من بلاغة الآيات القرآنية التي أنزلت في السيدة زينب بنت جحش
من بلاغة الآيات القرآنية التي أنزلت في السيدة زينب بنت جحش :السيدة زينب
بنت جحش هي زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأم المؤمنين، وُلِدَتْ في السنة
الثالثة والثلاثين قبل الهجرة، وكانت من المسلمين الأوائل، وكان
اسمها بَرَّة، فغيَّره النبيُّ صلى الله عليه وسلم وسماها زينب، ومن إخوتها
سيدنا عبد الله بن جحش.
زوَّجها رسول الله صلى عليه وسلم من سيدنا زيد بن حارثة قبل الهجرة النبوية، وبقيت السيدة زينب بنت جحش عند سيدنا زيد بن حارثة سنين
فلم تلد له، وكان إذا جرى بينها وبينه ما يجري بين الزوجين تارة من خلاف أدلت عليه
بسؤددها وغضَّت منه بولايته، فلمَّا تكرَّر ذلك عزم على أن يُطَلِّقها، وجاء يُعْلِم
رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بعزمه على ذلك؛ لأنه تزوَّجها من عنده، فأمره النبي
صلى الله عليه وسلم أن يمسكها ولا يطلقها، وأخفى في نفسه أن الله أوحى إليه أن
زيدا سيطلق زينب وأنه صلى الله عليه وسلم سيتزوجها بتزويج الله إيَّاها؛ وذلك
لإبطال أمر التبني الذي كان شائعًا في الجاهلية، ثم لَمَّا طُلِّقت تزوَّجها النبي
صلى الله عليه وسلم سنة خمس هجرية، فأصبحت أمًّا للمؤمنين.
وقد نزلت فيها
آيات من سورة الأحزاب، وهي قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ
إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ
أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا * وَإِذْ
تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ
عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ
وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ
مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ
فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ
اللَّهِ مَفْعُولًا * مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ
اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ
اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا * الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ
وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ
حَسِيبًا * مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ
اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) [الأحزاب: 36 -
40].
ذهب النبي صلى الله عليه وسلم إليها يريد أن يخطبها إلى زيد، فرفضت وقالت:
لستُ بناكحته، فقال رسول الله: "بَلْ فَانْكِحِيهِ". قالت: يا رسول
الله، أؤامر في نفسي؟ فبينما هما يتحدَّثان، أنزل الله تعالى قوله على رسوله: (وَمَا
كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ
يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا) [الأحزاب: 36]. فقالت:
رضيتَه لي يا رسول الله منكحًا؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم. قالت: إذن
لا أعصي رسول الله، قد أَنْكَحْتُه نفسي.
وأراد النبي
صلى الله عليه وسلم بهذا الزواج أن يُحطِّم الفوارق الطبقيَّة الموروثة من
الجاهلية وهي أن الرقيق الذين تحرَّروا من الرق طبقة أدنى من طبقة السادة، وكان زيد
بن حارثة من هؤلاء الموالي، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُحقِّق
المساواة الكاملة بتزويجه من شريفة من بني هاشم، فزوَّجه بنت عمته زينب بنت جحش؛
ليُسقط تلك الفوارق الطبقيَّة بنفسه في أسرته.
والخيرة هي الاختيار.
وهو اسم مصدر (تَخَيَّر) على غير قياس.
وقوله تعالى: (وَمَنْ
يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا) تذييل فيه تعميم
للتحذير من مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم سواء فيما هو فيه الخيرة أم كان عن عَمْدٍ
للهَوَى في المخالفة.
والتعبير
بالفعل المضارع عن الماضي في قوله تعالى: (وَإِذْ تَقُولُ)؛ لاستحضار صورة
القول وتكريره، وفي ذلك تصوير لحث النبي صلى الله عليه وسلم زيدًا على إمساك زوجه
وألَّا يطلقها، ومعاودته عليه.
وعبَّر في
بداية الآية باسم الموصول (الذي) دون اسمه العَلَم؛ لما تُشْعِرُ به هذه الصلة المعطوفة،
من تَنَزُّهِ النبي صلى الله عليه وسلم عن استعمال ولائه لِحَمْلِهِ على تطليق زَوْجِه،
فزيدٌ أخصُّ النَّاس برسولِ الله صلى الله
عليه وسلم، ورسول الله أَحْرَصُ على صلاح حاله.
