المجاز العقلي علاقاته وبلاغته وقرينته وأقسامه من حيث طرفيه والفرق بينه وبين اللغوي
تعريف المجاز العقلي:
المجاز العقلي: هو إسناد
الفعل أو ما في معناه إلى مُلَابِسٍ له غير ما هو له بتأوُّل.
***
شرح تعريف المجاز العقلي:
قوله: "إلى مُلَابس
له" يُشِيرُ إلى أنه لا بد في هذا المجاز من علاقة كسائر المجازات، وهذه
العلاقة هي المُلابسة والارتباط بين الفعل وفاعله المجازي، أو بين الفاعل الحقيقي
والفاعل المجازي على رأي آخر.
***
ملابسات الفعل لفاعله المجازي:
مُلابسة الفعل لفاعله
المجازي من جهة وقوعه عليه، أو فيه، أو بسببه وما شابه ذلك؛ أما الفاعل المجازي
فهو يلابس الفاعل الحقيقي من حيث تعلق وجود الفعل بكل منهما، والإسناد هنا إلى غير
ما هو له؛ أي: إلى غير ما حقُّه أن يُسْنَد إليه، وبذلك تَخرج الحقيقة العقلية؛
وهذا هو أساس الفرق بين الحقيقة العقلية والمجاز العقلي.
***
قرينة المجاز العقلي
لا بد للمجاز العقلي من
قرينة تكون صارفة عن إرادة ظاهر الإسناد، وقد أشار إليها الخطيب القزويني في
التعريف بقوله: "بتأول"؛ لأن التأويل هو صرف اللفظ عن ظاهره إلى غيره،
وبدون القرينة يبقى الإسناد على ظاهره فيكون من قبيل الحقيقة.
ففي قول المؤمن: أنبت
الربيع البقل، أسند الإنباتَ إلى الربيع، وفاعلُ الإنبات الحقيقي هو الله -سبحانه
وتعالى- والربيعُ زمن للفعل؛ ففي إسناد الإنبات للربيع إسناد إلى غير ما هو له،
فهو مجاز عقلي علاقته الزمانية، والقرينة التي تصرف عن إرادة ظاهر الإسناد هي حالُ
المتكلم نفسه.
وفي قول الملحد: أنبت
الربيعُ البقلَ، أسند الفعل إلى الربيع، وهو يعتقد أن الربيع هو الفاعل الحقيقي
وهو غير متأول، وعلى ذلك يكون الإسناد على حقيقته؛ فاشتراط التأول في الإسناد
المجازي يُخرج نحو قول الدهريين: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ}؛ لأن إسناد
الفعل يهلك يُوَافِقُ اعتقادهم، فلا تأويل فيه فهو حقيقة عقلية عند هؤلاء
الملحدين، كما يخرج الأقوال الكاذبة أيضًا إذ لا تأوّل فيها؛ أي: لا قرينة؛ لأن
الكاذب لا ينصب قرينة صارفة عن إرادة الظاهر من الكلام.
وعلى ذلك فالمجاز العقلي
لا بد له من علاقة مُصَحِّحة للإسناد وهي ما تُسَمَّى ملابسة، ولا بد له من قرينة
صارفة عن إرادة الإسناد الحقيقي شأنُه في ذلك شأن غيره من المجازات، فالعلاقة هي
التي تصحح الإسناد، إذ لا يصح أن نسند الفعل إلى فاعل لا تربطه بالفعل صلة ولا
تجمعه به علاقة.
والقرينة هي التي تدل على
مراد المتكلم، وبدونها يصبح الكلام إلغازًا، ويبقى المعنى في بطن الشاعر كما
يقولون؛ إذ لا دليل يفصح عن المراد من حقيقة أو مجاز.
***
علاقات المجاز العقلي
للمجاز العقلي بحسب ما
أسند إليه الفعل أو معناه مجازًا علاقات كثيرة، وهي:
1– علاقة المفعولية:
وذلك بإسناد الفعل المبني
للفاعل إلى المفعول به مثل قولك: رضيت عيشة فلان، فقد أسند الرضا في هذا المثال
إلى المفعول؛ لأن العيشة في الحقيقة والواقع مرضية لا راضية، ولو رجعنا بهذا
الإسناد إلى حقيقته لقلنا: رضي فلان عيشته.
ومن هذا القبيل قوله
تعالى: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [الحاقة: 21] حيث أَسند ما في معنى الفعل
وهو {رَاضِيَةٍ} إلى مفعوله وهو الضمير العائد إلى عيشة، وأصل هذا الإسناد عيشة
راض صاحبها، فالإسناد في الآية الكريمة مجازي وهو يفيد المبالغة في الرضا؛ فكأن
الرضا قد تجاوز صاحب العيشة إلى العيشة نفس ها، فالعيشة ليست مرضية فقط وإنما هي
راضية أيضًا، وإذا علِمنا أن المقصود بالعيشة هنا النعيم الذي يحظَى به أهل الجنة
ويتقلبون في أعطافه ويسعدون بجواره، فإن وصفها بالرضا يعني أنها دائمة لا تنقطع،
ما دام ثواب الرضا يشمل الطرفين، وتمام النعمة في دوامها وبقائها.
