المقابلة في البلاغة العربية وشواهدها من القرآن الكريم



المقابلة: فن بديعي، احتفت به أسفار البلاغيين قديمًا وحديثًا، وتباينت تعريفاتهم لهذا الفن البديعي؛ فإذا رجعنا إلى كتب اللغويين وجدناها تدل على معاني المواجهة والمعارضة والمعاينة، يقال: (قابل الشيء بالشي مقابلة وقبالا): عارضه.

وفي اصطلاح البلاغيين: أن يؤتى بمعنيين مُتَوافقين أو معانٍ متوافقة، ثم بما يُقَابلهما أو يُقَابِلُها على الترتيب. وقد تتركب المقابلة من طباق وملحق به.

وفرق البلاغيون بين الطباق والمقابلة من وجهين:

الأول: أن الطباق لا يكون إلا ضدين غالبا، كقوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ[الحج: 66]، والمقابلة لا تكون إلا بما زاد عن ذلك، فتكون غالبًا بالجمع بين أربعة أضداد: ضدين في أصل الكلام وضدين في عَجُزه، وتبلغ إلى الجمع من عشرة أضداد، خمسة في الصدر وخمسة في العَجُز. وكلما كثر عددها كانت أوقع.

الثاني: لا يكون الطباق إلا بالأضداد، والمقابلة تكون بالأضداد وبغيرها، وإن كانت الأضداد أعلى رتبة وأعظم موقعًا.

·       أنواع المقابلة:

الأوّل: مقابلة اثنين باثنين كقوله تعالى: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ﴾ [البقرة: 216]، فأتى أولا بلفظين متوافقين، وهما: تكرهوا وخير، ثم أتى بضديهما وهما: تحبوا وشر. وقوله تعالى: ﴿فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا﴾ [التوبة: 82]، فأتى أولا بلفظين متوافقين، وهما: يضحكوا قليلا، ثم أتى بضديهما وهما: يبكوا كثيرا. وقوله تعالى: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير﴾ [آل عمران: 26]، قابل بين (تؤتي) و (تنزع)، وبين (تعز) و (تذل)، والسر في مجيء المقابلة في هذه الآية هو تصوير القدرة في أوسع معانيها، وبيان السلطان في أشمل مظاهره وأكملها، فإن ذلك لا يتم إلا بالجمع بين الضدين، والحكم بأنه يقدر على الأمرين: الإيتاء أو ما في معناه، والنزع أو ما في معناه، وكذلك الإعزاز والإذلال.

ومنه قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إنّ الرّفق لا يكون في شيء إلّا زانه، ولا ينزع من شيء إلّا شانه»، فقابَلَ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- بينَ وُجودِ الرِّفقِ في الأمرِ وتَزيينِه، وبينَ انْتزاعِه منه وما يَترتَّبُ عليه مِن قُبحِه بدُونِه؛ فجمَع بينَ كونِ الرِّفقِ في الشَّيءِ وبينَ نزعِه منه، وبينَ الزَّينِ والشَّينِ. وقول النابغة الجعدي:

فتى تمّ فيه ما يسرّ صديقه         على أنّ فيه ما يسوء الأعاديا

الثاني: مقابلة ثلاثة بثلاثة، كقوله تعالى: ﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ﴾ [الأعراف: 157]، فبيْنَ "يُحِلُّ" و"يُحرِّمُ" مُطابَقةٌ، وكذلك بينَ الطَّيِّباتِ والخَبائِثِ، واللَّامُ في "يحِلُّ لهم" ضِدُّ (على) في "عليهم"؛ فالأُولى للخيْرِ والثَّانيةُ للشَّرِّ. وقول أبي دلامة:

ما أحسنَ الدين والدنيا إذا اجتمعا     وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل

فقابَلَ بينَ أحسَنَ وأقبَحَ، وبينَ الدِّينِ والكُفرِ، وبينَ الدُّنيا والإفْلاسِ.

الثالث: مقابلة أربعة بأربعة كقوله تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى﴾ [الليل: 5 - 10]، فجمَع -سُبحانه وتعالى- بينَ الإعْطاءِ والبُخلِ، وبينَ التَّقوى والاسْتِغناءِ، والاسْتِغناءُ هنا نَقيضُ التَّقوى، فهُو بمَعْنى الزُّهدِ عمَّا عندَ اللهِ، أو الاسْتِغناءِ بشَهواتِ الدُّنيا عنِ الجنَّةِ؛ وبينَ التَّصديقِ والتَّكذيبِ، وبين اليُسرى والعُسرى، جمَع بينَ أرْبعةِ أضْدادٍ في تَرتيبٍ مُتَساوٍ بلا اخْتِلافٍ أو تَناقُضٍ.