وذكر البلاغيون
قوله تعالى: (وَتَخْشَى
النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ) من شواهد رَدِّ العجز على الصدر، وهو
من القسم الأول الذي يرد في النثر، وهو ما يوجد فيه أحد الْمُكَرَّرين في أول
الفقرة والآخر في آخرها، وقد وقع في قوله: (تخشى) في أول الفقرة وكرر في آخرها،
ولا يضرُّ اتصال الآخر بالهاء في كونه آخرًا؛ لأن الضمير المتصل كالجزء من الفعل؛
لأنه لما كان مفعولا له كان من تتمته. وفائدته هنا أن تكرار اللفظ مع اختلاف المتعلق ينبِّه
السامع إلى المراد من هذا التكرار، فيكون إصغاؤه للعبارة أكثر وتفهمه لمعناها
أقوى.
وفي توكيد
التعريف بالعَلَم بعد الموصول في قوله تعالى: (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا) عدول عن الظاهر؛ لأن مقتضاه أن يُشار إليه بالضمير،
فيقال: (فلما قضى منها)، أي: الذي أنعم الله عليه، والسبب في هذا العدول قصد ذكره بالاسم العلم للتشريف.
وإسناد زواج
رسول الله صلى الله عليه وسلم من زينب إلى ضمير الجلالة (زَوَّجْنَاكَهَا) مؤذن من أول
الأمر بأن هذا الزواج لم يكن عملا من أعمال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما
هو فعل من أفعال الله، فالله هو الذي زوَّجه إيَّاها.
وقوله تعالى: (لِكَيْ
لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا
قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا)، بيان لعلة هذا الزواج، ودليل على أن
حكمه صلى الله عليه وسلم وحكم الأمة واحد إلا ما خصَّه الدليل.
وقوله تعالى: (وَكَانَ
أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا) فاصلة واقعة أحسن موقع، فكل الذي مضى
-من زواج زيد من زينب، وطلاقه لها، ثم زواج سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم منها-
بأمر الله، وأمر الله مفعول لا محالة، فهو يجري على أعناق الوجود، وليس ثمة ما
يقدر على مواجهته، فالمراد بالأمر هنا القضاء.
وقوله
تعالى: (وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا
إِلَّا اللَّهَ) تعبير فيه توكيد وتقرير بمعنى أن هؤلاء المبلِّغين يخشون الله
ثم هم لا يخشون أحدًا إلا الله، فقد وصفهم أولا بالخشية، ثم قصر هذه الخشية التي
تكون منهم على الله، أي: هم لا يخشون طواغيت الضلال، وأهل البغي، ولو كانت في
أيديهم الصولة.
وإظهار
اسم الجلالة في مقام الإضمار في قوله تعالى: (وَكَفَى
بِاللَّهِ حَسِيبًا) حيث تقدم ذكره؛ لقصد أن تكون هذه الجملة جارية مجرى الْمَثَل
والحكمة
وبعد أن بينت الآيات السابقة إبطال التبني، انتقلت إلى
توجيه الخطاب للصحابة رضوان الله عليهم بجملة خبرية تُفِيد نفي الأبوة الحقيقية من
رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد من رجالهم، فقال تعالى: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ
رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) [الأحزاب: 40].
ومن الفنون البلاغية الواردة في هذه الآية فن القصر،
وطريقه العطف بـ (لكن)، حيث قصر سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم على كونه رسولا
وخاتم النبيين، لا يتجاوز ذلك إلى أبوة أحد من الرجال، وهذا الأمر يحتاج إلى
توكيد؛ لأنه يتعلق بقضية التبني، فقد كانت عادة العرب مُعاملة الابن الْمُتبنَّى
معاملة الابن من الصلب، وجاء التحريم ممثلا في زواج النبي صلى الله عليه وسلم من
زينب بنت جحش، بعد أن قضى زيد منها وطرًا، وزيد هو زيد بن حارثة مولى رسول الله ق، وكان هذا الزواج تشريعًا للأمة.
وفي الختام أحب أن أنبِّه إلى أن ما ذكرتُه في قصة تزويج
السيدة زينب النبي صلى الله عليه وسلم هو التفسير القويم، وأما ما رُوي من أن
النبيَّ صلى الله عليه وسلم مرَّ ببيت زيد بن حارثة وهو غائب فرأى زينب فوقع منها
في قلبه شيء فقال: «سبحان مقلب القلوب»، فسمعت زينب التسبيحة فنقلتها إلى
زيد فوقع في قلبه أن يُطلِّقها، إلى آخر هذا الهراء الذي يترفع النبي صلى الله
عليه وسلم عنه فقد فنَّده الْمُحَقِّقون من العلماء، فذكر الإمام أبو بكر بن
العربي أنه لا يصح وأن الناقلين له الْمُحتجين به على مزاعمهم في فهم الآية لم يُقَدِّرُوا
مقام النبوة حقَّ قدره، ولم تصب عقولهم من معنى الصحة كنهها.
***