ومن هذا النحو أيضًا قوله
تعالى: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق: 6] فقد أسند: {دَافِقٍ} إلى ضمير
الماء؛ أي: أسنده إلى المفعول؛ لأن الماء مدفوق لا دافق فهو مجاز عقلي، وأصل
الإسناد ماء دافق صاحبه، ولكن المجاز أبلغ من الحقيقة هنا لما فيه من المبالغة في
الدفق، وكأن الماء لسرعة اندفاعه دافق يدفع بعضه بعضًا؛ فالعلاقة هنا هي
المفعولية. ومنه قول الشاعر:
دع المكارم لا ترحل
لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
فقد أسند اسم الفاعل
الطاعم الكاسي إلى ضمير المفعول، والشاعر يريد أن يقول له: إنك لست أهلًا لنيل
المعالي فلا تجهد نفسك في طلبها، فإن منزلتك دون ذلك، فأنت المطعوم المكسو، فوضع
اسم الفاعل موضع اسم المفعول على سبيل التجوز في الإسناد، والدليل على ذلك أن
الشاعر يهجو المخاطب ولا يعقل أن يقول له: لا ترحل لطلب المكارم، ثم يقول له: إنك
تطعم غيره وتكسوه، وإنما أراد أن يقول لمخاطبه اقعد عالة على غيرك مطعومًا
مكسوًّا.
***
2- علاقة الفاعلية:
وتكون بإسناد الفعل
المبني للمفعول أو معناه إلى الفاعل مثل قولهم: سيل مفعم، بصيغة اسم المفعول؛ أي:
مملوء، مسندًا إلى ضمير السيل الذي هو الفاعل، وحق اسم المفعول أن يسند إلى
المفعول الذي صار نائب فاعل وهو المكان؛ إذ من المعروف أن السيل هو الذي يفعم
المكان؛ أي: يملؤه فالسيل مفعم بكسر العين والمكان مفعم بفتحها، ولكنهم تجاوزوا في
الإسناد حيث أسندوا اسم المفعول إلى ضمير السيل الذي هو الفاعل، فهو مجاز عقلي
علاقته الفاعلية.
ومنه قوله تعالى:
{إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا} [مريم: 61] فقوله: {مَأْتِيًّا} اسم مفعول
مسند إلى ضمير الوعد الذي هو فاعل في الحقيقة والواقع؛ لأن الوعد يأتي ولا يؤتَى،
وحقيقة الإسناد مأتيًا صاحبه؛ أي: يأتيه الوعد.
ومنه أيضًا قوله تعالى:
{وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا
يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} [الإسراء: 45] فقد أسند اسم
المفعول: {مَسْتُورًا} إلى ضمير الفاعل وهو الحجاب، والمعروف أن الحجاب ساتر لا
مستور، فهو الفاعل الحقيقي للمسند، ولذلك سميت هذه العلاقة بالفاعلية.
***
3- علاقة المصدرية:
وتتحقق بإسناد الفعل إلى
مصدره كقولهم: فلان جد جده، فالفعل جد قد أسند إلى مصدره، وحقه أن يسند إلى الفاعل
فيقال: جد فلان جد، ففاعل الجد هو الشخص الذي يجِد في عمله، ومن ذلك قول أبي فراس
الحمداني:
سيذكرني قومي إذا جد جدهم
... وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
وأصل الإسناد هنا: إذا
جدوا جدهم، فالفاعل الحقيقي هو الضمير العائد على قوم أبي فراس، ولكن الشاعر عدَل
عن هذا الأصل للمبالغة، فأسند الفعل جد إلى مصدره، والعلاقة هي المصدرية، أما
القرينة التي ترشد إلى هذا التجوز وتدل على أن الكلام مصروف عن ظاهره، فهي استحالة
صدور الفعل جد من الجد، ومنه قولهم أيضًا: شعر شاعر، وهو مجاز عقلي علاقته
المصدرية وقرينته استحالة صدور الفعل من مصدره، فالكلام مبناه على التأول.
ومن ذلك أيضًا قولنا:
الله جل جلاله وعظمت عظمته، فقد أسند الفعل إلى مصدره وكان حقه أن يسند إلى فاعله
الحقيقي وهو الله -جل وعلا- فيقال: جل الله جلاله وعظم عظمته، ثم عدل عن هذا
الأصل؛ للمبالغة في وصفه تعالى بالجلال والعظمة.
***
4- علاقة الزمانية:
وتكون بإسناد الفعل إلى
زمانه الذي وقع فيه كما في قولك: صام نهاره وقام ليله، وقولهم: نهاره صائم وليله
قائم؛ فالنهار لا يصوم والليل لا يقوم، إنما الذي يفعل ذلك حقيقةً هو العابد، إذ
يصوم في نهاره ويقوم في ليله، فإسناد الصيام والقيام إلى النهار والليل هو من قبيل
إسناد الفعل إلى زمانه الذي وقع فيه.
