تابع التشبيه المرسل فى القرآن الكريم

                                     تابع  التشبيه المرسل فى القرآن الكريم

تابع  التشبيه المرسل فى القرآن الكريم  

ونستكمل في هذا المقال ذكر شواهده في القرآن الكريم:

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 2]

المشبه: جهر الصحابة رضي الله عنهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم. المشبه به: جهر بعضهم لبعض. أداة التشبيه: الكاف. وجه الشبه: الجهر.

وهذا التشبيه يحمل معنى عاليًا في الأدب وحُسْن التعامل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، احترامًا لجناب النبوة والرسالة التي اختاره الله تعالى لها.

ومخاطبة الناس بعضهم لبعض قد يقع فيها شيء من الجهر، أو الاسترسال في المزاح، وعدم مراعاة حدود الأدب على الوجه الأكمل، لاستوائهم في المنزلة، أو لسقوط التكلف بينهم لقرابة أو صداقة، ويدل على ذلك جعل جهر بعضهم لبعض مشبها به، فوجه الشبه في المشبه به يجب أن يكون أظهر وأكثر، والواقع شاهد على ذلك أيضًا.

ومثل هذا لا يليق في مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلأجل ذلك وقع النهي عن

الْمُشَابَهة.

***

ومنه قوله تعالى: {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ} [الذاريات: 59].

المشبه: نصيب كفار مكة وغيرهم ممن كفر بالله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام من العذاب. المشبه به: نصيب الأمم السابقة التي كفرت بالله تعالى ورسله عليهم السلام من العذاب. أداة التشبيه: مثل. وجه الشبه: استحقاق العذاب ونزوله م وإن تأخر إلى يوم القيامة.

وهذه الآية فيها وعيد صريح للكفار من أهل مكة، وغيرهم من الكفار الذين كذبوا الرسول صلى الله عليه وسلم.

وأصل الذَّنوب في اللغة: الدلو العظيمة المملوءة ماء، ثم استعمل في الحظ والنصيب.

ومعنى الكلام: فإن للذين ظلموا من عذاب الله نصيبا وحظا نازلا م، مثل نصيب أصحابهم الذين مضوا من قبلهم من الأمم، على منهاجهم من العذاب.

وهذا التشبيه يدل على اشتراك الطرفين في الظلم، فقيده بالإضافة إلى أصحابهم، واسم الصحبة يتضمن الاشتراك في وصف ما، يدل عليه وصف المشبه بالذين ظلموا، فهم اشتركوا في الظلم، الذي هو الشرك بالله تعالى؛ فحلت بهم عاقبته من عذاب الله تعالى، وقد أثبتت آيات القرآن الكريم تعرض الرسل لتكذيب أقوامهم حتى حلت بهم عقوبة الله تعالى.

***

ومنه قوله تعالى: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} [الرحمن: 14]

المشبه: الصلصال الذي خلق منه الإنسان. المشبه به: الفخار. أداة التشبيه: الكاف. وجه الشبه: الجودة.

يخبر تعالى عن عظيم منته على عباده، وعظيم قدرته، أنه خلق الإنسان، وهو آدم عليه السلام؛ لأنه أصل البشر، وهم فروعه، من صلصال، والصلصال: هو الطين اليابس الذي لم يُطْبَخ، فإنه من يُبْسِه له صلصلة إذا حرك ونقر كالفخار، يعني أنه من يُبْسِه وإن لم يكن مطبوخا، يكون كالذي قد طُبِخ بالنار، فهو يصلصل كما يُصَلصل الفخار.

والطين الذي خلق منه آدم لم يشو بالنار حتى يكون فخارا، ولكنه لطيب أصله وجودته كان كالفخار المشوي بالنار.

وهذا التشبيه مسوق لبيان فضل أصل الإنسان، على أصل الجان، ليعلم العباد فضل أصلهم فيشكرون ربهم، فأصل الإنسان الطين الذي هو محل الرزانة والمنافع، والثبات، وأصل الجان النار التي هي محل الخفة والطيش، والإحراق.

ولَمَّا كان الفخار يُعْلَم جودته وحُسْن صُنْعه من الصوت الذي يُصْدِرُه إذا نُقِر، فكذلك الإنسان الذي هو من الصلصال، يُعْلَم حُسْنُ خلقه، ورجاحة عقله من منطقه حين يتكلم.

***

ومنه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} [الممتحنة: 13]

المشبه: يأس الذين غضب الله عليهم من الآخرة. المشبه به: يأس الكفار من أصحاب القبور. أداة التشبيه: الكاف. وجه الشبه: كمال اليأس.

ذكر الواحدي في أسباب النزول: أن هذه الآية نزلت في ناس من فقراء المسلمين يعملون عند اليهود ويواصلونهم ليصيبوا بذلك من ثمارهم، وربما أخبروا اليهود بأحوال المسلمين عن غفلة وقلة حذر فنبههم الله إلى أن لا يتولوهم، فنهاهم الله عن ذلك لئلا يوافقوهم على شرهم وكفرهم فيحرموا خير الآخرة كما حرم أولئك.

