التشبيهات القرآنية التي تُصوِّر حال المؤمنين
بعد أن انتهينا من ذكر ما التشبيه وأركانه وبيان الأقسام التي تتعلق بهذه الأركان، نبدأ في ذكر بعض الموضوعات القرآنية التي ورد فيها تشبيه القرآن الكريم، ونبدأ بذكر التشبيهات القرآنية التي تُصوِّر حال المؤمنين
من التشبيهات القرآنية التي تُصوِّر حال المؤمنين
وأول هذه الآيات هو قوله تعالى:
﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ
أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا
يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ
أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي
الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى
عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا
عَظِيمًا﴾ [الفتح: 29].
وردت
هذه الآية في سياق الثناء على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين معه وهم
الصحابة رضوان الله عليهم، وقد بدأت الآية بداية لافتة للنظر حيث عرَّف المسند
إليه فيه بالعلمية (مُحَمَّدٌ)، وفي هذا مدح له صلى الله عليه وسلم، وإحضاره بشخصه
حتى تتميز هذه المعاني وكأنها أجناس متغايرة، حيث أخبر الله عن الرسول صلى الله
عليه وسلم في آيات سابقة: ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ
رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ
اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ
فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا * هُوَ
الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى
الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾ [الفتح: 27، 28]، فالمتلقي
عندما يطالع هذه الأخبار تمتلئ نفسه شوقًا إلى بيان المتحدث عنه بهذه الأخبار؟
فيأتي الجواب بتعريفه بالعلمية ليتميز المعنى ويكشف عن مناقبه، فيقال: محمد رسول
الله، فيفيد كمال المبالغة في المدح.
ثم
عرَّف المسند بالإضافة (رَسُولُ اللَّهِ) ليكتسب المضاف التعظيم والتشريف من
المضاف إليه، كما فيه تكرار بوصف الرسول صلى الله عليه وسلم بالرسالة، فقد جمع بين
التعريف بالعلمية والتصريح بوصفه إخبارًا.
ثم
أتي الحديث عن الصحابة الكرام بقوله: (وَالَّذِينَ مَعَهُ) بطريق العطف مع تعريفهم
بالموصولية؛ لقصد الجمع بين الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ومدحهم بما في
حيز الصلة.
والتعبير
بالظرف (مَعَهُ) فيه تأكيد للمصاحبة، والتأييد الذي يجمع بين الرسول صلى الله عليه
وسلم والصحابة فهم يطيعونه ويؤيدونه في كل ما يُخبر به، وفي هذا مدح للصحابة.
ويأت
الخبر موضِّحًا وصفهم فقال: (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)،
فأخبر عن المعاملة الظاهرية لهم وما فيها من تبايُن واختلاف، فهي في جانب الكفار
الشدة، وفي جانب المؤمنين الرحمة، وبين لفظي (الشدة والرحمة) طباق خفي، فالرحمة لا
تقابل الشدة، إنما الذي يُقابل الشدة هو اللِّين إلا أن الرحمة سببها هو اللين
لذلك صحت المقابلة.
وعبَّر
بالرحمة ولم يُعبر باللين مباشرة؛ لأن اللين قد يكون عن ضعف، أما الرحمة لا فلا
تكون إلا عن قوة، وهو مما يُمتدح به.
والمقصود
بقوله: (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ)، والمقصود هنا الشدة في قتالهم إظهار
العداوة لهم، وفيهم آباؤهم وذوو قرابتهم وصحابتهم، ولكنهم قطعوا هذه الوشائج
جميعًا. والرحمة هنا في قوله: (رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) كانت فقط لإخوتهم في الدين.
وفي
الجمع بين هاتين الصفتين المتضادتين (الشدة على الكفار، والرحمة مع المؤمنين) تبين
لنا حكمة عقولهم، وأن تصرفاتهم منبعها الحكمة والرشد المستمدة من الدين، لا من
الهوى أو من الطبع.
والخطاب
في قوله: (تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا) لغير معيَّن، فيشمل كل ما تتأتى منه
الرؤية، وخصَّ الرؤية بالذكر لقصد التأكيد بالمشاهدة الحقيقية على أفعالهم، فهم
ملازمون للصلاة وحريصون على أدائها، وفي هذا ثناء عليهم، وعبر بالركوع والسجود
وأراد الصلاة كلها، وذلك عن طريق المجاز المرسل بعلاقة الجزئية.
وقوله:
(يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا) لتوضح مقصدهم من هذه الأفعال،
فهو لا يريدون الدنيا، إنما غايتهم هي ثواب الله ورضاه.
وقوله:
(سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) توضح ظهور أثر الصلاة في
الدنيا على وجوههم، فهي تجعل نفوسهم مطمئنة وينعكس ذلك الاطمئنان فيظهر على
وجوههم.
