التشبيه المنفي فى القرآن الكريم
التشبيه هو: إلحاق أمر بأمر في معنى بأداة، فأداة التشبيه مهمتها عقد الصلة بين طرفيه، وتنبئك بأن المشبه تربطه بالمشبه به رابطة هي الصفة المشتركة بينهما.
ولكننا نجد في بعض آيات القرآن الكريم أن هذه الأداة لا
تعقد تلك الصلة بين طرفي التشبيه، لأنه لا يكون بين الطرفين شبه ما، وقد يكونان
ضدين أو كالضدين أو غيرهما.
ويكثر هذا النوع من التشبيه، عندما يتحدث القرآن عن
الهدى والضلال، والكفر والإيمان، والطاعة والمعصية.
ويأتي التشبيه على هذه الصورة بذكر أركانه (المشبه
والمشبه به والأداة) إلا أنه يُسْبَقُ بنفي أو بنهي أو باستفهام إنكاري، ويكون
الغرض من ذلك: نفيُ التشبيه بين الطرفين الذي يُعتقد التشابُّه بينهما، فينفي أن
يكون بينهما وجه من وجوه الشبه.
***
النفي:
هو إنكار لشيء ما أو نقضه بشيءٍ آخر مخالف له، وجاءت شواهد النفي في القرآن الكريم
بـ (ليس)، وجاء أيضا بـ (لا):
1) التشبيه المسبوق بالنفي بـ (ليس):
ومنه قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا
وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا
وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾ [آل عمران: 36].
المشبه: الأنثى، والمشبه به: الذكر، وأداة التشبيه:
الكاف، ووجه الشَّبه: نفي المساواة بينهما.
ودخلت أداة التشبيه على المشبه (الأنثى) والأصل أن تدخل
على المشبه به، ودخلت هنا على المشبه لوضوح الحال، فإن الأصل (وليس الأنثى كالذكر)
وإنما عدل عن هذا الأصل؛ لأن المعنى: ليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي وهبت؛ لأن
الأنثى أفضل منه.
والمعنى: ليس الذكر الذي طَلَبْتُ كالأنثى التي وُهِبتُ،
فهذه الأنثى أفضل من الذكر، فكانت هذه المرأة مستغرقة في معرفة جلال الله، عالمة
بأن ما يفعله الرب بالعبد خير مما يريده العبد لنفسه.
وقدَّمت
(الذكر) والمقام مقام تفضيل تلك الأنثى المعهودة؛ لأنه كان هو الأهم في نفسها، وهو
المرجو المأمول فهو أسبق إلى لفظ المتكلم، ولأن النفي واقع عليه وهو المراد.
***
وتدخل
(ليس) أيضًا على جملة التشبيه دالة على عموم النفي، وذلك في قوله تعالى: ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ
إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ
مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ [الأحزاب: 32].
هذا
بيان لتفضيل نساء النبي صلى الله عليه وسلم على جميع نساء الأمة، ولكنه جاء على
طريقة الكلام هذه لنفي المساواة بينهن وبين غيرهن من غير تقليل من شأن أحد، وإنما
هو إبراز لما لهن من ميزات لأنهن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وأمهات المؤمنين،
ونظير هذا الفضل وتلك الخصوصية يُضاعف الله عز وجل العذاب لمن تُخالف وجه الحق
منهن، كما أنه يُضاعف لمن تعمل صالحًا، قال تعالى: ﴿يَا نِسَاءَ
النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا
الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا * وَمَنْ يَقْنُتْ
مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا
مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا﴾ [الأحزاب: 30، 31]. ثم
يواصل السياق تلك الخصوصيات بإبراز هذا الفضل وتوضيحه بعناصر التشبيه الواقعة بعد
النفي، والتي بُنِي عليها معنى هذا النفي ومراده.
وبناء
الكلام على نمط التشبيه يفيد بيان هذه الأفضلية ويُوضحها؛ لأن التشبيه قد يأتي قصدًا
للإبانة والتوضيح كما في هذه الآية، وبناء الكلام على عناصره هنا يُوضح مقصد نفي
المساواة فيما تفردن به.
ونلحظ
أن النفي في الآية مشروط بقوله: (إِنِ اتَّقَيْتُنَّ
فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ) أي يتحقق نفي المساواة بالتقوى، فيكون قيدًا
داخلا في إبراز الخصوصية ومتعلِّقًا بها، على معنى (لستن كأحد إن اتقيتن) فإن
الأكرم عند الله هو الأتقى، وعلى هذا فجواب الشرط محذوف دل عليه سابق الكلام. وليس
هذا القيد سوى إلهاب وتحريض على الازدياد من التقوى والمداومة عليها، لأن فعل
الشرط مستعمل في الدلالة على الدوام.