ومنه قول جرير:
لقد لمتنا يا أم غيلان في
السرى ... ونمت وما ليل المطي بنائم
حيث أسند الوصف نائم إلى
الضمير العائد على الليل مع أن الليل لا ينام، إنما هو ظرف زمان يقع فيه النوم،
وقد أسند ما هو في معنى الفعل إلى زمانه مجازًا عقليًا علاقته الزمان، ومنه قولهم:
يوم مشرق ونهار عاصف، وقد أسند الإشراق والعصف إلى اليوم والنهار، وحقهما أن
يسندَا إلى الفاعل الحقيقي بكل منهما، وأصل الإسناد: يوم مشرقة شمسه فيه، ونهار
عاصفة ريحه فيه، فأسند الحدث إلى زمانه على سبيل المبالغة.
ومنه قوله تعالى: {فَكَيْفَ
تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} [المزمل: 17]
حيث أسند شيب الولدان إلى اليوم، واليوم لا يجعل الوليد يشيب، وإنما يجعل الولدان
شيبا هو الله -سبحانه وتعالى- في هذا اليوم، فالإسناد في الآية الكريمة مجازي؛ لأن
الفعل لم يسند إلى فاعله الحقيقي وهو الله، بينما أسند إلى الزمن الذي يقع فيه،
فهو مجاز عقلي علاقته الزمان.
***
5- علاقة المكانية:
ويتحقق بإسناد الفعل أو
معناه إلى مكان مثل قولهم: سار الطريق، وجرى النهر، فالطريق لا يسير والنهر لا
يجري، وإنما يسير الناس ويجري الماء، والطريق مكان السير والنهر بمعنى الشق في
الأرض هو مكان جريان الماء، فأسند الفعل في المثالين إلى مكانه على سبيل المبالغة،
وعليه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ
جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [البروج: 11]. وما أكثر ما تكرر
هذا في القرآن الكريم، فهو مجاز عقلي علاقته المكانية، ومنه قولهم: سال الوادي؛
أي: سال الماء فيه.
***
6- علاقة السببية:
وتتحقق بإسناد الفعل إلى
سببه سواء أكان السبب الآمر أو السبب المؤثر أو السبب الغائي كما في قولهم: بنَى
الأمير المدينة، وأصل الإسناد: بنى العمال المدينة بأمر الأمير، فأسند الفعل إلى
سببه الآمر.
وقد يسند الفعل إلى السبب
المؤثر كما في قول عمر بن أبي ربيعة:
أبَى لي عرض أن أضام
وصارم ... حسام وعز من حديث وأول
مقيم بإذن الله ليس ببارح
... مكان الثريا قاهر كل منزل
وأصل الإسناد: أبت لي نفس
أن أضام بسبب عرضي وبسبب صارمي الحسام، وعِزي الحديث، والأول المقيم في مكان
الثريا، فحوَّل الإسناد إلى السبب -كما ترى- في البيت الأول وهو سبب مؤثر؛ أي:
دافع ومحرك للنفس وحافز لها كي ترفض الذل وتأبى الضيم ولا ترضى بالهوان، فالشاعر
هنا قد نظر إلى ماضيه وحاضره فوجد أنه أرفع مقامًا وأعلى شأنًا وأكرم نفسًا من أن
يلحقه أذى أو يقع به ضيم أو هوان، وهو يملك القدرة على دفع الضيم ورد الأذى عن نفسه
وعشيرته، ولا يخفَى عليك أن الإسناد إلى السبب فيه قدر من المبالغة التي يقتضيها
المقام، فالإسناد المجازي هنا أبلغ من الأسلوب الحقيقي؛ لمطابقته لمقتضى الحديث.
وقد يسند الفعل إلى السبب
الغائب؛ أي غايته كقوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم: 41] وأصله:
يوم يقوم الناس لأجل الحساب؛ فأسند الفعل: {يَقُومُ} إلى غايته: {الْحِسَابُ} على
سبيل التجوز، وفي ذلك ما فيه من الإيجاز والمبالغة.
وهذا النوع من المجاز القائم
على إسناد الفعل إلى سببه كثير الوقوع في القرآن الكريم، فمنه قوله تعالى في وصف
الشجرة الطيبة: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم: 25]
وقوله سبحانه في شأن الآيات: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ
إِيمَانًا} [الأنفال: 2] وقوله: {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} [الزلزلة:
2] وقوله عن الرياح: {حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ
لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ
الثَّمَرَاتِ} [الأعراف: 57].
وقد أثبت الفعل في جميع
ذلك لما لا يثبت له فعل إذا رجعنا إلى المعقول على معنى السبب، وإلا فمعلوم أن
النخلة ليست تحدث الآكل، ولا الآيات تولد العلم في قلب السامع لها، ولا الأرض تخرج
الكامن من بطنها من الأثقال، ولكن إذا حدثت فيها الحركة بقدرة الله ظهر ما كنز
فيها وأُودِع جوفها، وكذلك الرياح لا تقل السحاب على الحقيقة؛ لإثبات الفعل لغيره
القادر لا يصح في منطق العقل إلا إذا كان هذا الإثبات على سبيل التأول وعلى العرف
الجاري بين الناس في أن يجعلوا الشيء إذا كان سببًا أو كالسبب في وجود الفعل من
فاعله كأنه فاعل، فيسند الفعل إليه على هذا التأويل، كذا أفاده الشيخ عبد القاهر
في أسرار البلاغة.