ثم
يأتي اسم الإشارة (ذَلِكَ) الذي يستخدم للبعيد حقيقة، ولكنه استخدم هنا؛ لبيان علو
منزلتهم رضوان الله عليهم.
وقوله:
(مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ) أي صفاتهم المذكورة هنا مذكورة قبل ذلك في التوراة،
وهي الكتاب الذي أُنْزِل على سيدنا موسى عليه السلام، ففيه ذكر لهذه الصفات لهم.
ثم
انتقلت الآية إلى ذكر وصفهم في الإنجيل، وهو الكتاب الذي أُنْزِل على سيدنا عيسى
عليه السلام، فوصفتهم بأنهم (كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ
فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ).
وهنا موطن التشبيه في الآية، وهو تشبيه تمثيلي يتكون من عدة أجزاء تكون صورة
التشبيه.
أما
صفاتهم في الإنجيل فقد شبَّه الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته بالزرع الذي يستمرُّ
في نمائه حتى يقوى ويشتد عوده، فالنبي صلى الله عليه وسلم بُعث وحده فكان كالزارع
زرع حبة واحدة، ثم أخرجت هذه الحبة أول أوراقها، ثم بعد ذلك كثرت أوراق هذه الحبة،
فهذا حال النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه بدأ أولا بإيمان أبي بكر ثم إيمان
سيدنا علي بن أبي طالب، وسيدنا عمر بن الخطاب، وسيدنا عثمان بن عفان وغيرهم من
أوائل الصحابة، ثم بعد ذلك كثر عدد الصحابة.
ووجه
الشبه: مُرَكَّبٌ من التدرج في النمو، والتحول من القلة إلى الكثرة إلى الاستحكام
والقوة.
هذه
صورته في ذاته، أما تأثيره على نفوس أهل الخبرة في الزرع، العارفين بالنامي منه
والذابل، المثمر منه والبائر، فهو وَقْعُ البهجة والإعجاب في نفس صاحب هذا الزرع
النامي القوي البهيج، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما وقعه في نفوس الكفار
فعلى العكس، فهو وَقْعُ الغيظ والكيد.
فهذا
مثل ضربه الله عز وجل لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم يكونوا في الابتداء
قليلا، ثم يزدادون ويكثرون ويقومون، كالزرع يكون في الابتداء ضعيفًا ثم يقوى حالا
بعد حال، حتى يغلظ ساقه ويشتد عوده ويقوى، فيعجب الزراع لقوته وحُسن منظره
وتكاثره، وهذه الصورة تعجب المؤمنين وفي الوقت نفسه تغيظ الكافرين.
وأفاد
أسلوب التشبيه التمثيلي في الآية أسرارًا لطيفة وحكمة عالية، فبهذا الأسلوب يتحول
الغائب حاضرًا، والمعقول محسوسًا، والمعنى مُجسَّمًا، والمتفرِّق مجموعًا،
والمختلف مُتَّحِدًا.
***
(24) التشبيهات القرآنية التي تصور حال المنافقين
(25) التشبيهات القرآنية التي تصور أحوال الكافرين
(26) التشبيهات القرآنية الخاصة بأعمال الكافرين يوم القيامة
....................
ومن
الآيات التي وردت في تصور حال المؤمنين، وورد فيها أسلوب التشبيه قوله تعالى: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ
نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ
بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾
[الأنعام: 122].
نزلت
الآية في حمزة بن عبد المطلب وأبي جهل بن هشام، وذلك انّ أبا جهل آذى رسول الله
فأخبر بذلك حمزة، وهو على دين قومه، فغضب وجاء ومعه قوس فضرب بها رأس أبي جهل
وآمن، وهو المروي عن ابن عباس.
وقيل:
إنّها نزلت في عمار بن ياسر حين آمن وأبي جهل، وهو المروي عن أبى جعفر، ولكن
الظاهر أنّها عامة في كلّ مؤمن وكافر، ومع ذلك لا يمنع هذا نزولها في شخصين خاصين.
ففي هذه الآية
تمثيلات وتشبيهات جعلتها من قبيل التشبيه المركب نذكرها تباعًا:
ففي هذه الآية تمثيلات وتشبيهات جعلتها من قبيل التشبيه المركب:
1-
قوله
تعالى: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ﴾ [الأنعام:
122].
شبّه فيه الكافر بـ(الْمَيِّت) والمؤمن
بـ(الحي)، وليست الآية نسيج وحدها فقد شبّه المؤمن في غير واحد من الآيات بالحي،
والكافر بالميت، قال سبحانه: ﴿فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ
الْمَوْتَى﴾ [الروم: 52] ﴿لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ
حَيًّا﴾ [يس: 70]، و ﴿وَمَا يَسْتَوِي
الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ﴾ [فاطر: 22].
2. وقوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ﴾
[الأنعام: 122] فقد شبّه القرآن بالنور، حيث إنّ المؤمن على ضوء القرآن يشق طريق
السعادة، وقد ورد تشبيه القرآن بالنور في آيات أخرى، منها قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ
وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا﴾ [النساء: 174]. وقوله تعالى: ﴿مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ
جَعَلْنَاهُ نُورًا﴾ [الشورى: 52]، فالقرآن ينوّر الدرب للمؤمن.
3. قوله
تعالى: ﴿كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ
بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾ [الأنعام: 122]، فالمراد من الظلمة إمّا الكفر أو
الجهل، ويؤيد الأوّل قوله سبحانه: ﴿اللَّهُ وَلِيُّ
الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾
[البقرة: 257].
ثمّ
إنّه سبحانه شبه الكافر بالذي يمكث في الظلمات لا يهتدي إلى شيء بقوله: ﴿كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ﴾ ولم يقل: كمن هو في
الظلمات، بل توسط لفظ المثل فيه، ولعل الوجه هو تبيين أنّه بلغ في الكفر والحيرة
غاية يضرب به المثل.
وحاصل
التشبيهات المركبة الممتزجة في قوله تعالى: ﴿أَوَمَنْ
كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ
كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ
لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: 122]،
التشبيه
الأول: شبَّه الذي
أحياه الله تعالى بالإيمان بعد ضلاله -على سبيل النفي، بالضال الذي لا خروج له من
ظلمات ضلاله، وأداة التشبيه الكاف، وغرض هذا
التشبيه: تزيين
المشبه، وتقبيح المشبه به، وبيان الفرق بينهما.
والتشبيه
الثاني: شبه تزيين
الأعمال السيئة للكفار، بمَنْ زُيِّن له البقاء في الظلمات متحيرًا، وأداة
التشبيه: (الكاف)، ووجه الشبه: الزخرفة. نوع التشبيه: مرسل مفصل؛ مرسل: لذكر أداة
التشبيه، ومفصل: لذكر وجه الشبه. وغرض التشبيه: تقبيح المشبه.
وحاصل
الآية: أنّ مثل مَنْ هداه الله بعد الضلالة ومنحه التوفيق لليقين الذي يميز به بين
المحق والمبطل، والمهتدي والضال، مثله: من كان ميتاً فأحياه الله وجعل له نورًا
يمشي به في الناس مستضيئًا به، فيميز بعضه من بعض، هذا هو مثل المؤمن، ولا يصح
قياس المؤمن بالباقي على كفره غير الخارج عنه، الخابط في الظلمات المتحير الذي لا
يهتدي سبيل الرشاد.
***
ومن
الآيات التي وردت في تصور حال المؤمنين، وورد فيها أسلوب التشبيه قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ
أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الحجرات: 10].
فيه
تشبيه بليغ محذوف الأداة والوجه، حيث شبه المؤمنين بالإخوة، شبه المشاركة في الإيمان
بالمشاركة في أصل التوالد؛ لأن كلا منهما أصل للبقاء، إذ التوالد منشأ الحياة،
والإيمان منشأ البقاء الأبدي في الجنان. ووجه الشبه: المحبة والألفة والتعاون
والنُّصرة.
واستخدام
أسلوب التشبيه البليغ هنا يفيد دخول المشبه في المشبه به حتى كأنهما شيء واحد.
وجاء هذا المعنى في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «تَرَى المُؤْمِنِينَ فِي
تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ، كَمَثَلِ الجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى
عُضْوًا تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالحُمَّى».
والقصر
بـ(إنما) في الآية للقصر، وأفاد تأكيد المعنى، فأخوة الإيمان أقوى من إخوة النسب،
ورابطة الإخوة يجب أن تمنعهم عن القتال، فما المؤمنون إلا إخوة.
والقصر
بـ(إنما) يجيء في خبر لا يجهله المخاطب ولا يدفع صحته، لذلك وجب أن تكون أخوة
الإيمان أمرًا قد استقر في نفوس المؤمنين لا يحيدون عنه.
ووضع
المظهر موضع المضمر في قوله: (بين أخويكم) ولم يقل: (بينهم)؛ للمبالغة في التقرير
والتخصيص وتأكيد وجوب الإصلاح والتحضيض عليه.
والتعبير
بقوله: (إنما المؤمنون إخوة) إشعار بضرورة وجود التراحم بين المؤمنين، فإذا هم
تراحموا فيما بينهم عاملهم الله بلطفه ورحمته، لذا ختمت الآية بجملة: (واتقوا الله
لعلكم تُرحمون).
