من بلاغة القرآن الكريم في حديثه عن مجادلة الرسول الله صلى الله عليه وسلم

 من بلاغة القرآن الكريم في حديثه عن مجادلة الرسول الله صلى الله عليه وسلم

من بلاغة القرآن الكريم في حديثه عن مجادلة الرسول الله صلى الله عليه وسلم:جاءت امرأة من الأنصار وهي خولة بنت ثعلبة بن مالك الخزرجية إلى الرسول صلى الله عليه وسلم تستفتيه في شأن ظِهَار زوجها أوس بن الصامت منها، وقد كان الظهار طلاقًا في الجاهلية، ولم يكن قد أنزل الله حُكْمًا خاصًّا به، فأفتاها بأنها قد حَرُمت على زوجها فجادلته في هذا الحكم، فأنزل اللهُ عز وجل آيات في صدر سورة المجادلة أبطل فيها ما كان عليه حكم الظهار في الجاهلية وجعل فيه الكفَّارة، وهي قوله تعالى: ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [المجادلة: 1].

بدأت الآية بقوله: (قَدْ) وأصله حرف تحقيق للخبر، فهو من حُروف توكيد الخبر، ولكنَّ لَمَّا كان الخطابُ هنا للنبي صلى الله عليه وسلم وهو لا يُخَامره تردُّد في أن الله يعلم ما قالته المرأة التي جادلت في زوجها، تعيَّن أن حرف (قَدْ) هنا مُسْتَعْمَل في التوقُّع، أي: الإشعار بحصول ما يتوقعه السامع.

والسَّمْعُ قوّة في الأُذن بها تدرك الأصوات فإذا وُصِفَ اللهُ –تعالى- بالسَّمْعِ فالمراد عِلْمُه بالمسموعات. والسَّمَاعُ في قوله تعالى: ﴿سَمِعَ اللَّهُإما مجاز مرسل عن القبول والإجابة بعلاقة السببية؛ لأن سماع الله لصوتها وهي تشتكي وعِلْمه ما بنفسها من الهمِّ والحزن كان سببًا في الاستجابة وإنزال ما يفرج به عنها، وإما كناية عن القبول والإجابة، فذكر السمع وأراد به الاستجابة؛ لأنه لا يستجيب لنداءٍ إلا مَنْ يسمعه.

وقوله: (قَوْلَ) مصدر صريح، ورد ليدل على شمول علم الله تعالى بكل ما قالته المجادلة سواء أكان بصوت مسموع أم لا، وسواء أكان بلسان مقالها أم بلسان حالها.

واستُحْضِرَت المرأة بعنوان الصلة (الَّتِي تُجَادِلُكَ) تنويهًا بِمُجَادَلَتِهَا وشكواها، وعبَّر عنها باسم الموصول؛ لأن المراد ليس إثبات اسم صريح يخصُّ صاحبة القضية –وإن كان إنزال آيات في شأنها لتعم جميع المسلمين من بعدها فيه تشريف لها وتكريم- بل المقصود وصف قضية وتقرير الحكم عليها. والجِدَال: المفاوضة على سبيل الْمُنَازعة والْمُغَالبة، وأصله من: جَدَلْتُ الحبل، أي: أحكمت فتله، واختار صيغة (تجادل)؛ لأنها على وزن (تفاعل) الدالة على حدوث الفعل من جانبين، فالمجادلة لا تكون إلا بين اثنين، ولأن الحادث الذي وقع لهذه المرأة كان معروفًا على أنه طلاق في الجاهلية، فجاءت المرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رافضة لحُكْمِ الجاهلية، لما فيه من الظُّلم والجور مبتغية العدل من الشرع الإسلامي الذي لا يجور على أحد، وجاء لفظ (تُجَادِلُ) مع ما فيه من الإيحاء بالأخذ والرد في الكلام مضارعًا دالا على استمرارية المرأة في عدم الاقتناع بالحكم الأول.

وقوله: (فِي زَوْجِهَا) فيه إيجاز بحذف المضاف، والتقدير: (في شأن زوجها وقضِيَّته).

والاشْتِكَاءُ الوارد في قوله: (وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ) مبالغة في الشكوى وهي: ذِكْرُ ما آذَاهُ، وكان لطلب إزالة الضُّرِّ الذي تشتكي منه بحُكْمٍ أو نَصْرٍ أو إشارة بحيلة خلاص، فلم تكن هذه المرأة تفاوض النبي صلى الله عليه وسلم في شأن زوجها وتجادله لتصل معه إلى ما من شأنه إنهاء مشكلتها فحسب، بل كانت أيضًا متوجهة إلى الله عز وجل تشكو إليه حالها وما ستصل إليه من مصير هي وبنوها الصغار ما لم تتداركهم رحمة الله تعالى ويُسْعفهم عز وجل بعدله وحكمته.

