التشبيه المرسل في القرآن الكريم
تعريف التشبيه المرسل:
هو التشبيه الذي ذُكرت
فيه أداة التشبيه، إذ يُعد المشبه والمشبه به ركنين أساسيين في التشبيه، ويُمكن أن
يُحذف وجه الشبه أو أداة التشبيه، فإذا ثُبتت أداة التشبيه سُمي هذا التشبيه بالتشبيه
المرسل، فأداة التشبيه هي أداة الربط بين المشبه والمشبه به، وقد سُمي هذا التشبيه
بالمرسل لإرساله عن التأكيد، أيّ ذُكر بلا تكلف فظهرت الأداة.
شواهد التشبيه المرسل في القرآن الكريم:
ومن شواهد التشبيه المرسل
في القرآن الكريم قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ
خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59].
المشبه: خَلْق عيسى عليه
السلام، والمشبه به: خَلْق آدم عليه السلام، أداة التشبيه هنا الكاف. و (مَثَل)
هنا بمعنى صفة. ووجه الشبه: خلقهما الله عز وجل من تراب – أصلاً – ومن غير أب، ثم
قال لكل منهما: كن فكان، وهو خَلْقٌ خارج عن العادة. وغرض التشبيه: بيان إمكان
المشبه.
فإن قيل: كيف شبه به وقد
وجد هو من غير أب، ووجد آدم من غير أب وأم؟
قيل: هو مثيله في إحدى
الطرفين، فلا يمنع اختصاصه دونه بالطرف الآخر من تشبيهه به؛ لأن المماثلة مشاركة
في بعض الأوصاف.
ولأنه شُبِّه به في أنه
وُجِد وجودًا خارجًا عن العادة المستمرة وهما في ذلك نظيران.
ولأن الوجود من غير أب
وأم أغرب وأخرق للعادة من الوجود بغير أب؛ فشُبِّه الغريب بالأغرب؛ ليكون أقطع
للخصم وأحسم لمادة شُبْهَته إذا نظر فيما هو أغرب مما استغربه؛ لأن المشبه به
ينبغي أن يكون أقوى حالاً من المشبه في وجه الشبه.
فلهذا شبهه الله بخلق آدم
الذي هو أعجب من خلق المسيح. فإذا كان سبحانه قادرًا على أن يخلقه من تراب،
والتراب ليس من جنس بدن الإنسان، أفلا يقدر على أن يخلقه من امرأة، هي من جنس بدن
الإنسان؟!
فالذي خلق آدم من غير أب
قادر على أن يخلق عيسى بطريق الأولى والأحرى، وإن صح ادعاء البنوة والإلهية في
المسيح فادعاؤها في آدم من باب أولى وأحرى، ومعلوم بالاتفاق أن ذلك باطل فدعواه في
عيسى أشد بطلانًا وأظهر فسادًا.
***
ومنه قوله تعالى: {يُجَادِلُونَكَ
فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ
يَنْظُرُونَ} [الأنفال: 6].
المشبه: مجادلة الصحابة
رضوان الله عليهم في الحق، وهو القتال. المشبه به: حال مَن يُساق إلى الموت وهو
ينظر. أداة التشبيه: كأنّ. وجه الشبه: الخوف والفزع، نتيجة السَّوْقِ بالقوة إلى
القتل، مع مُشَاهَدة أسباب القتل.
وسبب مجادلة الصحابة:
أنهم حين توجَّه بهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى بدر للقاء المشركين، فقالوا لم
نخرج للقاء العدو وإنما خرجنا لأخذ العير، وما كـانت هذه المرتبـة من الخوف
والجزع، إلا لقلة عددهم، وعدم تأهبهم.
وهذا التشبيه يُبين لنا
حال النفس البشرية أمام الخطر المباشر، مما يجعلنا لا نغفل طاقة النفس البشرية
وذبذباتها عند المواجهة.
***
ومنه قوله تعالى:
{وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا
وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا
أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ
النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [يونس: 27].
المشبه: وجوه الكفار وما
يعلوها من الذلة والمهانة. المشبه به: قطع الليل المظلم حالكة السواد. أداة
التشبيه: كأن. وجه الشبه: سواد الظلام الحالك في الليل وكذلك في ظلمات المعاصي
والكفر.
صوَّر الحق سبحانه وتعالى
في هذا التشبيه صورة كاملة الوضوح للظلام الحسي والنفسي الذي يغشي تلك الوجوه
الكافرة والتي باءت بالكرة الخاسرة، الوجوه التي ركبتها الذِّلة من كل مكان وأحاطت
بها.