ومنه قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ [النحل: 90]، فقابل بين الأمر وما يتبعه، وبين النهي وما يتبعه، فقد أمر بثلاثة ونهى عن ثلاثة، ففي الآية مقابلة أربعة أشياء بأربعة أشياء.

ومنه قول الْمُتنبي:

أزورهم وسواد الليل يشفع لي     وأنثني وبياض الصّبح يغري بي

يَتحدَّثُ الشَّاعرُ عن مَدى شَوْقِه لمَحْبوبتِه؛ حيثُ لا يُطيقُ أنْ يَبقى دُونَ رُؤيتِها، فيَذهبُ إليها ليلًا في سَتْرٍ مِن ظَلامِ اللَّيلِ، ثمَّ لا يَشعُرُ بينَ يديها بمُرورِ الوقتِ حتَّى يُغادِرَ وقد طلَع الصَّباحُ، لكنَّه جعَل مِن ظلامِ اللَّيلِ شافِعًا له، يَتوسَّطُ بينَ الشَّاعرِ وحَبيبِه، وذلك يَقْتضي إبْعادَ أعْينِ الوُشاةِ عنه، في حين جعَل منَ النَّهارِ عَدوًّا حاسِدًا يدُلُّ عليه النَّاسَ ويَفضَحُه بينَ الخلائِقِ ويُشيرُ إليه بسَنا ضوْئِه. والمُقابلةُ هنا بَيْنَ أرْبعِ مُفرَداتٍ من هنا ومثلِها من هناك: فبيْنَ الزِّيارةِ والعَوْدِ منْها مُقابلةٌ وإنْ لم يكنْ تَضادًّا، كما ذكَرنا، وبينَ السَّوادِ والبَياضِ، وبينَ اللَّيلِ والصُّبحِ مُقابلةٌ بالتَّضادِ، وبينَ يَشفَعُ ويُغري مُقابلةٌ أيضًا؛ لِما بينَهما من الاخْتِلافِ في المَعْنى إلى حدٍّ يُشبِهُ التَّضادَّ.

الرابع: مقابلة خمسة بخمسة، كقول الشاعر:

بواطِئٍ فوقَ خدِّ الصُّبحِ مُشتَهِرٍ     وطائر تحت ذَيْلِ اللَّيل مُكْتِتِم

فجمَع الشَّاعرُ بينَ خمْسةِ أشْياءَ ومُقابلِها؛ فالوَطءُ يُخالِفُ الطَّيرانَ، و"فوقَ" ضدُّ "تحت"، و"خد" يُخالِفُ "ذَيل" مِن حيثُ العُلوُّ والشَّرفُ؛ والصُّبحُ ضدُّ اللَّيلِ، والمُشتَهِرُ ضِدُّ المُكتَتِم.

الخامس: مقابلة ستة بستة مثل قول الشاعر:

على رأس عبد تاج عزّ يزينه          وفي رجل حرّ قيد ذلّ يشينه

فالمُقابلةُ هنا بينَ «على وفي»، و«رَأسِ ورِجْلِ»، و«عبْدٍ وحُرٍّ»، و«تاج وقَيْد»، و«عزٍّ وذُلٍّ»، و«يَزينُه ويَشينُه».

***

ومن المقابلة قوله تعالى: ﴿أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ [الفتح: 29]، فالرحمة ليست ضد الشدة وإنما ضد الشدة اللين، فلما كانت الرحمة سببًا في اللين حسُنت المطابقة بينهما، وكانت المقابلة لائقة.

ومن أربع المقابلات ذلك التقابل الذي يعرضه القرآن مصوِّرًا فيه العذاب الحسي والنعيم المادي قوله تعالى: ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ * لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ * لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ﴾ [الغاشية: 1 - 7]، وفي مقابل هذا العذاب الحسي تأتي صورة النعيم بعدها مباشرة في قوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ * لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً * فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ * فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ * وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ﴾ [الغاشية: 8 - 16]. فالمقابلة واضحة في كل جزئية من الجُزئيَّات التي تصور حالة الكافرين وعذابهم، وحالة المؤمنين ونعيمهم.

***


تعليقات