وقد وردت صورة ضياع أعمال الكافرين في الآخرة في أربع سور من الذكر الحكيم
(آل عمران – إبراهيم – النور – الفرقان) مختلفة السياق والغرض، ولكنها متفقة في بيان الجزاء المناسب.
من التشبيهات القرآنية الخاصة بأعمال الكافرين يوم القيامة
قال تعالى في سورة آل عمران: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 116، 117].
المشبه: إبطال الكفر لما يُنْفِقون، والمشبه به: إهلاك الريح -التي فيها برد شديد –للزرع. وأداة التشبيه: (الكاف). ووجه الشبه: الضياع وعدم الانتفاع من الجهود والأموال المبذولة بعد تعلق الآمال بها. ونوع التشبيه: تمثيلي؛ لكون وجه الشبه صورة منتزعة من متعدد. وغرض التشبيه: تقبيح المشبه (أعمال الكافرين).
ذكرت هذه الآية تشبيهًا لما يتصدق به الكافر من ماله على وجه القُرْبَة إلى ربه، وهو لوحدانية الله جاحد ولمحمد صلى الله عليه وسلم مُكَذِّب.
شبهه بريح فيها برد شديد أصابت زرع قوم قد أمَّلوا إدراكه ورجوا ريعه وعائدة نفعه، ولكنهم عصوا الله وتعدوا حدوده فأهلكت الريح زرعهم، ذلك بعد الذي كانوا عليه من الأمل ورجاء عائدة نفعه عليهم، ولم ينتفعوا منه بشيء ولم يحصل لهم إلا التعب والعناء وزيادة الأسف. فكذلك هؤلاء الكفار فعل الله بنفقتهم وصدقتهم في حياتهم، وحين يلقاهم يبطل ثوابها ويخيب رجاءهم منها، عقوبةً على كفرهم.
وما ظلمهم الله؛ لأن كل ما فعله بخلقه فهو عدل منه، ولكن أنفسهم يظلمون بالكفر والعصيان، فأصحاب الزرع ظلموا أنفسهم بمنع حق الله تعالى، وكذلك الكفار أبطلوا ثواب أعمالهم بالشرك بالله تعالى، وكفروا بآيات الله وكذبوا رسوله، وحرصوا على إطفاء نور الله.
إن أموالهم وأولادهم ليست بمانعتهم من الله، ولا تصلح فدية لهم من العذاب، ولا تُنجِّيهم من النار، وكل ما أنفقوه من أموال ذاهب هالك، حتى ولو أنفقوه فيما يظنونه خيرًا، فلا خير إلا ما كان موصولا بالإيمان، ورسم القرآن في هذه الآية مشهدًا حيًّا نابضًا بالحياة، إننا نظر فإذا نحن أمام حقل قد تهيأ للإخصاب، فهو حرث، ثم إذا العاصفة تهب، إنها عاصفة ثلجية باردة مُحرقة، تحرق هذا الحرث بما فيها من صرٍّ، وهذه اللفظة نفسها كأنها مقذوف يُلقى بعنف، فيصور معناه بجرسه النفاذ، وإذا الحرث كله مُدَمَّر خراب. إنها لحظة يتم فيها الهلاك والدمار لكل شيء، وهذا مثل ما ينفقه الذين كفروا في الدنيا فكلها إلى هلاك وفناء.
***
قال تعالى في سورة إبراهيم: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ﴾ [إبراهيم: 18].
شبه الله عز وجل في هذه الآية ما يعمله الكافرون في الدنيا من أعمال البر والخير مهما جلَّ وعظم، في إحباطه وذهابه، لأنه قائم على غير أساس من الإيمان والإحسان، وكونه لغير الله وعلى غير أمره، بهذا الرماد الهش الذي لا يصمد أمام قوى الرياح العاتية العارمة فيتلاشى في جوفها الهادر.
فالمشبه (أعمال الكافرين) أمر معنوي، والمشبه به (رماد) أمر حسي. ووجه الشبه: عدم ظهور أثر الشيء ورجاء نفعه إذا بني على أساس واهٍ، وأقيم على ركن ضعيف.
والرماد: ما يتبقى من الشيء بعد احتراق أصله، كالمتبقي من الخشب أو الحطب بعد احتراقهما. والعاصف: من العصف وهو اشتداد الريح، وقوة هبوبها. وقال (في يوم عاصف) فصار اليوم نفسه عاصفًا مع أن العصف يكون للريح، لكن النظم البديع جعل العاصف صفة لليوم بطريق المجاز العقلي، من باب إطلاق الزمن على اسم ما يحلّ فيه، ليفيد شمول العصف واستغراقه اليوم كله.