ومن السببية قوله تعالى:
{إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ
طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} [القصص:
4] فقد نسب الفعل: {يُذَبِّحُ} إلى: {فِرْعَوْنَ} لكونه الآمر به، كذلك قوله:
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا
قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [إبراهيم: 28] والحقيقة أن الله سبحانه هو الذي
أحلهم دار البوار، وإنما نسب فعل الله إلى أكابرهم؛ لأن سببه كفرهم، وسبب كفرهم
أمرُ أكابِرهم إياهم بالكفر، وإن شئت فتأمل قوله تعالى: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ
الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}
[فصلت: 23] وقوله تعالى في شأن إبليس اللعين: {يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا
لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا} [الأعراف: 27] وقد أسند الفعل في الأول إلى الظن؛
لأنه سببه كما نسب النزع في الثانية إلى إبليس وهو فعل الله تعالى في الحقيقة؛
وذلك لأن سببه هو الأكل من الشجرة، وسبب أكلها وسوسته ومقاسمته إياهما إنه لهما
لمن الناصحين، كذا ذكره الخطيب القزويني في الإيضاح.
ولا يخفَى عليك فهم
المجاز في قوله تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}
[الذاريات: 55] وفي قوله: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا
تَعْدِلُوا} [المائدة: 8] وغير ذلك من أساليب المجاز الواردة في كتاب الله تعالى
على اختلاف الصور والعلاقات، فهذا النوع من المجاز شائع في القرآن الكريم، وهو من
أسرار بلاغته وروعة نظمه وكمال إعجازه.
***
بلاغة المجاز العقلي
المجاز العقلي والتوسع في اللغة:
المجاز العقلي طريق من
طرق التوسع في اللغة، وفن من فنون البلاغة، له شأن رفيع ومنزلة عظيمة، ولذلك اهتم
به البلاغيون وعلى رأسهم الإمام عبد القاهر الجرجاني، فقد درس المجاز العقلي في
كتابيه أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز، وبيَّن الفرق بين المجازين اللغوي والعقلي،
ويكفي أن أنقل قوله في الإشادة بالمجاز العقلي والتنويه بشأنه، حين قال في الدلائل
ص 295: "وهذا الضرب من المجاز كنز من كنوز البلاغة، ومادة الشاعر المفلق
والكاتب البليغ في الإبداع والإحسان والاتساع في طريق البيان، وأن يجيء بالكلام
مطبوعًا مصنوعًا وأن يضعه بعيد المرام قريبًا من الأفهام".
***
المجاز العقلي يفيد إثارة الخيال:
تكمن روعة المجاز العقلي
في أن المتكلم بهذا الأسلوب يعدل عن الإسناد الحقيقي، وينسب الفعل إلى غير ما هو
له، فيخيل إليك أن الفعل وقع من غير فاعله أو على غير مفعوله، وفي هذا التخييل
متعة نفسية لا يفطن إليها ولا يُدْرِكُ سحرها إلا صاحب الذوق البياني الرفيع، حيث
يُعِينُه الذوق على إدراك الفروق بين الأساليب المختلفة حقيقةً ومجازًا، وإن شئتَ
فقارن بين قولك: صام فلان نهاره وقام ليله، وجرى الماء في النهر، وصار الناس في
الطريق؛ يعني: على الحقيقة، وبين قولك على المجاز: صام نهاره وقام ليله، وجرى
النهر، وسار الطريق، على المجاز، فستجد في الثاني روعة وطرافة في التعبير لا تجدها
في الأول. وهذا أثر من آثار المجاز العقلي في التخييل.
***
المجاز العقلي يفيد المبالغة في التعبير:
والتخييل الذي يحدثه
المجاز العقلي يؤدي إلى المبالغة في إثبات الفعل لفاعله بطريق مؤكد، ففي قولك: أذل
الحرص أعناق الرجال، جعلت الحرص فاعلًا للإذلال، وأصله: أذل الله أعناق الرجال
بسبب الحرص، فبلغت في تأكيد المعنى حين أسندت الفعل إلى سببه، وهذا أبلغ في ذم
الحرص من أسلوب الحقيقة.
وفي قولك: جرى النهر،
مبالغة في كثرة الفعل وطغيانه، فقد جعلت النهر بضفافه ومائه وكل ما يحتويه يجري،
مع أن الجريان للماء فقط، وإذا صح أن يقع الفعل من الفاعل المجازي وهو فرع فإن
حدوثه من الأصل الذي هو الفاعل الحقيقي آكد فالمجاز العقلي إثبات للحكم بالدليل،
وأنت تعرف أن الدعوة المشفوعة بالبينة آكد وأقوى من دعوى لا تؤيدها بينة ولا
يؤازرها دليل.
***
المجاز العقلي يفيد إيجاز القول:
هذا بالإضافة إلى ما في
المجاز العقلي من الإيجاز الذي هو فن من فنون البلاغة، ولا شك أن قولك: صام نهاره
أوجز وأبلغ من قولك: صام فلان في نهاره، وقولك: بنى الأمير المدينة أوجز وآكد في
إثبات المعنى من قولك: بنى العمال المدينة بأمر الأمير، وقولك: سال الوادي أكثر
إيجازًا وأرقى بلاغةً من قولك: سال الماء في الوادي؛ لما في المجاز من الإيجاز
والمبالغة والتخييل.