صوَّر التشبيه الليل
الحالك وكأنه قد قُطِّع إلى قطع فُرِّقت ثم أُلقيت على وجوه القوم، إنها ساحة رعب
يلفها الظلام وتملأها الرهبة إذا نظرت فيها رأيت وجوه القوم الحائرة الحاسرة وقد
ألبست بظلام من ذلك الليل البهيم.
***
ومنه قوله تعالى: {يَوْمَ
نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ
نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 104]
المشبه: طي السماء.
المشبه به: طي السجل للكتب. أداة التشبيه: الكاف. وجه الشبه: اللف وجمع الطرفين.
صور الله عز وجل لنا صورة
تقريبية لكيفية طيه سبحانه للسماء يوم القيامة فشبه ذلك بكيفية طي صاحب الصحف
لأوراقه بجمع أطرافها بعضها إلى بعض. والحقيقة المهمة التي ينبغي أن تعلم من هذا
التشبيه ومن غيره من التشبيهات القرآنية الكريمة أنها كلها لتقريب الصورة لذهن
السامع وذلك بتشبيه بعض الأمور الغيبية العظيمة التي لم يرها الإنسان، أو لا يستطيع
عقله القاصر أن يدرك كنهها ببعض الأمور المحسوسة المعروفة لديه وإلا فهو تشبيه مع
الفارق. والطي الوارد هنا يشبه طي الأوراق كما أخبر الله عنه وهو أمر دال على
قدرته سبحانه وتعالى.
***
ومنه قوله تعالى: {وَمِنَ
النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ
فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ
لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي
صُدُورِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت: 10].
المشبه: فتنة الناس.
المشبه به: عذاب الله. أداة التشبيه: الكاف. وجه الشبه: الخوف.
يكشف هذا التشبيه عن حال
أولئك المنافقين الذين آمنوا بألسنتهم ولم يدخل الإيمان في قلوبهم فهم يترقبون
متربصين، ينتظرون ماذا تخبئ لهم الأيام من أخبار وما قد يتعرضون له من أخطار، فإذا
ما تعرضوا لأذى من المشركين أو أصابتهم مصيبة، فتنتهم عن دينهم، فأنهم سرعان ما
ينكصون على أعقابهم ويتخلون عن إسلامهم، ويتنصلون من مبادئهم، فيداهنون الكافرين
ليظفروا بعرضٍ من الدنيا قليل فباعوا دينهم واشتروا دنياهم، باعوا جنة عرضها
السماوات والأرض واشتروا السلامة في الدنيا، فقدموا منهج السلامة على سلامة
المنهج.
***
ومنه قوله تعالى:
{يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ
كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ
عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]
المشبه: الجفان (وهي:
القصاع التي يُجتمع عليها للأكل منها). المشبه به: الجوابي (وهي: الحياض التي يجمع
فيها الماء). أداة التشبيه: الكاف. وجه الشبه: العظم والضخامة.
والغرض من هذا التشبيه
هو: بيان نعمته العظيمة التي أعطاها لسليمان عليه السلام وهي تسخير الجن له للعمل
بين يديه بما يشاء، حيث كان الجن يعملون له هذه القصاع على هذا المقدار من العظمة
لتسع العدد الكثير.
***
ومنه قوله تعالى: {وَلَا
تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:
34]
المشبه: الذي بينك وبينه
عداوة بعد أن تحسن إليه. والمشبه به: الولي الحميم. وأداة التشبيه: كأن. ووجه
الشبه: المحبة والمصافاة.
والغرض من التشبيه:
الترغيب في مقابلة السيئة بالحسنة، وبيان لأثرها، والوجه محصور في المحبة
والمصافاة، والمودة والمؤاخاة؛ إذ لا ينقلب من كان عدوا ليس له قرابة بوجه ما، أن
يكون ممن تربطك به قرابة بل المعنى أنه ينقلب في تصرفاته وأفعاله فتكون أفعاله
كأفعال القريب الشفيق.
ولما كان الناس في
قرابتهم مختلفون قربا وبعدا، ومحبة وموالاة، كان انقلاب أفعال من كانت بينك وبينه
عداوة مختلفة من حيث الأثر المترتب على كبر العداوة، ونوع الإحسان المبذول إليه.
ويؤكد هذا جعل الحميم
القريب مشبها به، للدلالة على أن الوجه فيه أقوى ممن
انقلبت عداوته إلى
موالاة، وبغضه إلى حب.