والتنكير في لفظ (رماد) يفيد التقليل والتحقير من شأنه وهذا التقليل والتحقير يعود على المشبه وهو أعمال الكافرين.
وهي صورة تمثيلية تخرج ما لا تقع عليه الحاسة إلى ما تقع عليه، فقد اجتمع المشبه والمشبه به في الهلاك، وعدم الانتفاع والعجز عن الاستدراك لما فات، ومشهد الرماد تشتد به الريح في يوم عاصف مشهود معهود، يجسم به السياق معنى ضياع الأعمال سُدى، لا يقدر صاحبها على الإمساك بشيء منها، ولا الانتفاع به أصلا، يجسمه في هذا المشهد العاصف المتحرك فيبلغ في تحريك المشاعر له ما لا يبلغه التعبير الذهني المجرد عن ضياع الأعمال وذهابها بددا.
***
من شواهد التشبيهات القرآنية الخاصة بأعمال الكافرين يوم القيامة
قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ﴾ [النور: 39، 40].
المشبه: صورة أعمال غير المؤمنين من حيث إنها تظهر جميلة خيِّرة، ولكنها في الحقيقة حابطة لا ثواب فيها. والمشبه به: حال السراب (والسراب: هو ما يراه الإنسان أثناء سيره في الصحراء من لمعان الشمس وقت الظهيرة في شدة الحر فيظن أنه ماء جار)، بفلاة يظنه الظمآن ماء فيذهب إليه فلا يجده شيئًا. ووجه الشبه: صورة الشيء يخدع منظره ويسوء مَخْبَرُهُ.
ووجه التشبيه أن الذي يأتي به الكافر من أعمال البر ويعتقد أن له ثوابا عند الله تعالى وليس كذلك فاذا وافى عرصات القيامة لم يجد الثواب الذي كان يظنه بل وجد العقاب العظيم والعذاب الأليم فعظمت حسرته وتناهى غمه، فشبه حاله بحال الظمآن الذي اشتدت حاجته الى الماء فإذا شاهد السراب في البر تعلق قلبه فإذا جاءه لم يجده شيئا فكذلك حال الكافر يحسب أن عمله نافعه فإذا احتاج الى عمله لم يجده أغنى عنه شيئا.
شبه أعمال الخير والبر من الكافرين -مثل سقاية الحاج وإغاثة الملهوف وغير ذلك مما يعده الناس من أعمال البر -وظنهم أنها نافعة لهم ومنجية من عقاب الآخرة فتحبط أعمالهم، وتخيب ظنونهم، وتنقشع آمالهم بسراب يراه الظمآن في الفلاة، وهو في شدة الحاجة إليه فيحسبه ماء فيعدو نحوه، فلا يجده شيئًا، فتتحطم آماله، وتشتد حسراته، فأعمال الكفار كهذا السراب يُظن أنه الماء وليس به.
وتنكير كلمة (سراب) أفاد التقليل، لتنبئ عن أنه سراب ضئيل تافه قد تراءى في أرض مستوية ليس فيها ما يحجب الرؤية، وقد تعلق هذا الظامئ المتلهف بالأمل في الحصول على الماء. واستخدام لفظ (الظمآن) بينت أنه في حاجة شديدة إلى الماء، لذلك فهو حريص على الحصول عليه، وقلبه متعلق بذلك.
وهو تصوير مصيب لا يدركه إلا الخاصة نظرًا لخفاء وجه الشبه الذي يحتاج إلى تدبر في جزئيات الصورة المركبة، فقد نقل الصورة الخفية التي لا يُدركها العقل إلى صورة جلية يلمسها الحسُّ في تصوير عدم جدوى أعمال الكفار غير ذات الفائدة.
وبعد أن شبه أعمال الكافرين الضائعة بالسراب الذي ليس بشيء، شبه في الآية الثانية مرَّة أخرى سوء أعمالهم وحقد قلوبهم بهذه الظلمات في البحر الزاخر العميق تُغطِّيه الأمواج، ظلمة السحاب، وظلمة الأمواج، وظلمة البحر، ظلمات بعضها فوق بعض، ولشدة الظلمة لا يستطيع المرء أن يبصر يده بينها، فقلوبهم وأعمالهم بمنزلة هذه الظلمة الكثيفة، لا ينفذ منها شعاع من رحمة الله، ومن لم يرد الله أن يهديه لنوره فما له من نور.