***
نخلص من هذا إلى أن بلاغة
المجاز العقلي تكمن فيما يفيده من المبالغة في التعبير، وإيجاز القول، وإثارة
الخيال، عندما يسند الفعل إلى غير فاعله الحقيقي، كما ترجع بلاغة المجاز العقلي
إلى أنه يفتح أمام المتكلم الميدان للتفنن في القول، وتلوين العبارة، وإخضاع
الكلام لما يريد، وتشكيل البناء حسب ما يهدف إليه ويرمي، فهو يلجأ إليه لنفي تهمة
أو لتخلص من جريمة، أو لتحقيق مقصد من المقاصد، حيث يجد في إسناد الفعل إلى غير
فاعله الحقيقي مَيْدانًا رحبًا لتحقيق هذه المقاصد.
ويتضح لك هذا من خلال
تأملك لشواهد الإمام عبد القاهر وأمثلته. انظر إلى قوله -تبارك وتعالى-:
{وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} [الزلزلة: 2] تجد أن الفعل قد أسند إلى
مكانه، وفي هذا الإسناد تخييل مُحرِّك ومُثِير، إذ يصور لنا الأرض فاعلةً جاهدةً
تخرج أثقالها تقذف بنفسها ما بداخلها، فلا تُبقي في باطنها شيئًا.
وتأمل معي الشواهد الذي
أسند فيها الفعل إلى سببه أو إلى زمانه أو إلى مكانه، نحو: بنى الأمير، ونهاره
صائم، وليله قائم، وطريق سائر، ولاحظ ما فيها من الإيجاز وتقليل الألفاظ، وفضلًا
عما ذكرناه من إفادة الإيجاز، تجد التجوزَ في تلك الأمثلة قد أفاد المبالغة في
وقوع هذه الأفعال؛ لشدة اهتمام الأمير بالبناء، وتأكيد كمال الصوم وتمام القيام،
وسرعة السير في الطريق، وكثيرًا ما يلجأ المتكلم إلى المجاز العقلي لتحقيق مقصد من
المقاصد كما ذكرنا، فننظر مثلًا في ذلك إلى قولهم: فلان قتله جهله، وقضى عليه
غروره، فهم يريدون بهذا تبرئة القاتل من جريمة قتله ونفي التهمة عمن قضى على غيره؛
وذلك بإسناد القتل إلى جهل المقتول وقضى إلى غرور المقضي عليه وتكبره وعجرفته، فقد
وجدوا في المجاز العقلي تحقيقًا لهذا المقصد.
هذا؛ والمتكلم يحتاج في
استخدامه لهذا المجاز أن يهيئ العبارة له، فليس كل شيء كما يقول عبد القاهر يصلح
لأن يُتعاطَى فيه هذا المجاز، بل تجدك في كثير من الأمر وأنت تحتاج إلى أن تهيئ
الكلام وتصلحه لذلك بشيء تتوخاه في النظم، وكلما هيأ المتكلم العبارة لهذا المجاز،
وجدته قد سارع أوقع في النفس وألطف وآكد وأبلغ.
وفي استطاعتك أن تتبع هذا
الأسلوب في صوره المختلفة وعلاقاته المتعددة، وتوازن بين حقيقة الإسناد ومجازه في
كل منها؛ لتقف على أسرار بلاغة المجاز العقلي من خلال شواهده في القرآن ومأثور
كلام العرب شعرًا ونثرًا.
***
قرينة المجاز العقلي
الذي يتبادر إلى الذهن
عند إلقاء الكلام هو إرادة الحقيقة، والذي يريد بكلامه المجاز لا بد أن ينصب
قرينةً تدل على عدم إرادة الظاهر من الإسناد أو غيره؛ فالمجاز العقلي يحتاج إلى
قرينة صارفة عن إرادة الإسناد الحقيقي، وبدون هذه القرينة يصبح الكلام إلغازًا
وتعميةً، فلا يتضح المراد منه.
***
أنواع قرينة المجاز العقلي:
وهذه القرينة نوعان؛
قرينة لفظية، وقرينة معنوية:
***
القرينة اللفظية:
أما القرينة اللفظية: فهي
أن يكون في الكلام لفظ يصرفه عن ظاهره كما في قول السلطان العبدي ينصح ابنه عمرًا:
أشاب الصغير وأفنى الكبير
... كَر الغداة ومر العشي
نروح ونغدو لحاجاتنا ...
وحاجة من عاش لا تنقضي
تموت مع المرء حاجاته ...
وتبقي له حاجة ما بقي
ألم ترَ لقمان أوصى ابنه
... وأوصيت عمرًا ونعم الوصي
فمِلتنا أننا مسلمون ...
