للرسول صلى الله عليه وسلم هو الدوام على طاعته واجتلاب رضاه؛ لأن في رضاه رضى الله تعالى.

والفرق بين القُنُوت والعمل هو أن القنوت عَمَلُ القلب، أما العمل فهو كُلُّ أعمال الجوارح سواء فيها القولية مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو الفعلية كـالصلاة والصوم ومساعدة المحتاج والدفاع عن المظلوم.

وأسند فعل إيتاء أجرهن وإعداد الرزق الكريم إلى ضمير الجلالة بوجه صريح (نُؤْتِهَا ... وَأَعْتَدْنَا)؛ تشريفًا لإيتائهن الأجر ولإعداد هذا الرزق؛ لأنه المأمول بهن. وعبَّر بالفعل المضارع؛ لإفادة تحقيق الوقوع. والرزق الكريم: هو رزق الجنة، زيادة على أجرها.

ثم تكرَّر النداء مرَّة أخرى إلى أمهات المؤمنين، فقال: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا)، فأكد هذا التكرار أهمية الغرض الذي يُسَاق من أجله الحديث، وهو تنقية الأخلاق، وتهذيب السلوك، والمراد من هذه الآية شرح وسيلة الصيانة والعفاف.

والكاف في قوله: (لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ) للتشبيه، والقاعدة في المدح تشبيه الأدنى بالأعلى، وفي الذمِّ تشبيه الأدنى بالأعلى، وهو ما ورد عليه هذا التشبيه في الآية، فالمراد لستن كأحد من النساء في النزول لا في العلو.

وذهب المفسرون في معناه إلى مذهبين:

الأول: المراد ليس كل واحدة منكن كشخص واحدة من نساء عصركن، فكل واحدة منكن أفضل من كل واحدة منهن، لما امتازت به من شرف الزوجية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأمومة المؤمنين، وعليه يكون لفظ (أحد) باق على كونه وصفًا لمذكر، إلا أن موصوفه محذوف، ولا بد من اعتباره في جانب المشبه والتقدير: كشخص واحد.

والثاني: ذهب الزمخشري إلى أن المراد لستن كجماعة واحدة من جماعات النساء، أي: إذا تقصيت أُمَّة النساء جماعة جماعة لم تُوجد منهن جماعة واحدة تساويكن في الفضل والسابقة.

فعلى رأي الزمخشري يكون هذا التشبيه تشبيه معكوس، وهو: الذي يجعل فيه المشبه مشبهًا به ويجعل المشبه به مشبَّهًا، فقوله: (نساء النبي) مشبه، و(أحد) مشبه به، ونساء النبي صلى الله عليه وسلم في مكان القدوة لسائر النساء، أي: لستن كجماعة واحدة من جماعات النساء، ولا توجد جماعة ممكن تعدلكن في الفضل والسابقة إذا دمتن على ما أنتن عليه من التقوى، فالتشبيه على القلب، والأصل ليس أحد من النساء مثلكن، وأرى أن ما ذهب إليه الزمخشري هو الأولى بالقبول.

والتشبيه في هذا النص الكريم له أكثر من قراءة أسلوبية تزيد من ثرائه وتمنحه شحنة دلالية كبيرة، هذا الإيحاء يتأتى من جعل المشبه مشبهًا به هذا التداخل في أركان التشبيه يزيد من حلاوة التعبير لدى المتلقي ويوحي بمعانٍ متجددة.

ونفي الْمُشَابهة في قوله: (لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ) يُرَادُ به نفي الْمُساواة، وهو مكنَّى به عن الأفضليَّة على غيرهن، فالمعنى: أنتن أفضل النساء، وظاهره تفضيل لجملتهن على نساء هذه الأُمَّة، ثم إن نساء النبي صلى الله عليه وسلم يتفاضلن بينهن، وسبب ذلك أنهن اتَّصلن بالنبي صلى الله عليه وسلم اتصالا أقرب من كل اتصال وصرن ملازمات له في جميع شؤونه، فاختصصن باطلاع ما لم يطلع عليه غيرهن من أحواله وخُلقه صلى الله عليه وسلم في الْمَنْشَط والْمَكْرَه، وتخلَّقن بخُلُقه أكثر مما اقتبس منه غيرهن.

وقوله: (إِنِ اتَّقَيْتُنَّ)، أي: إِنِ اتَّقَيْتُنَّ مخالفة حكم الله ورضى رسوله، وهو استئناف، والكلام تام على أحد من النساء، ويحتمل أن يكون شرطًا لخيريتهن وبيانًا أن فضيلتهن إنما تكون بالتقوى لا باتصالهن بالنبي ق، وإلا فهناك من زوجات الأنبياء من كانت غير تقية.

ومجيء الشرط بأداة الشرط (إن)، مع أن المقام لـ (إذا)؛ لأن المعنى: إذا كنتن متقيات، وفيه إلهاب وتهييج للثبات على طريق الحق والتزام النهج القويم الذي وضحته الآيات اللاحقة.

ثم فرَّع على تفضيلهن وترفيع قدرهن إرشادهن إلى دقائق من الأخلاق قد تقع الغفلة عن مراعاتها لخفاء الشعور بآثارها، ولأنها ذرائع خفية نادرة تفضي إلى ما لا يليق بحرمتهن في نفوس بعض ممن اشتملت عليه الأمة، وفيها منافقوها، فقال: (فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا).

