الألفاظ الغريبة في القرآن الكريم


ذكر علماء البلاغة أنَّ غرابة الاستعمال من عيوب فصاحة اللفظ المفرد، ويعنون به: أن تكون الكلمة وحشِيَّة لا يظهر معناها وغير مأنوسة الاستعمال، وتحتاج في معرفة معناها إلى أن تُنْظَر في كتب اللغة الواسعة.

والذوق العربي لا يحِبُّ الإغراب في الكلمات، ويكرهُ التباصر بالغريب والتشادق به، ويجعلونه دليل قَسَاوَة الطبع، وتشيع في كلامهم هذه المعاني كما في قولهم: الاستعانة بالغريب عجز، والتشادق في غير أهل البادية نقص، وقولهم: البليغ من يجتني من الألفاظ نوارها.

وقد ناقش هذا الأصل الذي ذكره علماء البلاغة –وهو أن غرابة الاستعمال من عيوب فصاحة اللفظ المفرد- بعض الدارسين ورفضوه، وذكروا أن الغرابةَ لا تُخِلُّ بفصاحة الكلام، واستشهدوا بأن القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف مشتمل على ألفاظ غريبة، وأن العلماء صنَّفوا كتبًا جمعوا فيها غريب القرآن وغريب الحديث، وأطلقوا عليها هذا الاسم، فكيف يشتمل القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف على ألفاظ غريبة الاستعمال تخلُّ بفصاحة اللفظ؟!

والحقُّ أن رفض هؤلاء جعل غرابة الاستعمال عيب من عيوب فصاحة اللفظ المفرد واستدلالهم بالكُتب التي تناولت غريب القرآن وغريب الحديث خلاف للصواب؛ لأن الغرابة التي ينبو عنها حُسْن البيان والتي جعلها علماء البلاغة عيبًا من عيوب فصاحة اللفظ المفرد ليست هي الغرابة التي تجدها في بعض ألفاظ القرآن الكريم وبعض ألفاظ الحديث النبوي الشريف، كما سنبين ذلك إن شاء الله تعالى.

فالقرآن الكريم هو المعجزة الخالدة إلى يوم الدين، فهو كلام الله المنزل على عبده ورسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي استطاع أن يقهر العرب؛ إِذْ تحدّاهم بما عندهم من الفنون والعلوم، كالبلاغة والتعبير شعرًا ونثرًا، ، ورغم نزوله على مبادئهم وقوانينهم، بل تجاوز ما عندهم، وجاء باستعمالات لم تعهدها بيئتهم من قبل؛ ليقفوا أمامه موقف المستسلم، وقد كان هذا الأخير -استعمالات القرآن- من العوامل الدافعة للاشتغال على الغريب القرآني، فلم فلم يَسَعْهم بعد ذلك إلا الانكباب عليه، فصار القرآن محطة اهتمام المفسِّرين، ومحورًا أساسيًّا للدارسين، قاصدين من ذلك بيان معاني مفرداته وألفاظه في مدونات مختلفة.

وعلى نفس المنوال، بل وزاد الاهتمام بالغريب القرآني بعد اتساع رقعة الإسلام ودخول العجم فيه، حيث كان هذا الأمر من العوامل التي أسهمت أيضًا في بروز الغريب القرآني، حيث كانت تخفى جُلُّ معاني القرآني على هؤلاء العجم، وكيف لا يقع هذا الأمر، وقد خفيت بعض دلالات الخطاب القرآني على جلَّة الصحابة -رضي الله عنهم- كما خفيت أيضًا على كبار العلماء، فأمرٌ مسلَّم به أن تخفى على حديثي الإسلام من العجم. 

ولذلك أوردَ العديد من الكُتّاب في شأن الغريب القرآني، أنّ من مقاصد مؤلّفاتهم بيان المعاني وتقريبها للعجم، وهذا ينفي بيان معاني مفردات القرآني لغيرهم، حيث كان هذا الأمر عاملًا أساسيًّا في بروز قضايا الغريب القرآني، بل وزاد الاهتمام به مع مرور الزمن وتنوّعت الكتابات فيه بين مطولة ومختصرة؛ مما أنتج رصيدًا مهمًّا في التأليف حول الغريب القرآني، وهذه الكتابات لم تكن سببًا في التوهّم بوجود الغريب القرآني، لكن هذه التصانيف فرضت نفسها بقوّة الواقعية لها، واستباقًا وتداركًا لما قد يشوب فهم معاني الألفاظ القرآنية من بُعْدٍ عن المقصود، ومن جهة أخرى، فإنّ الواقع أعظم الشهود، فرغم كلّ هذه الكتابات والاهتمامات المتنوعة بالغريب القرآني نرى بُعد الفهم وتسيّب التوظيف لدى الناس.