على دين صديقنا والنبي
فقد أسند الفعلين
"أشاب وأفنى" إلى "كر الغداة ومر العشي"، كما ترى في البيت
الأول، ولكن لا مانع من إرادة الحقيقة؛ لجواز أن يكون اعتقاده كذلك وإن خالف
الواقع، فإذا وصلنا إلى البيت الأخير فإننا نجد القرينة التي تدلُّ على مراد
الشاعر وذلك في قوله: "فمِلتنا أننا مسلمون"، فقد أفصح عن دينه وأن ملته
هي الإسلام؛ أي: أنها قرينة لفظية تدل على أن الشاعر لم ينسب الفعل إلى الزمن على
الحقيقة، وإنما كان متجوِّزًا في الإسناد، وهو يعتقد أن الفعل لله وحده، وأن الذي
يشيب ويفني هو الله جلت قدرته.
وعلى ذلك يكون الإسناد في
البيت الأول من إسناد الفعل إلى زمانه، فهو مجاز عقلي علاقته الزمانية، والقرينة
لفظية في البيت الأخير.
وتقول أنت: شيبت رأسي
الهموم والأحزانُ، ولكن الله يفعل ما يشاء، وتقول فيه ما قيل في سابقه، وتأمل مع
قول أبي النجم:
قد أصبحت أم الخيار تدعي
... عليَّ ذنبًا كله لم أصنع
من أن رأت رأسي كرأس
الأصلع ... ميز عن قنزعًا عن قنزع
جذب الليالي أبطئي أو
أسرعي ... ................................
وقد أسند الفعل إلى
الليالي التي تتوالى ويتبع بعضها بعضًا، لكن هذا الإسناد يحتمل الحقيقة كما يحتمل
المجاز في بادئ الأمر، فلما قال الشاعر بعد ذلك:
أفناه قيل الله للشمس
اطلعي ... حتى إذا واراك أفق فارجعي
أفصح عن مراده، وأنه بنى
كلامه على التأوّل، فهو مجاز عقلي من إسناد الفعل إلى زمانه، والقرينة لفظية كما
ترى في البيت الأخير.
***
القرينة المعنوية:
النوع الثاني من القرينة
هي القرينة المعنوية: وذلك بأن يكون مع الإسناد أمر معنوي يصرفه عن ظاهره وهي أحد
أمور ثلاثة:
أ- استحالة قيام المسند
بالمسند إليه عقلًا مثل: محبتك جاءت بي إليك، فمن الواضح استحالة صدور الفعل وهو
المجيء من الفاعل المجازي وهو المحبة، بل هي سبب له فقط. ومن ذلك أيضًا قولك: طريق
سائر ونهر جار، فالسير والجري من الحركات التي لا تكون في مثل الطريق والنهر، فلا
بد من حمل الكلام على التجوز في الإسناد.
ب- استحالة قيام المسند
بالمسند إليه عادةً كقولك: بنَى عمرو بن العاص مدينةَ الفسطاط، فإن العادة هي التي
تمنع صدور الفعل وهو البناء من الأمير وإن كان ذلك ممكنًا من جهة العقل، إذ العقل
يجوز أن يبني الأمير بنفسه؛ فالاستحالة هنا من جهة العادة والعرف.
ج- صدور الكلام من
الموحد، وذلك كما في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم: "وإن مما ينبت الربيع
ما يقتل حبَطًا أو يلم" حبطًا يعني: انتفاخًا، يلم يعني: يقارب، فهذا الكلام
صادر من سيد الموحدين - صلى الله عليه وسلم- وصدوره منه قرينة على أنه لا يريد
بإسناد الإنبات إلى الربيع ظاهره، والذي يتبادر إلى الذهن لأول وهلة، وإنما هو
إسناد مجازي من إسناد الفعل إلى زمانه، والفاعل الحقيقي للإنبات هو الله -سبحانه
وتعالى- فعقيدة المسلم التي تنسب الأفعال إلى الله وحده قرينةٌ على المجاز في مثل
هذا، ولذلك إذا كان المتكلم من الدهريين الذين يعتقدون بتأثير الدهر ويقولون كما
يحكي القرآن عنهم: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24] فإن كلامه
يكون من قبيل الحقيقة العقلية حيث لا قرينةَ تصرفه عن ظاهره.
وقد تحدث الإمام عبد
القاهر عن قرينة المجاز العقلي ودورها في منع اللبس وتحديد مراد المتكلم، وكان
كلامه في هذا الموضع مادة لمن جاء بعده من المتأخرين.
***
الفرق بين المجاز اللغوي والمجاز العقلي
ينقسم المجاز إلى قسمين؛
مجاز لغوي ومجاز عقلي.
التجوز في المجاز اللغوي:
التجوز في المجاز اللغوي
واقع في اللفظ المفرد مثل قولك: "رأيتُ الأسدَ يخطبُ" وتعني بذلك رجلًا
شجاعًا، فقد استعمل اللفظ المفرد "أسدًا" في غير معناه الوضعي لعلاقة
المشابهة مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقي.
وكقولك: "رعينا
الغيثَ" بمعنى النبات المسبب عنه، فاستعمال الغيث في النبات هو من قبيل
استعمال اللفظ في غير ما وُضع له لعلاقة السببية مع قرينة مانعة من إرادة الحقيقة،
وهو نوع آخر من المجاز اللغوي مجاز مرسل.