وقوله: (وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا) جاء لفظ الجلالة مُظْهَرًا وهو في موضع الإضمار؛ لتربية المهابة، والتأكيد على استقلالية الجملة، ولما في الاسم الظاهر من الاستحضار لصفة الألوهية. وقُدِّم لفظ الجلالة وهو فاعل في المعنى على فعله اهتمامًا به وتعظيما له، ومن بلاغة هذا التقديم في السياق أنه أضاف للجملة معنى التوكيد والتقرير؛ إذ حصل به إيثار الجملة الاسمية على الفعلية مما أوحى بالثبوت والدوام، وفي ذلك توكيد لعلم الله بسائر الأمور ظاهرة وباطنة، والتي منها علمه بتلك المحاورة.

وجاءت صفة (السمع) خبرًا للمبتدأ بصيغة المضارع؛ للدلالة على استمرار السمع مع استمرار التحاور.

والسَّمَاعُ في الآية مستعمل في معناه الحقيقي الْمُنَاسِب لصفات الله، إذ لا صارف يصرف عن الحقيقة. وكون الله تعالى عالما بما جرى من المحاورة معلوم لا يراد من الإخبار به إفادة الحكم، فتعيَّنَ صَرْفُ الخبر إلى إرادة الاعتناء بذلك التحاور والتنويه به وبعظيم منزلته؛ لاشتماله على ترقب النبي صلى الله عليه وسلم ما يُنْزِلُهُ عليه من وَحْيٍ، وتَرَقُّبُ المرأَةِ الرحمةَ، وإلا فإن المسلمين يعلمون أن الله عالم بتحاورهما.

وإيثار صيغة (تحاور)؛ لأنها على وزن (تفاعل) الدال على حدوث الفعل من جانبين، وإيثار التعبير بقوله تعالى: (تَحَاوُرَكُمَا) بدلا من (تجادلكما)؛ لأن الجدال لا يكون إلا بالحوار ومراجعة الكلام، ومرادته فيما بين الْمُتَجادلين، فضلا عما في (تَحَاوُرَكُمَا) من الخِفَّةِ على اللسان.

وقوله: (إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) جاءت هذه الجملة مؤكدة بإنَّ، وفُصِلَت عمَّا قبلها؛ لأنها بمنزلة التوكيد اللفظي لها، والفصل فيها لكمال الاتصال.

وقدم صفة السمع على البصر، وهذا التقديم يتناسب مع غرض الآية وسياقها العام؛ إذ كان علمه تعالى بحديث المجادِلة وما جرى فيها من التحاور من فوق سبع سماوات حاصل بطريق السمع، ولما كانت السيدة عائشة رضي الله عنها قريبة منهما وخفي عليها كثير مما تقول، ولم يخف ذلك على المولى عز وجل كان ذلك الأمر غاية ما يكون في خرق العادة، فقُدِّم تنبيهًا على شِدَّة غرابته؛ ولأنه ربما استبعده من اشتدَّ جهله لعراقته في التقيد بالعادات، ولذلك اقتضى تقديم السمع على البصر؛ لأنه أنسب للمقام، والأحق بالتقديم في السياق، وحتى تحقق به السَّكِينة والاطمئنان في قلب المرأة المهمومة وزوجها، وسائر المؤمنين والمؤمنات لاستشعارهم الرعاية الإلهية وقربه ـ منهم، وفي الصفتين تذكير بعظيم شأنهما في ذاته ـ حيث لا يخفى على سمعه وبصره شيء في الأرض ولا في السماء وهو العليم الخبير.

وجاء لفظ الجلالة ظاهرًا ثلاث مرات ﴿وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌفي موضع إضمار لتقدم ذكره؛ لتربية المهابة، وإثارة تعظيم مِنَّتِه تعالى، ودواعي شُكْرها.

وضحت لنا هذه الآية أن الله عز وجل قد سمع شكاية هذه المرأة ومحاورتها ومجادلتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي صورة تملأ القلب بوجود الله وقربه وعطفه ورعايته، وتبين لنا أيضًا حِرْص هذه السيدة على بيتها وزوجها وأولادها من خلال مجادلتها للنبي صلى الله عليه وسلم في شأن ما قاله لها زوجها من قول كان يُقال في الجاهلية تحرم به المرأة على زوجها، ولم يرد اسم هذه المرأة صريحًا في القرآن؛ لأن المراد ليس إثبات اسم صريح يخصُّ صاحبة القضية، بل المقصود وصف هذه القضية وتقرير الحكم عليها.

***
تعليقات