وبذلك
تكون عناصر التشبيه قد أدت عملها في بناء المعنى الواقع عليه النفي، والآية كلها
عنصر في السياق الذي يُبرز عظمة نساء النبي صلى الله عليه وسلم على نساء العالمين.
***
(20) التشبيه الضمني فى القرآن الكريم
(18) تابع التشبيه التمثيلي فى القرآن الكريم
وقد
اجتمعت (الكاف ومثل) وانصب النفي عليهما في قول الله تعالى: ﴿فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ
أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11].
هذا
السياق وما قبله يُحقق وحدانية الله عز وجل، وتفرُّده بصفات القُدرة والكمال، لا
يماثله شيء.
واختلف
العلماء في دخول (الكاف) على (مثل)، والراجح: أن لكل منهما دلالة يُحِّققها السياق
والمقام، فالكاف بعد (ليس) هنا تدل على نفي المماثلة عن ذات الله تعالى، وليست
مقحمة ولا صلة كما قال بعض المفسرين، و(مثل) هنا بمعنى (ذات).
وتتجلى
دلالة تركيب الكاف مع مثل: وهي أن الله جل شأنه مُنزَّهٌ عن الشبيه في الذات
والصفات، واجتماع الكاف ومثل في نفي المماثلة بيان لعمومها، ويؤكد ذلك أيضًا
التعبير بلفظ (شيء).
قال
الطيبي: "المراد في الآية نفي المثل على طريقة الكناية، أي: ليس شبه ذاته
المستجمعة لصفات الكمال شيء، فاستعمل (مثل) فيمن لا مثل له، كما استعمل (مثل) فيمن
له مثل، وهذه هي خاصية الكناية".
وعبَّر
بـ(مثل) لما فيها من عموم المماثلة، ولذا لم يقل: ليس كذاته، وقد تآزرت مع الكاف
في بيان هذا المعنى بدخول النفي عليها.
وقوله
سبحانه وتعالى عقب ذلك (وهو السميع البصير)، دليل واضح على أن صفات الله عز وجل
ليست كصفات خلقه، وبذلك يتضح عموم النفي وشموله للذات والصفات.
***
2) التشبيه المسبوق بالنفي بـ (لا):
ومن
التشبيه المنفي بـ (لا) قوله تعالى: ﴿هَا أَنْتُمْ
هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ
يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ
الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا
يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ [محمد: 38].
في
هذه تحذير من البخل وحضٌ على الإنفاق وعدم التولي عما أمر الله به، وفيها بيان
لقدرته عز وجل على استبدالكم بمن لا يكون هذا شأنه (ثم لا يكونوا أمثالكم)، وهذا
الجملة معطوفة على جواب الشرط (يستبدل)، وبذلك تكون (لا) نافية، وعبر بـ(مثل) هنا
على طريق الجمع لبيان التكافؤ في الذات، أي: من جنسكم، ولكنهم لا يتصفون بصفتكم،
فالتولي هو المقصود بنفي المماثلة، وهو صفة من الصفات المبغوضة، أي لا يكونوا
أمثالكم في التولي والإعراض.
وبناء
المعنى على ذلك أدق بيانًا ووضوحًا وأعظم زجرًا عن التولي، وأدفع للرغبة في
الإيمان والإقبال على الطاعة.
***
ثانيًا: التشبيه المسبوق بالنهي:
النهي:
هو طلب الكف عن فعل شيء.
ومن
شواهد التشبيه المسبوق بالنهي قوله تعالى: ﴿وَلَا
تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ
الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [آل عمران: 105].
جاءت
هذه الآية في سياق توجيه المؤمنين، وقد جاءت مسبوقة بتوجيهات سديدة تحذرهم من طاعة
أهل الكتاب، وتعتب عليهم لو فعلوه، وآيات الله تُتلى عليهم وتُرغبهم في الاعتصام
بحبل الله؛ لأنه طريق الهُدى، وتأمرهم بتقوى الله والموت على الإسلام.
وبعد
بيان هذه المعاني السامية التي سبق فيها الأمر بالاعتصام، والنهي عن التفرق، وعن
طاعة أهل الكتاب بعد ذلك، يأتي المعنى المراد من النهي بعناصر التشبيه، لما فيها
من جلاء المعنى ووضوحه وجمعه في صورة واحد بعد طول بيان عنه.
والآيات
كانت تعتب على أهل الكتاب وتلومهم على كفرهم بآيات الله وصدهم عن سبيله، وتُحذر
المؤمنين من طاعتهم، فجاء النهي في الآية للمؤمنين أن يكونوا كأهل الكتاب، فالمشبه
به وهم أهل الكتاب تحققت فيهم هذه الصفات.
***
ومنه
أيضًا قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ *
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ﴾
[الأنفال: 20، 21].