فالتجوز هنا واقع في اللفظ
المفرد، وطريق التجوز هو اللغة، سواء كان لاستعارة كما في المثال الأول لعلاقة
المشابهة، أو في المجاز المرسل المثال الثاني لعلاقة السببية.
***
التجوز في المجاز العقلي:
أما المجاز العقلي
فالتجوز فيه واقع في الإسناد أمَّا طرفي الإسناد فلا دخل لهما في الحُكْمِ على
الجملة بالمجاز العقلي وعدمه؛ ففي قولنا مثلًا: أنبت الربيع البقل، نلاحظ أن
التجوز في إسناد الإنبات إلى الربيع وهو زمانه، أما الطرفان أنبت والربيع وهما
المسند والمسند إليه، فكل منهما مستعمل في معناه الحقيقي، فالمجاز العقلي واقع في
الإسناد، ولما كان الإسناد أمرًا عقليًّا يرجع إلى قصد المتكلم الذي ينظم الكلام
دون رجوع إلى اللغة في ذلك، فقد سمي هذا المجاز المجاز العقلي.
***
والفرق بين المجاز اللغوي والمجاز العقلي يتلخَّص فيما يلي:
1- المجاز اللغوي في اللفظ
أما المجاز العقلي ففي الإسناد والتركيب.
2- المجاز اللغوي طريقه
اللغة كما هو الحال في الحقيقة اللغوية، أما المجاز العقلي فطريقه العقل كما هو
الشأن في الحقيقة العقلية.
***
ومما تجدر الإشارة إليه
في هذا المقام أن التفريق بين المجازين اللغوي والعقلي من آثار الإمام عبد القاهر
فقد عقد في (أسرار البلاغة) فصلًا قسم فيه المجاز إلى قسمين، وعرف كلًّا منهما،
وأنفق جهدًا عظيمًا في بيان الفرق بين النوعين.
كما أضاف الإمام عبد
القاهر قاعدةً يمكن التفريق بها بين النوعين، وذلك بالرجوع إلى الحقيقة في هذا
المجاز وذاك؛ لنعرف طريقها من اللغة أو العقل، فالمجاز في حقيقة اللغة هو فرع
عنها، فما كان طريقًا في أحدهما من لغة أو عقل فهو طريق في الآخر، والحقيقة
اللغوية طريقها اللغة كما نرى في الأسد حين نستعمله في الحيوان المفترس، وعلى ذلك
فالمجاز اللغوي طريقه اللغة أيضًا حين إطلاق الأسد على الشجاع الذي يشبهه،
والحقيقة العقلية طريقها العقل؛ لإثبات الفعل أو معنى إلى ما هو له مثل: أنبت الله
البقل، وكذلك هو طريق المجاز فيه نحو: أنبت الربيع البقل.
***
أقسام المجاز العقلي من حيث طرفيه
ينقسم المجاز العقلي من
حيث طرفيه وهما المسند والمسند إليه أربعة أقسام:
الأول: أن يكون طرفاه حقيقتين لغويتين:
كقولك: أنبت الربيعُ
البقلَ، فالتجوز هنا في إسناد الإنبات إلى الربيع الذي هو زمانه، أما طرفا الإسناد
وهما الفعل أنبت وفاعله المجازي الربيع، فكل منهما مستعمل في معناه الحقيقي الذي
وضع له في اللغة، فيكون كل من الطرفين حقيقة لغوية، وقِس على ذلك قوله: صام نهاره
وجرى النهر وسار الطريق، فكل من الطرفين مستعمل فيما وضع له في اللغة والتجوز في
إسناد الفعل إلى غير ما حقه أن يسند إليه، وعليه قول الشاعر:
أشاب الصغير وأفنى الكبير
... كر الغداة ومر العشي
فكل من طرفي الإسناد
مستعمل في حقيقته وهو حقيقة لغوية، والتجوز في إسناد الفعل "أشاب" إلى
الزمان كر الغداة ومر العشي كما سبق أن أوضحناه من قبل.
***
الثاني: أن يكونا مجازين لغويين:
وبذلك يكون المجاز في
الإسناد وفي طرفيه معًا وإن اختلف طريق المجاز، فهو في الإسناد عقلي وفي طرفيه
لغوي، خذ مثلًا قولك: أحيا الأرض شباب الزمان، فطرفا المجاز هنا هما أحيا وشباب
الزمان، وكل منهما مستعمل في غير معناه الوضعي، فالمسند أحيا معناه الحقيقي إيجاد
الحياة، والمقصود منه هنا إحداث خضرة الأرض ونضارتها، فالعلاقة بين المعنيين هي
المشابهة، ذلك أنك تجعل خضرة الأرض ونضارتها وبهجتها بالنبات والأزهار التي يهبها
الله تعالى للطبيعة حياةً لها؛ أي: أنك جعلت ما ليس بحياة حياةً على التشبيه، وفي
الفعل أحيا استعارة تبعية، فهو مجاز لغوي، والمسند إليه أشاب له معنى حقيقي، فهو
مرحلة من مراحل العمر وطور من أطواره والمقصود منه هنا الربيع؛ أي: أن لفظ شباب
الزمان مستعمل في غير ما وضع له لعلاقة المشابهة أيضًا، معنى المعنيين الحقيقي
والمجازي، فكل منهما يمثل مرحلة ازدهار وابتهاج فهو مجاز لغوي أيضًا، فالطرفان إذن
مجازان لغويان، وأما إسناد الفعل إلى شباب الزمان فهو مجاز عقلي علاقته الزمانية
أو السببية.