ونَهْيُ نساء النبي صلى الله عليه وسلم عن الخضوع بالقول لا محلَّ له؛ لأنهن لا يفعلن ذلك، ولم يكُنَّ على حال من السوء تقتضي المنع والكف، وإنما المراد حملهن على أسمى الفضائل وملازمتها، فلما ذكر المنع من الفاحشة وهي الفعل القبيح، ذكر منع مقدماته وهي المحادثة مع الرجال على وجه فيه ريبة وإطماع، وإساءة فَهْم مَن في قلبه ميل إلى الفجور والفسوق والنفاق.

فتوجيه النهي إليهن كان لحكمة عالية تُشِير إلى أن حفظ الأمة من هذه الناحية من الأمور الحاسمة التي تؤخذ فيها بكل حيطة فلا ينخدع المجتمع ولا تنخدع الأمة بشيء ما وإن جلَّ وعظم، يجعلها تتهاون في هذا الحفظ، فالمرأة وإن علت قيمتها العلمية والأدبية يجب أن تأخذ نفسها بصفتها أُنثى بآداب الدين، فلا تلين القول ولا تخضع؛ لأن ذلك يُطمع قلوب الرجال المريضة، فإذا كانت هؤلاء العفيفات المطهرات نُهين عن ذلك فمن باب أولى مَنْ هُنْ أدنى منهن منزلة، وهن باقي نساء المسلمين.

وقوله: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) أي: الْزَمْنَ القرار في بيوتكنَّ فلا تخرجن منه إلا لحاجة، وليس الأمر بالقرار في البيوت حبسًا مُطْلقًا وتحريمًا للخروج؛ لأنه ثبت أنهن كُنَّ يخرجن بعد نزول هذه الآية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحج والعمرة، وكذلك صَحِبْنَه في الغزوات.

ثم أعقب هذا الأمر بالنهي في قوله: (وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) والتبرُّج: إظهار المرأة محاسن ذاتها وثيابها وحُليها بمرأى الرِّجال. والمقصود من النهي الدوام على الانكفاف عن التبرج وأنهن منهيات عنه. وفيه تعريض بنهي غيرهن من المسلمات عن التبرج.

والجاهلية: الْمُدَّة التي كانت عليها العرب قبل الإسلام، وتأنيثها لتأويلها بالمدة. ووصفها بالأولى وَصْفٌ كاشف؛ لأنها أُولَى قبل الإسلام، وجاء الإسلام بعدها، ونسب التبرج إلى أهل الجاهلية إذ كان قد تقرر بين المسلمين تحقير ما كان عليه أمر الجاهلية إلا ما أقره الإسلام.

ثم أعقبه بأوامر ثلاثة: (وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) وأريد بهذه الأوامر الدوام عليها؛ لأنهن مُتَلبِّسات بمضمونها من قبل، وليعلم الناس أن الْمُقَرَّبين والصالحين لا ترتفع درجاتهم عند الله تعالى عن حق توجه التكليف عليهم. وخصَّ الصلاة والزكاة بالأمر ثم جاء الأمر عاما بالطاعة؛ لأن هاتين الطاعتين البدنية والمالية هما أصل سائر الطاعات فمن اعتني بهما حق العناية جرَّتاه إلى ما وراءهما.

وإذا تأملنا الآيات الكريمة وما حوته من تكاليف على نساء النبي ق، وما قررته من مضاعفة الثواب والعقاب لهن، فستجد هذا حافزًا للتساؤل عن الغاية من ذلك، فأتى الجواب عن ذلك وهو قوله تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا).

وأتى أسلوب القصر مُبَيِّنًا أن الغاية تطهير البيت النبوي من الرجس؛ لأنه الْمُعَلِّم الْمُقتدَى به للأمة الإسلامية جمعاء، وهو قصر قلب؛ لأنه يقلب اعتقاد من يعتقد أن الله ـ يريد إعنات عباده بما فرض عليهم من تكاليف قد يكون بعضها شاقًّا، وأداته (إنما)، وهذه الآية تقتضي أن الله عصم أزواج نبيه صلى الله عليه وسلم من ارتكاب الكبائر، وزكَّى نفوسهن.

واستعار للذنوب: الرِّجس، وللتقوى: الطُّهر؛ لأنَّ عِرْضَ الْمُقترف للمقبحات يتلوَّث بها ويتدنَّس، كما يتلوث بدنه بالأرجاس. وأما الْمُحْسِنَات، فالعِرْضُ معها نقي مصون كالثوب الطاهر. وفي هذه الاستعارة ما يُنَفِّر أولى الألباب عما كرهه الله لعباده ونهاهم عنه، ويرغبهم فيما رضيه لهم وأمرهم به.

ووجه الشبه بين الذنوب والرجس كون كل واحد منهما سببًا للتدنس، فالرِّجس يُدَنِّس نحو الثوب والبدن، والذنب يُدَنِّس العِرْض، وجعل التطهير ترشيحًا للاستعارة من إنه ملائم للمستعار منه. واستعير الإذهاب للإنجاء والإبعاد.

ولَمَّا ضمن الله لهن العظمة أمرهن بالتحلي بأسبابها والتزود من علم الشريعة بدراسة القرآن ليجمع ذلك اهتداءهن في أنفسهن ازديادا في الكمال والعلم، وإرشادهن الأمة إلى ما فيه صلاح لها من علم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا).

***

تعليقات