جاءت
هذه الآية في نُصح المؤمنين وأمرهم بالطاعة، ثم نهاهم عن التولي، ثم جاء النهي
مرَّة أخرى تركيزًا على صلة الموصول؛ لأنه أثبت لهم السماع قبله على الاختصاص
(وأنتم تسمعون)، ونفى هذه الصفة عن المشبه به فقال: (وهم لا يسمعون)، أي: سماعًا
يعتبرون به، فسماعهم وعدم سماعهم سواء، وأداة النهي هنا هي (لا)، وخصها لأنها أوسع
في نفي المضارع، وأدل على انتفاء السماع في المستقبل أي هم ممن لا يقبل أن يسمع.
فكما
نفى عنهم السماع بلفظ يدل على دوام ذلك واستمراره (لا يسمعون)، كذلك نهى المؤمنين
عن مماثلتهم بما يدل على ذلك أيضا (لا تكونوا)، وهو تأكيد للثبات على الحق
والمداومة على الطاعة.
والتولي
والإعراض وعدم التصديق هو الوجه الذي يُحذِّر الله عباده من أن يلتقوا فيه مع
أعدائهم.
***
ومن
شواهد التشبيه المسبوق بأسلوب النهي قوله تعالى: ﴿وَأَوْفُوا
بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ
تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ
يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ
بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ
أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ
بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾
[النحل: 91، 92].
لما
أراد الحق سبحانه وتعالى أن يُؤَدِّب عباده على الوفاء بالعهد كما أمرهم ضرب لهم
المثل حين لا يفعلون بالمرأة التي نقضت غزلها من بعد قوة وإحكام، من أهل مكة خرقاء مُتَناهية الحُمق وبها وسوسة، اسمها:
ريطة بنت عمرو كانت تفعل ذلك، إذن لو نقضوا العهد بعد إحكامه وبعد
أن جعلوا الله عليهم كفيلا، فستكون حالتهم كحال هذه المرأة، ليس في النقض بعد
الإبرام فحسب، في الخَرَقِ وسفاهة العقل أيضًا.
ولَمَّا كانت هذه المرأة معروفة عند الْمُخَاطبين -وهم
أهل مكة- وكانوا يعرفونها بوصفها، فلم يكن لها نظير في فعلها ذلك عبر عنها القرآن
الكريم بطريق الموصولية؛ لاشتهارها بمضمون الصلة.
فقوله
سبحانه وتعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ
غَزْلَهَا﴾، نهي عن مماثلة من هذا حاله جنسًا وصفة، وهذا النهي يجمع بين
الصفة ومقتضاها التي جلته الآية بقوله: (تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ
دَخَلًا بَيْنَكُمْ)، والتمثيل قائم على النهي عن تشبيه حالة بحالة.
وقصة
المشبه به في الآية تحكي حال الناقض في أخس أحواله تحذيرًا منه، وبيانًا أنه ليس
من فعل العقلاء وصاحبه داخل في عداد حمقى النساء.
ووجه الشبه النقض من بعد الإبرام، أو نقض الشيء النافع
وإفساد الصالح بعد تقويته وإحكامه، وأداة التشبيه هي الكاف، أي: لا تكونوا من جنس
مَنْ ينقض ما أبرمه وعاهده بجودة الصنع.
وبلاغة هذا التشبيه تصوير المعقول، وهو نقض العهود بعد
توكيدها بالأَيْمَان بالصورة الحيَّة المحسوسة التي يعرفونها، فهم يعرفون قِصَّة
هذه المرأة، ويضربون بها المثل في الحُمْق وذهاب العقل. إنها صورة محسوسة منفِّرة
تُعْلِي من الوفاء بالعهد، وتُنفِّر أشد التنفير من نقضه، وجاء التنفير بعد النهي
ليكون أدعى إلى الاستجابة.
***
ثالثا: شواهد النفي بهمزة الاستفهام:
ومنه
قوله تعالى: ﴿أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ
بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾
[آل عمران: 162].
في
الآية نفي للمساواة بين من اتبع رضوان الله ومن استحق عقابه فباء بسخطه، ولا يمنع
أن تكون هذه الآية من نفي تشبيه الأعلى بالأدنى، وجاء بطريق الإنكار زجرًا
وتوبيخًا وحثًّا على اتِّباع رضوان الله، وقدَّمه وحقُّه أن يكون مشبهًا به؛ لبيان
منزلته، ولأن الحديث من قبل يستدعي ذلك، وتقدم بيان شأنهم فيه من الإرشاد والتحذير
وبيان الابتلاء.
والمراد
فيه هذه الآية ومن على شاكلتها نفي التشابه، ومجيء النفي بالهمزة له دلالة لا
تتجلي في النفي الصريح وهو الإنكار والتوبيخ والتقريع.
وكثير من شواهد التشبيه المسبوق بهمزة الإنكار ذكرها العلماء في باب التشبيه المقلوب؛ لأنه فيه تشبيه الأعلى بالأدنى.
***