وأما مقياس غرابة الاستعمال فينبغي ألا يؤخذ على إطلاقه، بل لا بد أن يُقيَّد بإطار المدة الزمنية التي استُعْمِلَت فيها الكلمة؛ لأن اللغة تتطور من عصر إلى عصر، كما يتطور المتحدثون بها جيلًا بعد جيل، وقد تبدو الكلمة غريبة بالنسبة لنا في هذا العصر، لكنها ليست كذلك حين توضع في إطارها التاريخي. وقد تنبه لذلك المتأخرون من شراح (تلخيص المفتاح) حيث نصوا على أن الحكم على الكلمة بالغرابة حين تكون غير مأنوسة الاستعمال إنما هو في عرف الأعراب الخُلَّص؛ وذلك لأن العبرة بعدم ظهور المعنى وعدم مأنوسية الاستعمال بالنسبة للعرب العرباء، سكان البادية لا بالنسبة للمولدين وإلا خرج كثير من قصائد العرب بل جلها عن الفصاحة، فإنها الآن لغلبة الجهل باللغة على أكثر علماء هذه الأزمان فضلًا عمن عداهم لا يعرفون مفرداتها فضلًا عن مركباتها.

ولو نظرنا إلى الغرابة بالنسبة إلى استعمال الناس الذين لا يتمتعون بالحس اللغوي الشائع لدى العرب الخلص لكان جميع ما كتب من الغريب غير الفصيح، والقطع بخلافه، ولعلنا نقرأ في الشعر الجاهلي، وفي القرآن الكريم كثيرًا من الكلمات التي تحتاج لفهم معناها إلى البحث عنه في كتب اللغة، وهي مع ذلك فصيحة، لم يقل أحد بغرابتها؛ لأنها كانت كذلك في عصرها السالف، ولذلك ذهب ابن يعقوب المغربي إلى أن الحكم على الكلمة بالغرابة أمر نسبي، والكلمة حينئذ غير مخلة بالفصاحة بالنسبة إلى العرب الخلص؛ لأنها عندهم ظاهرة المعنى. ومنها غريب القرآن والحديث، فغرابتهما مستحسنة؛ لعدم إخلالهما بالفصاحة، فيكون ذلك باعتبار قوم وهم المُوَلَّدُون دون قوم، وهم الخلص.

ولو نظرنا إلى الغرابة بالنسبة إلى استعمال الناس الذين لا يتمتعون بالحس اللغوي الشائع لدى العرب الخلص لكان جميع ما كُتِب من الغريب غير الفصيح، والقطع بخلافه، ولعلنا نقرأ في الشعر الجاهلي، وفي القرآن الكريم كثيرًا من الكلمات التي تحتاج لفهم معناها إلى البحث عنه في كتب اللغة، وهي مع ذلك فصيحة، لم يقل أحد بغرابتها؛ لأنها كانت كذلك في عصرها السالف، ولذلك ذهب ابن يعقوب المغربي إلى أن الحكم على الكلمة بالغرابة أمر نسبي، والكلمة حينئذ غير مخلة بالفصاحة بالنسبة إلى العرب الخلص؛ لأنها عندهم ظاهرة المعنى. ومنها غريب القرآن والحديث، فغرابتهما مستحسنة؛ لعدم إخلالهما بالفصاحة، فيكون ذلك باعتبار قوم وهم المُوَلَّدُون دون قوم، وهم الخلص.

وقد قسَّم العلماء الغريب الوحشي إلى قسمين: غريب حسن، وغريب قبيح.

فالنوع الأول: فصيح لا يعاب استعماله على العرب الخُلَّص لتداوله وظهور معناه في بيئتهم، وجعلوا الغريب هو اللفظ غير الواضح جراء عوامل وأسباب معينة لا تخلّ ببلاغته وفصاحته ويحتاج إلى بيان، ومنه غريب القرآن وغريب الحديث النبوي، ومن أمثلته كلمة "ضيزى" في قوله تعالى: ﴿تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى﴾ [النجم: 22]، بمعنى: قسمة جائرة. كما أنها ليست الغرابة التي تجدها في بيان النبي -عليه الصلاة والسلام- حين يُخاطب الأقوام البادين؛ لأن سيقات حديثه الشريف، ومقاماته تقتدي مثل هذه الألفاظ التي لم تكن وحشية نافرة في مسامع المخاطبين، بل إنها كانت دوَّارة على ألسنتهم.

 والنوع الثاني: غير فصيح قطعًا، ويُعَاب استعماله مطلقًا لعدم تداوله على لسان أهل البادية، ومثل ذلك: "جُحَيْش بالفريد" أي: المستبد برأيه، وجَفَخَت، والحَلْقَد، أي: سيئ الخلق، والابتشاك بمعنى الكذب، وقد يطلقون على هذا النوع الوحشي الغليظ أو المتوعر، وكتب اللغة زاخرة بكثير من غريب اللغة الذي يمجُّه الذوق، وينفر منه السمع.

وفي الختام نقول بأن القرآن الكريم يشتمل فعلا على ألفاظ غريبة يخفى معناها على بعض الناس، وأن هذه الغرابة لا تعدُّ عيبًا فيه؛ لأن خفاء معناه له عوامل أخرى خارجة عن ذاتية هذا اللفظ إنما تتعلق بأمور أخرى كما ذكرنا، وأن كتب غريب القرآن وغريب الحديث النبوي كان الهدف منها بيان المعاني وتقريبها للعجم وغيرهم.

الفصاحة والبلاغة والعلاقة بينهما

فصاحه الكلمه فى البلاغة

***


إرسال تعليق


أحدث أقدم
document.querySelector('.button').addEventListener('click', function() { alert('مرحبًا في طريق التعلم!'); });