وهذا التمثيل من قبيل تشبيه حالة معقولة بحالة محسوسة، والمشبه هنا: أعمال الكافرين السابقة، والمشبه به: هيئة الظلمات الكثيفة في البحر المتلاطم الأمواج المتداخلة في بعضها، المظللة بالسحاب. ووجه الشبه: أشياء متراكمة خلت من النفع والفائدة.
وفي التشبيه تأكيد لعدم فائدة أعمال الكفار، فليس لها نصيب من الثواب والجزاء الحسن عند الله تعالى، وفيه تقوية للمعنى في النفس، نظرًا لهيئة المشبه به الحسية التي يدل كل لفظ منها على سوء أعمال الكفار، وتخبطها في الخطأ وجسامة آثامها وقبحها، وتلاطم أمواج البحر وتخبطها في بعض، والظلمات المتعددة الأشكال والأنواع لا يجعل الإنسان يرى أملا للنجاة من هذا الكرب العظيم، فلا بصيص نور، ولا شعاع شمس يضيء تلك الظلمات المتراكمة. وهي صور حية متحركة تعبر عن تراكم الأعمال السيئة المتزايدة، وسر جمالها أنها تنبض بالحياة، فهي صالحة لكل زمان ومكان، تُعلِّم وتُفهم وتُعرِّف، باقية بقاء الدنيا.
ذكر في هذه الآية ثلاثة أنواع من الظلمات (ظلمة البحر، وظلمة الأمواج، وظلمة السحاب)، وكذلك الكافر له ظلمات ثلاث: (ظلمة الاعتقاد، وظلمة القول، وظلمة العمل).
إن هذه الصورة المكثفة إنما هي تجسيد لأعمال الكافرين، وقد تداخلت الظلمات الحسية في الصورة البحرية بالظلمات المعنوية وحُشدت فيها حشدًا، فهي مجموعة من الظلمات والأهوال تتجلَّى في البحر العميق الذي لا يُدْرَك شأوه، والموج المتلاطم الذي يغشى ذلك البحر، والسحاب القاتم الذي غَشِي الجميع، فهذه ظلمات متراكمة لا يستطيع راكب البحر معها أن يرى يده، ولو أدناها إلى بصره، فوقف حائرًا مبهوتًا.
والصورة التمثيلية هنا تصوير تشخيصي لمعنى عقلي، اتحد فيه المشبه (أعمال الكافرين) وافترق فيه المشبه به على صورتين، عطفت إحداهما على الأخرى بقصد التنويع، فالأولى تصوير لما تؤول إليه أعمالهم في الآخرة، والثانية تصوير لما تكون عليه في حال الدنيا، وبدأ بالتشبيه الأول لأنه آكد في الإخبار، لما فيه من ذكر ما يؤول إليه أمرهم من العقاب الدائم والعذاب السرمدي، ثم أتبعه بهذا التمثيل الذي نبَّههم على ما هي أعمالهم عليه لعلهم يرجعون.
***
قال تعالى: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا﴾ [الفرقان: 23].
يُصَوِّر القرآن ضياع أعمال الكافرين بحيث لا يملكون لها ردًّا بصورة الهباء المنثور، وهو: الشيء الدقيق الذي يخرج من النافذة مع ضوء الشمس شبيها بالغبار.
شبه الله عز وجل أعمالهم الصالحة في الدنيا كالإحسان إلى الفقراء، والإنفاق في وجوه الخير في عدم انتفاعهم بها يوم القيامة- بالهباء المنثور، الذي تفرق وتبدد وصار لا يرجى خير من ورائه لحقارته وتفاهته، فيُلاحَظ أنه لم يجعله (هباءً) حتى جعله (منثورًا) مفيدًا بذلك ذهاب عملهم من الأساس. فالمشبه أمر معنوي، والمشبه به أمر حسي. ووجه الشبه: قِلَّته وحقارته وأنه لا يُنْتَفع به.
ومعنى (قدمنا)، أي عمدنا وقصدنا، وفي هذه الآية تخويف وتحذير من الاغترار بالإمهال، حين أمهلم الله وجعل محاسبتهم يوم القيامة، فحالهم كحال سلطان رجع من السفر فوجد عبيده مخالفين أمرَهُ، مُفَرِّطين فيما كلَّفهم به، فاشتد غضبه ومزَّق كل ما في أيديهم وأفسده، ولك أن تتخيل قُوَّة الغضب وشدة التنكيل، من خلال إضافة القدوم إلى الضمير (نا) الذي يدل على العظمة، والذي يُوحي بتولي ذلك بنفسه دون أن يأمر جنوده بهذا العمل. ثم (من) التي تدل على شمول هذا الإفساد والتمزيق لسائر الأعمال، ثم ينتهي المشهد بتصوير تطاير هذه الأعمال وتمزيقها (فجعلناه هباء منثورا)، فهي صورة تُجَسِّد ألم الحسرة والخيبة حينما يرون أعمالهم تتطاير في هيئة ذرات صغيرة لو مدوا إليها أيديهم لا يستطيعون القبض عليها.