ومجيء التشبيه بأداته
(كأن) الدالة على تأكيد المعنى، للدلالة على أن الإحسان إلى مَنْ كان بينك وبينه
عداوة له أثر مباشر في تقليل عداوته، وانقلابها إلى حسن تعامل.
***
ومنه قوله تعالى: {إِنَّ
شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ
* كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} [الدخان: 43 - 46].
في هذه الآيات تشبيهان:
التشبيه الأول: المشبه:
طعام الأثيم وهو ثمر شجرة الزقوم عند أكله. المشبه به: المهل. أداة التشبيه:
الكاف. وجه الشبه: الاسوداد وما ينشأ عنه من بشاعة الطعم، والألم والغصص الحاصلة
بشربه.
أما التشبيه الثاني:
المشبه: طعام الأثيم وهو ثمر شجرة الزقوم بعد أكله. المشبه به: غلي الحميم. أداة
التشبيه: الكاف. وجه الشبه: الحرارة والألم والفساد الحاصل بأكله.
المشبه في التشبيهين
واحد، وشُبِّه بشيئين مختلفين باعتبار حالين:
ففي التشبيه الأول نجد
أنه شبه بالمهل وذلك من جهة الاسوداد، وما ينتج عن ذلك من بشاعة الطعم والغصص
والألم الحاصل به.
وفي التشبيه الثاني: نجد
أنه شبه بغلي الحميم وذلك بعد أكله؛ فهو يعقب حرارة وغليانا شديدين في البطون كما
يغلي الماء الحميم الذي اشتد غليانه وانتهت حرارته، فيجدون ألمه بعد أكله ويُحدث
من الضرر والفساد في البطن ما يحدثه الماء الحميم.
ولما كان المقصود من
الطعام في الدنيا الانتفاع به ولو كان غير مستساغ الطعم والمذاق، نبه سبحانه على
أن طعام الأثيم لا يحصل به ذلك، وكذلك لما كان تشبيه الطعام بالمهل لا يراد منه أن
العذاب به أي بالطعام ينتهي بانتهاء أكله كما تنتهي بشاعة طعم المهل والغصص
والآلام الحاصلة بشربه، ذكر سبحانه التشبيه الثاني ليدل على استمرار العذاب بهذا
الطعام حتى بعد أكله.
وشجرة الزقوم بشع المنظر
والطعم فمنظره كرؤوس الشياطين، وطعمه كالمهل، وهو يغلي في البطون، فيحصل العذاب به
من عدة جهات: المنظر وحين الأكل وبعده.
***
قوله تعالى: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ
النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ
تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 2]
المشبه: جهر الصحابة رضي
الله عنهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم. المشبه به: جهر بعضهم لبعض. أداة
التشبيه: الكاف. وجه الشبه: الجهر.
وهذا التشبيه يحمل معنى
عاليًا في الأدب وحُسْن التعامل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، احترامًا لجناب
النبوة والرسالة التي اختاره الله تعالى لها.
ومخاطبة الناس بعضهم لبعض
قد يقع فيها شيء من الجهر، أو الاسترسال في المزاح، وعدم مراعاة حدود الأدب على
الوجه الأكمل، لاستوائهم في المنزلة، أو لسقوط التكلف بينهم لقرابة أو صداقة، ويدل
على ذلك جعل جهر بعضهم لبعض مشبها به، فوجه الشبه في المشبه به يجب أن يكون أظهر
وأكثر، والواقع شاهد على ذلك أيضًا.
ومثل هذا لا يليق في
مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلأجل ذلك وقع النهي عن الْمُشَابَهة.
***
ومنه قوله تعالى:
{فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا
يَسْتَعْجِلُونِ} [الذاريات: 59].
المشبه: نصيب كفار مكة
وغيرهم ممن كفر بالله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام من العذاب. المشبه به:
نصيب الأمم السابقة التي كفرت بالله تعالى ورسله عليهم السلام من العذاب. أداة
التشبيه: مثل.
وجه الشبه: استحقاق
العذاب ونزوله بهم وإن تأخر إلى يوم القيامة.
وهذه الآية فيها وعيد
صريح للكفار من أهل مكة، وغيرهم من الكفار الذين كذبوا الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأصل الذَّنوب في اللغة:
الدلو العظيمة المملوءة ماء، ثم استعمل في الحظ والنصيب.