***
ومن
الآيات التي وردت في تصور حال المؤمنين، وورد فيها أسلوب التشبيه قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ
فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ
لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾
[الحجرات: 2]
والسياق الذي وردت فيه هذه الآية يُنبه إلى عظمة النبي
صلى الله عليه وسلم وتُرشد المؤمنين إلى توقير مكانته، وهذا التشبيه يحمل معنى عاليًا في الأدب وحُسْن التعامل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، احترامًا لجناب النبوة والرسالة التي اختاره الله تعالى لها.
والمشبه: جهر الصحابة رضي الله عنهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم. المشبه به: جهر بعضهم لبعض. أداة التشبيه: الكاف. وجه الشبه: الجهر.
ومخاطبة الناس بعضهم لبعض قد يقع فيها شيء من الجهر، أو الاسترسال في المزاح، وعدم مراعاة حدود الأدب على الوجه الأكمل، لاستوائهم في المنزلة، أو لسقوط التكلف بينهم لقرابة أو صداقة، ويدل على ذلك جعل جهر بعضهم لبعض مشبها به، فوجه الشبه في المشبه به يجب أن يكون أظهر وأكثر، والواقع شاهد على ذلك أيضًا.
ومثل هذا لا يليق في مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلأجل ذلك وقع النهي عن
الْمُشَابَهة.
شبه إلقاء الكلام بجهر قوي بإلقائه من مكان مرتفع
كالمئذنة، والجامع بينهما العلو وشدة الوضوح، وهو معنى داخل
في مفهوم الطرفين. فهذا تشبيه مرسل مجمل حيث ذكرت أداة التشبيه وحذف وجه الشبه.
***
ومن
الآيات التي وردت في تصور حال المؤمنين، وورد فيها أسلوب التشبيه قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ
الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ
بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا
فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ﴾
[الحجرات: 12].
عني
الإسلام عناية كبيرة بحسن الخلق، وأرسل الله تعالى نبينا محمدًا صلى الله عليه
وسلم ليتمم مكارم الأخلاق، فعلى المسلمين التحلي بالخلق الحميد، والسلوكيات
الإيجابية من أجل النهوض بالمجتمعات.
فافتُتحت
هذه الآية بنداء المؤمنين (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)، وهذا هو النداء
الخامس في هذه السورة الكريمة، والمنهيات المذكورة بعد هذا النداء من جنس
المعاملات السيئة الخفية التي لا يتفطن لها من عومل بها فلا يدفعها، فما يُزيلها
من نفس من عمل بها.
وفي
اقترن النداء بالأمر والنهي معًا (اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ
بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا)
تأكيد على خطورة وعظم ما يدعوهم إليه، والإثم: هو الذنب الذي يستحق فاعله العقاب.
وأصل الجس: مس العرق وتعرُّف نبضه، للحكم به على الصحة والسقم. والتجسس هو
البحث عن العورات ومعايبهم ومحاولة استكشاف ما ستروه. والغيبة: هي أن
يذكر الإنسان غيره بما يكره في غيبته من عيب أو غيره بلفظ أو إشارة أو محاكاة.
والغيبة أعم من التجسس.
وقد
تتابعت الأساليب الإنشائية في هذه الآية حيث النداء للتنبيه، ثم الأمر باجتناب
الظن للتحذير من الوقوع في الإثم بسببه؛ لأن بعضه ليس إلا إثمًا، ثم النهي عن
التجسس والغيبة، وتنكير المفعول به (كَثِيرًا) يفيد معنى البعضية؛ لإيجاب الاحتياط
والتأمل في كل ظن، فإن في الظنون ما يجب أن يُجتنب من غير تبيين لذلك ولا تعيين،
لئلا يجترئ أحد على ظن إلا بعد نظر وتأمل، وتمييز بين حقه وباطله بأمارة بينة، مع استشعار
للتقوى والحذر.
والاستفهام
في قوله: (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا
فَكَرِهْتُمُوهُ) معناه مجازي، والمراد به التقرير، أي: تقرير المؤمنين بمضمون
الجملة.
وفي
هذه الجملة تشبيه تمثيلي الغرض منه توضيح الصورة، والتشبيه هنا ضمني، فشبه حال
المغتاب الذي ينال من عرض أخيه في غفلة عن ذلك بحال من يأكل لحم أخيه وهو ميت؛ وصوره
بهذه الصورة حتى تشمئز منه الأبدان وتعافه الأنفس السليمة.
وجعل
ما هو شديد الكراهة للنفس مفعولا لفعل المحبة للإشعار بتفظيع حالة ما شُبِّه به
وحالة من ارتضاه لنفسه، فلذلك لم يقل: أيتحمل أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتًا، بل
قال (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ).
***