***
إن مميزات التشبيه القرآني في سياقات تصوير أعمال الكافرين أنه ينظر إلى الفكرة من عدة زوايا، فحينًا يكون المشبه واحدًا ويُشبه بأمرين أو أكثر لمحًا لصلة تربط بين الأمرين وما يُشبهه، تثبيتًا للفكرة في النفس، فحين ينظر إليها من ناحية أنها تغر أصحابها فيظنونها نافعة لهم حتى إذا جاءوا يوم القيامة لم يجدوا شيئا، فيُبرزها في صورة السراب الخادع، وهذا الأمل المطمع ذي النهاية المؤيسة، ثم ينظر إليها من ناحية ما يُلِمُّ بصاحبها من اضطراب وفزع عندما يجد آماله في أعماله قد انهارت، فتظلم الدنيا أمام عينه ويتزلزل كيانه الذي اكتنفه الظلام في بحر قد تلاطمت أمواجه، وأطبقت عليه ظلمة السحاب على ظلمة الأمواج، فيشعر بمصيره البائس، وهلاكه المحتوم، فيصور لك ذلك بصورة هؤلاء الكفار عندما يجيئون إلى أعمالهم فلا يجدون لها ثوابًا ولا نفعًا.
وحينما ينظر إلى أعمال الكافرين من ناحية أنها لا أثر لها ولا نتيجة، وتذهب أعمالهم فلا يرى منها شيئا بعدما تبددت أمام عينه في سرعة فائقة، فيرد الذهن حينئذ إلى هيئة هذا الرماد الذي لا يقوى على البقاء أمام ريح شديدة لا تهدأ، في يوم عاصف، فهي تبدد أي شيء أمامها ولا تبقيه.
***
إعجاز الترتيب في معنى حسرة الكافرين على ضياع أعمالهم في الآخرة:
وردت الآيات الكريم مرتبة في المصحف في أربع سور من الذكر الحكيم (آل عمران – إبراهيم – النور – الفرقان)، وعند تدبر صورة الأعمال وما تكون عليه يوم القيامة نجد إعجازًا في ترتيب الآيات، ففي سورة آل عمران نرى الأعمال حرثًا هالكًا (كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ) بسبب الريح ذات البرد الشديد، فهي صورة لأول الضياع وفيه من الحسرة ما فيه، وفي سورة إبراهيم صار الحرث بعد الحرق رمادًا اشتدت به الريح في يوم عاصف (كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ)، فهي تلي الصورة السابقة؛ لأن الرماد بعد أثر الإحراق ونتيجته، وفي سورة النور صارت الأعمال بعد كونها رمادًا تطيح به الرياح سرابًا (كَسَرَابٍ) وهي نتيجة تطويح الرياح العاصف للرماد في سورة إبراهيم، ثم صارت في سورة الفرقان هباء لا يبقى منه شيء مُشَاهَد لكونه منثورًا (هَبَاءً مَنْثُورًا)، وما من ريب في أنك تُبصِر المعنى يتصاعد من البدء إلى الانتهاء كما تجليه صورة الأعمال، وربما تتساءل لم رُتِّب المعنى هذا الترتيب؟
والجواب: أن توزيع التحسير أشد إيلامًا، فضربة واحدة لا تؤلم كضربات كثيرة، كما أن في ذلك شفاء للمؤمنين، كما أن التوزيع يحتاج إلى تدبُّرٍ أعلى، والتوزيع من آياته أيضًا الإعلان عن الترتيب المعجز للمعاني في الذكر الحكيم، الذي كان مبتداه من سورة آل عمران، ومنتهاه سورة الفرقان، وسورة آل عمران مقصودها التوحيد الذي لاح به مطلعها ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ [آل عمران: 2]. والتوحيد هو الذي تُقبل به الأعمال، وتحصل منازل الأجر والثواب، وسورة الفرقان التي جاءت للتفريق بين الملتبسات وتميز الحق من الباطل، فتدبر بدء المعنى ومنتهاه أين وقع، ليلوح لك جلال الترتيب وجمال التركيب وروعة الموقع.
(23) التشبيهات القرآنية التي تُصوِّر حال المؤمنين
(24) التشبيهات القرآنية التي تصور حال المنافقين
(25) التشبيهات القرآنية التي تصور أحوال الكافرين