ويأسهم من الآخرة، هو يأس سائر الكفرة منها هو كفرهم بها وإنكارهم أن تكون هناك آخرة أو بمعنى إعراضهم عن العمل للآخرة، فيكون اليأس مستعملا هنا بمعنى الإعراض.

والمقصود بالكفار هم الأحياء، وقد يئسوا من قراباتهم الذين قد ماتوا وصاروا في القبور أن يرجعوا إليهم، أو يلتقوا بهم مرة أخرى. أو أن المقصود بالكفار هم الأموات الذين دخلوا في قبورهم وعاينوا العذاب وأيقنوا بالهلاك في الآخرة وقد يئسوا من رحمة الله وعفوه في الآخرة.

فإن قلنا بتخصيص اليهود والمنافقين بالذين غضب الله عليهم، فيكون الجامع بين الطرفين هو اليقين الجازم بعدم النفع في الآخرة، وانقطاع رجائهم من رحمة الله تعالى لتكذيبهم برسالة النبي صلى الله عليه وسلم مع علمهم بصدقه وصحة نبوته، وأن يقينهم هذا كيقين الكافر الحي بعدم رجوعه ميته إليه، أو بعثه، أو كيقين الكافر الميت الذي قد عاين العذاب وأيقن في الآخرة بالهلاك بانقطاع رجائه رحمة الله له في الآخرة.

وإن قلنا بأن الذين غضب الله عليهم هم عموم الكفرة وعلى رأسهم كفار قريش، فيكون الجامع هو التكذيب بالآخرة وإنكارها كما أن الكافر الحي ينكر رجوع ميته إليه، وبالتالي ترك العمل لها والإعراض عنها.

والغرض من تشبيههم بيأس الكفار من أصحاب القبور وصفهم بكمال اليأس من   الآخرة.

***

ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون: 4]

المشبه: المنافقون. المشبه به: الخشب المسندة (الخاوية التي لا فائدة فيها). أداة التشبيه: كأن. وجه الشبه: الخواء وعدم الانتفاع.

يخاطب الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام بصفات المنافقين الحسية والمعنوية، من جمال الهيئات والمناظر، وفصاحة الألسن وحسن المنطق، مع ما تنطوي عليه قلوبهم من الرعب والخوف الشديد.

والمشبه به وهو الخشب مقيدة بوصفها مُسَنَّدة، وهذا الوصف يدل على خلوها من أي منفعة فهي ليست قائمة على أصولها، أو مثمرة، أو مرفوعة في السقوف أو غيرها من الأماكن التي ينتفع بها من الخشب، وكذلك حال المنافقين، فهم يشبهون الخشب المسندة لأنهم لا خير عندهم ولا فقه لهم ولا علم، وإنما هم صور بلا أحلام، وأشباح بلا عقول.

ووصف الاستناد يدل على أن المنافقين لا يقومون بأنفسهم وإنما يعتمدون على الآخرين، وهو معلوم من أحوالهم فكلما أرادوا نشر فتنة أو الكيد بالمسلمين لم يظهروا أنفسهم بأنهم يقولون ذلك أو يؤيدونه، ولكنهم يجعلون من أتباعهم أو من جهلة المسلمين الذين ينقلون الكلام دون تعقل أو تفهم لما يراد منه نقلة لذلك الكلام وناشرين لتلك الفتنة.

***

ومنه قوله تعالى: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} [المعارج: 43]

المشبه: إسراع الكافرين عند خروجهم من قبورهم نحو صوت الداعي. المشبه به: إسراع المشركين نحو أصنامهم للعبادة، أو إسراع المتسابقين نحو علم منصوب. أداة التشبيه: الكاف. وجه الشبه: الإسراع.

والمقصود بالنُّصُب: العَلَم، أو ما نُصِب للعبادة، ويوفضون، من الإيفاض، وهو العدو بسرعة.

يخبر سبحانه وتعالى عن المشركين أنهم يوم القيامة إذا دعاهم الرب تبارك وتعالى، لموقف الحساب يقومون من القبور، وينهضون سراعًا كأنهم إلى نصب يوفضون.

خص الخشوع بالأبصار؛ لأن الذلة والقلق إذا ملكا القلوب، واستوليا على الأفئدة، تخشع منه الأبصار، وتسكن منه الحركات، وتنقطع به الأصوات.

وهذا التشبيه يصور لنا حالة المشركين عند قيامهم من قبورهم واتجاههم نحو صوت الداعي فهم يسيرون إليه مسرعين، كحال سرعتهم عندما يتسابقون إلى علم منصوب إليه تنتهي غاية سباقهم، أو كحال سرعتهم عندما يرون أصنامهم التي نصبوها للعبادة، فيستبقون إليها أيهم يبتدرها أول. وكلتا الحالتين تستدعي أن يسرع الإنسان بأقصى قوته ليحصل له السبق.

ولما كانت هذه السرعة مقرونة بالسرور والرغبة في الدنيا، قيد أن سرعتهم يوم القيامة إلى الداعي ليست مصحوبة بالسرور والغبطة بل مصحوبة بالخشوع والذلة؛ لأنه قد بدا لهم مصيرهم البائس، واتضحت عاقبتهم المخزية، فيستولي ذلك على قلوم ويعلوا على وجوههم

تعليقات