ومعنى الكلام: فإن للذين
ظلموا من عذاب الله نصيبا وحظا نازلا م، مثل نصيب أصحابهم
الذين مضوا من قبلهم من الأمم، على منهاجهم من العذاب.
وهذا التشبيه يدل على
اشتراك الطرفين في الظلم، فقيده بالإضافة إلى أصحابهم، واسم الصحبة يتضمن الاشتراك
في وصف ما، يدل عليه وصف المشبه بالذين ظلموا، فهم اشتركوا في الظلم، الذي هو
الشرك بالله تعالى؛ فحلت بهم عاقبته من عذاب الله تعالى، وقد أثبتت آيات القرآن
الكريم تعرض الرسل لتكذيب أقوامهم حتى حلت بهم عقوبة الله تعالى.
***
ومنه قوله تعالى: {خَلَقَ
الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} [الرحمن: 14]
المشبه: الصلصال الذي خلق
منه الإنسان. المشبه به: الفخار. أداة التشبيه: الكاف. وجه الشبه: الجودة.
يخبر تعالى عن عظيم منته
على عباده، وعظيم قدرته، أنه خلق الإنسان، وهو آدم عليه السلام؛ لأنه أصل البشر،
وهم فروعه، من صلصال، والصلصال: هو الطين اليابس الذي لم يُطْبَخ، فإنه من يُبْسِه
له صلصلة إذا حرك ونقر كالفخار، يعني أنه من يُبْسِه وإن لم يكن مطبوخا، يكون
كالذي قد طُبِخ بالنار، فهو يصلصل كما يُصَلصل الفخار.
والطين الذي خلق منه آدم
لم يشو بالنار حتى يكون فخارا، ولكنه لطيب أصله وجودته كان كالفخار المشوي بالنار.
وهذا التشبيه مسوق لبيان
فضل أصل الإنسان، على أصل الجان، ليعلم العباد فضل أصلهم فيشكرون ربهم، فأصل
الإنسان الطين الذي هو محل الرزانة والمنافع، والثبات، وأصل الجان النار التي هي
محل الخفة والطيش، والإحراق.
ولَمَّا كان الفخار
يُعْلَم جودته وحُسْن صُنْعه من الصوت الذي يُصْدِرُه إذا نُقِر، فكذلك الإنسان
الذي هو من الصلصال، يُعْلَم حُسْنُ خلقه، ورجاحة عقله من منطقه حين يتكلم.
***
ومنه قوله تعالى: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ
الْقُبُورِ} [الممتحنة: 13]
المشبه: يأس الذين غضب
الله عليهم من الآخرة. المشبه به: يأس الكفار من أصحاب القبور. أداة التشبيه:
الكاف. وجه الشبه: كمال اليأس.
ذكر الواحدي في أسباب
النزول: أن هذه الآية نزلت في ناس من فقراء المسلمين يعملون عند اليهود ويواصلونهم
ليصيبوا بذلك من ثمارهم، وربما أخبروا اليهود بأحوال المسلمين عن غفلة وقلة حذر
فنبههم الله إلى أن لا يتولوهم، فنهاهم الله عن ذلك لئلا يوافقوهم على شرهم وكفرهم
فيحرموا خير الآخرة كما حرم أولئك.
ويأسهم من الآخرة، هو يأس
سائر الكفرة منها هو كفرهم بها وإنكارهم أن تكون هناك آخرة أو بمعنى إعراضهم عن
العمل للآخرة، فيكون اليأس مستعملا هنا بمعنى الإعراض.
والمقصود بالكفار هم
الأحياء، وقد يئسوا من قراباتهم الذين قد ماتوا وصاروا في القبور أن يرجعوا إليهم،
أو يلتقوا بهم مرة أخرى. أو أن المقصود بالكفار هم الأموات الذين دخلوا في قبورهم
وعاينوا العذاب وأيقنوا بالهلاك في الآخرة وقد يئسوا من رحمة الله وعفوه في
الآخرة.
فإن قلنا بتخصيص اليهود
والمنافقين بالذين غضب الله عليهم، فيكون الجامع بين الطرفين هو اليقين الجازم
بعدم النفع في الآخرة، وانقطاع رجائهم من رحمة الله تعالى لتكذيبهم برسالة النبي
صلى الله عليه وسلم مع علمهم بصدقه وصحة نبوته، وأن يقينهم هذا كيقين الكافر الحي
بعدم رجوعه ميته إليه، أو بعثه، أو كيقين الكافر الميت الذي قد عاين العذاب وأيقن
في الآخرة بالهلاك بانقطاع رجائه رحمة الله له في الآخرة.