***
الثالث: أن يكون المسند مجازًا لغويًّا والمسند إليه حقيقة:
مثال ذلك: "أحيا
الأرض الربيع"، فالمسند "أحيا" مجاز لغوي والمسند إليه وهو الربيع
مستعمل في معناه الحقيقي فهو حقيقة لغوية، ومن هذا النوع قول المتنبي يصف ممدوحه
بالشجاعة والكرم:
وتحيي له المال الصوارم والقَنا
... ويقتل ما تحيي التبسم والجِدا
فقد جعل الشاعر الزيادة
والوفور حياةً في المال كما جعل تفريقه في العطاء قتلًا، ثم أثبت الحياة فعلًا
للصواري، والقتل فعلًا للتبسم، مع أن العلم بأن الفعل لا يصح منهما.
ومنه قولهم: أهل النار
الدينار والدرهم، فإسناد أهلك إلى الدينار والدرهم مجاز عقلي علاقته السببية، ولفظ
أهلك المسند ليس حقيقة بل مجاز عن الفتنة؛ إذ الإهلاك مسبب عن الفتنة فهو مجاز
مرسل علاقته المسببية، وقد أسند إلى الدينار والدرهم إسنادًا مجازيًّا، ف التجوز واقع
في الإسناد وفي المسند، في الإسناد مجاز عقلي وفي المسند مجاز لغوي.
انظر إلى قول الله تعالى:
{رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} [مريم: 4]
تجد أن الآية أسند ت: {اشْتَعَلَ} إلى: {الرَّأْس} إسنادًا مجازيًّا؛ لعلاقة
المكانية، إذ الرأس مكان للاشتعال، والذي يفعل الاشتعال حقيقة إنما هو الشعر، ولفظ
المسند: {اشْتَعَلَ} مجاز لغوي؛ إذ المراد به ظهور شيب الرأس، فاستعير الاشتعال
للظهور، وتفيد هذه الاستعارة عموم الشيء وإحاطته بجميع الرأس، كما تفيد المفاجأة
في ظهور الشيء، فهو اشتعال وليس ظهورًا، وتفيد أيضًا حب زكريا -عليه السلام- لهذا
الشيء حيث أحس به إحساسًا مشرقًا مضيئًا، الذين يصورون ظهور الشيب بالرأس تصويرًا
حزينًا مؤلمًا، إذ يكون سببًا في فراق الأحبة وابتعادهن.
انظر مثلًا إلى قول
القائل:
لا تعجبي يا سلم من رجل
... ضحك المشيب برأسه فبكَى
وإلى قول الآخر:
له منظر في العين أبيض
ناصع ... ولكنه في القلب أسود أسفع
والأسفع: الأبيض الناصع
شديد البياض، والأسود الأسفع: هو الأسود المائل إلى حمرة، وقد استعير الأسود
الأسفع لما يحدثه الشيب من الهم والحزن، فإنك تجد أنهم يشعرون بالشيب شعورًا
حزينًا كئيبًا؛ لأنه يؤذن بتولي الشباب ويعلن عن فراق الحبيبات.
ونعود إلى المجاز العقلي
لننظر في شواهد هذه الصورة التي وقع التجوز فيها في المسند وفي الإسناد، نجد منها
قولهم: سال بهم الواد، حيث استعير السيلان للسيل، ثم اشتق منه سال بمعنى سار على
سبيل الاستعارة التبعية، وأسند سال إلى الوادي إسنادًا مجازيًّا لعلاقة المكان،
ويفيد هذا التجوز المبالغة في سرعة سير القوم، وكأن المكان قد فاض بهم ودفع، ومثله
قول الشاعر:
فقدنا بأطراف الأحاديث
بيننا ... وسالت بأعناق المطي الأباطح
وقول الآخر:
سالت عليه شعاب الحي حين
دَعا ... أنصاره ب وجوه كالدنانير
ففي إسناد السيلان إلى
الأباطح وإلى شعاب الحي مجاز عقلي علاقته المكانية، والمسند سال مجاز لغوي حيث
استعير السيلان بالسيل، ولا يخفى عليك بلاغة المجاز في البيتين، وقد أبرز شدة ان
دفاع المطي في الأباطح وسرعة اندفاع الأنصار إلى الداعي، وكأن الشعاب قد فاضت بهم
ودفعتهم إليه، وكأن الأباطح هي التي تسيل وتمضي إلى الإبل، وما من شك في أن المجاز
اللغوي قد ساهم في تحقيق هذه المبالغة بنصيب وافر.
***
الرابع: أن يكون المسند حقيقةً والمسند إليه مجازًا لغويًّا:
مثال ذلك: "أنبت
البقلَ شبابُ الزمان"، فالإنبات مستعمل في معناه الحقيقي وشباب الزمان مجاز
لغوي عن الربيع.
***