وسورة الناس هي إحدى
المعوذتين، فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتعوَّذ بها وبسورة الفلق من الإنس
والجن. وسُمِّيت بذلك؛ لأن لفظ الناس تكرر فيها خمس مرات. والقصد من هذه السورة التحذير
والاحتراز عن وسوسة الشيطان ومن تعدِّي الإنس والجن.
ففي هذه السورة إرشاد إلى
النبي -صلى الله عليه وسلم- لأن يتعوذ بالله ربه من شر الوسواس الذي يحاول إفساد
عمل النبي -صلى الله عليه وسلم- وإفساد إرشاده الناس ويلقي في نفوس الناس الإعراض
عن دعوته، ويتبع
ذلك تعليم المسلمين التعوذ بذلك، فيكون لهم من هذا التعوذ ما هو حظهم من قابلية
التعرض إلى الوسواس، ومع السلامة منه بمقدار مراتبهم في الزلفى.
بدأت السورة بفعل الأمر ﴿قُلْ﴾
والأمر هنا على الحقيقة؛ لأنه من الله -عز وجل- إلى نبيه -صلى الله عليه وسلم-. والغرضُ
البلاغي من هذا الأمر هو النُّصح والإرشاد والتوجيه. ومعنى ﴿أَعُوذُ﴾
أعتصم برب الناس، وعبر بصيغة المضارع الذي يدل على التجدُّد والاستمرار، وهذا يعني
أنْ يظلَّ المسلم معتصمًا بربِّه، عائذًا بمولاه، محتميًا بحِماه، ملتجئًا إلى
سيِّده القادر المقتدر، لا يَنْسَى ذلك لحظةً؛ حتى لا يفترسه الشيطان، فالاستيعاذ
من الجن والشيطان مُتكرِّر متجدد في كل وقت وفي كل مكان.
وخص الناس بالذكر ﴿بِرَبِّ النَّاسِ﴾
مع أنه ربٌّ للمخلوقات جميعًا؛ لأن الاستعاذة وقعت من شر ما يُوسوس في صدورهم، وهم
الناس دون غيرهم من المخلوقات، وناسب أن يستحضر المستعاذ إليه بعنوان أنه رب مَنْ يلقون
الشر ومَنْ يُلْقَى إليهم؛ ليصرف هؤلاء ويدفع عن الآخرين، كما يقال لمولى العبد:
يا مولى فلان كُفَّ عني عبدك.
وهذه الربوبية ليست
كربوبية سائر الملاك لما يمتلكون، بل الله -عز وجل- يمتلك الناس امتلاكًا كاملا
بسُلطانه القاهر، وقُدرته الشاملة، وقد وضح ذلك من إضافة لفظ الملك للناس في قوله:
﴿مَلِكِ
النَّاسِ﴾.
والربُّ قد يكون مالكًا
-كما في الآية السابقة- وقد لا يكون، والملك لا يكون إلها وقد يكون، فبيَّن أن
كلمة إله خاصة به دون سواه لا يُشاركه أحدٌ فيها، فقال: ﴿إِلَهِ
النَّاسِ﴾ ليفيد هذا التخصيص.
ونلاحظ تكرار لفظ (الناس)
في الآيات الثلاثة، دون الاكتفاء بضميره؛ لأن عطف البيان يقتضي الإظهار ليكون الاسم الْمُبَيِّن
مستقلا بنفسه؛ لأن عطف البيان بمنزلة علم للاسم الْمُبَيَّن.
وأضاف كلمة (شر) إلى (الوسواس)
وهو الشيطان في قوله: ﴿مِنْ
شَرِّ الْوَسْوَاسِ﴾؛ لبيان أن كل ما يصدر عن الشيطان الموسوس لا يخرج عن
الشرِّ. والتعريف في ﴿الْوَسْوَاسِ﴾ تعريف الجنس.
والوسواس يشمل كل من يتكلم كلامًا خفيًّا من الناس وهم أصحاب المكائد
والمؤامرات المقصود منها إلحاق الأذى من اغتيال نفوس أو سرقة أموال أو إغراء
بالضلال والإعراض عن الهدى. ووصف الوسواس بـ ﴿الْخَنَّاسِ﴾؛ لأنها صفة لازمة له لا
تتخلف عنه أبدًا، فهو يخنس وتخفُّ حِدَّته إذا ذُكر اسمُ الله تعالى.
وعبَّر بالاسم الموصول في
قوله: ﴿الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ﴾ وجعل الفعل المضارع ﴿يُوَسْوِسُ﴾
صلة له، والصلة لا بد أن تكون معلومة للمخاطب، فوسوسة الشيطان معلومة للمخاطب ولا
يفتر الشيطان عنها إلا إذا واجهه المسلم بإيمان قوي وعزم أكيد. وعبَّر بالمضارع
ليفيد تجدد الوسوسة وحدوثها واستمرارها.
وخص ﴿صُدُورِ النَّاسِ﴾
بالذكر ولم يقل: (في قلوب الناس)؛ لأن الصدر بمنزلة الوعاء للقلب، والقلب مضغة
فيه، فوسوسة الشيطان تفيض بالقلب حتى يمتلئ، فتتدفق على كل ما يُحيط به. والمراد
بالناس في هذه الآية هم أهل الصلاح والبر؛ لأن الوسوسة سواء أكانت من شيطان الإنس
أو شيطان الجن فصاحبها مولع بها ويعمل على غواية كل من يعرض له.
وقوله: ﴿مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ﴾ عرَّف فيه كل من الجِنَّة والناس بأل؛ لأن كلا من فريق
الجن وفريق الإنس معلوم عند جميع الخلق لا يجهل معناهما أحد بالفعل أو بالسماع.
والعطف بين الجنة والناس يقتضي التغاير بينهما، رغم أن القصد من وسوستهما واحد،
فشيطان الإنس يبدو في صورة الناصح الأمين الذي
يريد المصلحة وهو يُروِّج للمعصية وتؤدي وسوسته إلى الخسران المبين، وشيطان الجن
يُغري بالوسوسة فيُوقع الإنسان في الإثم والهلاك.
وحشد كلُّ هذه الصفات الثلاث: الربوبيَّة والملك والألوهيَّة من شَرِّ ذلك الوَسواس الخنَّاس؛ فيه كنايةٌ عن خُطورةِ ما يفعَلُه ذلك الخنَّاس في الخَلْقِ والبشَر، وما يُحدِثُه في الكون من غَوايةٍ وضَلالةٍ وتدميرٍ وهلاكٍ، ممَّا يستوجبُ معه الاستعاذة بصاحب الأمرِ والنَّهي في ذلك الكون؛ حيث لا يقدرُ على الشيطان إلا خالقُه وإلهه ومليكُه.
***
المصادر والمراجع:
-
تفسير
التحرير والتنوير لابن عاشور، تونس: الدار التونسية للنشر.
-
البلاغة
القيمة لآية القرآن الكريم (جزء عم)، أ.د عبد القادر حسين، القاهرة: دار غريب
للنشر والتوزيع.