وإن قلنا بأن الذين غضب
الله عليهم هم عموم الكفرة وعلى رأسهم كفار قريش، فيكون الجامع هو التكذيب بالآخرة
وإنكارها كما أن الكافر الحي ينكر رجوع ميته إليه، وبالتالي ترك العمل لها
والإعراض عنها.
والغرض من تشبيههم بيأس
الكفار من أصحاب القبور وصفهم بكمال اليأس من
الآخرة.
***
ومنه قوله تعالى:
{وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ
لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ
عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}
[المنافقون: 4]
المشبه: المنافقون.
المشبه به: الخشب المسندة (الخاوية التي لا فائدة فيها). أداة التشبيه: كأن. وجه
الشبه: الخواء وعدم الانتفاع.
يخاطب الله تعالى نبيه
عليه الصلاة والسلام بصفات المنافقين الحسية والمعنوية، من جمال الهيئات والمناظر،
وفصاحة الألسن وحسن المنطق، مع ما تنطوي عليه قلوبهم من الرعب والخوف الشديد.
والمشبه به وهو الخشب
مقيدة بوصفها مُسَنَّدة، وهذا الوصف يدل على خلوها من أي منفعة فهي ليست قائمة على
أصولها، أو مثمرة، أو مرفوعة في السقوف أو غيرها من الأماكن التي ينتفع بها من
الخشب، وكذلك حال المنافقين، فهم يشبهون الخشب المسندة لأنهم لا خير عندهم ولا فقه
لهم ولا علم، وإنما هم صور بلا أحلام، وأشباح بلا عقول.
ووصف الاستناد يدل على أن
المنافقين لا يقومون بأنفسهم وإنما يعتمدون على الآخرين، وهو معلوم من أحوالهم
فكلما أرادوا نشر فتنة أو الكيد بالمسلمين لم يظهروا أنفسهم بأنهم يقولون ذلك أو
يؤيدونه، ولكنهم يجعلون من أتباعهم أو من جهلة المسلمين الذين ينقلون الكلام دون
تعقل أو تفهم لما يراد منه نقلة لذلك الكلام وناشرين لتلك الفتنة.
***
ومنه قوله تعالى: {يَوْمَ
يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ}
[المعارج: 43]
المشبه: إسراع الكافرين
عند خروجهم من قبورهم نحو صوت الداعي. المشبه به: إسراع المشركين نحو أصنامهم
للعبادة، أو إسراع المتسابقين نحو علم منصوب. أداة التشبيه: الكاف. وجه الشبه:
الإسراع.
والمقصود بالنُّصُب: العَلَم،
أو ما نُصِب للعبادة، ويوفضون، من الإيفاض، وهو العدو بسرعة.
يخبر سبحانه وتعالى عن
المشركين أنهم يوم القيامة إذا دعاهم الرب تبارك وتعالى، لموقف الحساب يقومون من
القبور، وينهضون سراعًا كأنهم إلى نصب يوفضون.
خص الخشوع بالأبصار؛ لأن
الذلة والقلق إذا ملكا القلوب، واستوليا على الأفئدة، تخشع منه الأبصار، وتسكن منه
الحركات، وتنقطع به الأصوات.
وهذا التشبيه يصور لنا
حالة المشركين عند قيامهم من قبورهم واتجاههم نحو صوت الداعي فهم يسيرون إليه
مسرعين، كحال سرعتهم عندما يتسابقون إلى علم منصوب إليه تنتهي غاية سباقهم، أو
كحال سرعتهم عندما يرون أصنامهم التي نصبوها للعبادة، فيستبقون إليها أيهم يبتدرها
أول. وكلتا الحالتين تستدعي أن يسرع الإنسان بأقصى قوته ليحصل له السبق.
ولما كانت هذه السرعة
مقرونة بالسرور والرغبة في الدنيا، قيد أن سرعتهم يوم القيامة إلى الداعي ليست مصحوبة
بالسرور والغبطة بل مصحوبة بالخشوع والذلة؛ لأنه قد بدا لهم مصيرهم البائس، واتضحت
عاقبتهم المخزية، فيستولي ذلك على قلوبهم ويعلوا على وجوههم
***
مقالات مرتبطة
التشبيه التمثيلي فى القرآن الكريم
المجاز في القرآن الكريم والسنة النبوية بين الإجازة والمنع
بلاغة أسلوب القسم في القرآن الكريم