التشبيهات التي تمثل الحياة الدنيا فى القرآن الكريم
دعا القرآن
الكريم إلى توحيد الله، والإيمان بالبعث واليقين بالآخرة، ولكن المشركين أصموا
آذانهم عن هذه الدعوة، وصدوا عنها صدودًا شديدًا؛ بسبب انهماكهم في الإقبال على
الحياة الزائلة ونعيمها، وبسبب الغرور الذي غر طغاة أهل الشرك، وصرفهم عن إعمال
عقولهم في فهم أدلة التوحيد والبعث؛ فقالوا ما حكاه القرآن عنهم: ﴿وَقَالُوا
مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا
إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ [الجاثية: 24]، فكان من المناسب أن يتضمن القرآن من
أساليب البيان ما يزهدهم في الدنيا، ويرغبهم في الآخرة، ومن بدائع التشبيه
والتمثيل ما يصور لهم قِصَرَ الحياة التي عظموها، ويجسم فناء هذا العالم العامر
بالجمال والآمال.
ويمكن
إجمال صورة الحياة الدنيا كما وردت في القرآن الكريم في صورتين؛ هما:
الأولى: صورة الزرع يرتوي من الماء، ولكنه لا يلبث أن
يذبل ويصفر، ويصبح حطامًا تذروه الرياح.
الثانية: صورة
المتاع الزائل، والأعمال الضائعة، التي سرعان ما تضمحل وتبطل من غير ثمرة.
جاءت
الصورة الأولى للحياة الدنيا في ثلاث آيات من القرآن الكريم؛ هي:
من التشبيهات القرآنية التي تمثل الحياة الدنيا
1) قوله
تعالى: ﴿إِنَّمَا مَثَلُ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ
نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ
الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ
عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا
كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ
يَتَفَكَّرُونَ﴾
[يونس: 24].
المشبه: حال الدنيا في سرعة تقضيها وانقراض نعيمها بعد
الإقبال وعدم ثباتها على حال. والمشبه به: حال النبات في جفافه وذهابه حُطامًا
بعدما التف وتكاثف وزيَّن الأرض بخضرته. ووجه الشبه: صورة شيء مبهج يبعث الأمل في
النفوس في أوَّل أمره ثم لا يلبث أن يظهر في حال تدعو إلى اليأس والقنوط.
لقد أضفى التشبيه على معنى الآية صورة منفرة للدنيا يدركها المؤمن الحصيف فلا يغتر بها وبما يبدو عليها من الزينة الظاهرة والبهرج الخادع، فكما أن ذلك الزرع الجميل الذي اكتست به الأرض حلة جميلة زاهية الألوان هلك فجأة وصار إلى زوال ودمار لما جاءه أمر ربه، فكذلك الحياة الدنيا إلى زوال وفناء.
وقد أطنب وأطال في وصف الخصب والزينة والاطمئنان حتى كأن السامع ينظر إلى ذلك المشهد الجميل وبدون حجب، فلما آن الأوان بالهلاك جاءت كلمة واحدة مقتضبة خاطفة (حصيدا) ليقول لهم: في ومضة، وفي جملة، وفي خطفة.
وذلك مقصود في التعبير بعد الإطالة في عرض مشهد الخصب والزينة والاطمئنان− هذه هي الدنيا التي يستغرق فيها بعض الناس، ويضيعون الآخرة كلها لينالوا بعض المتاع، هذه هي، لا أمن فيها ولا اطمئنان، ولا ثبات فيها ولا استقرار، ولا يملك الناس من أمرها شيئاً إلا بمقدار.
إنها حقيقة عظيمة وموعظة جليلة يجليها الله سبحانه لعباده المؤمنين حتى لا ينخدعوا بهذه الحياة الدنيا التي هذه حالها، فكشف عوارها وهتك أستارها وبين لخلقه أسرارها لكيلا يركنوا إليها ولا يفرحوا بملذاتها.
وهذا الجمال في التشبيه من أسرار بلاغة القرآن التي تذهل العقول وتخلب القلوب، وتكاد لحسنها تسحر الأسماع.
والتشبيه في هذه الآية مُرَكَّب يتضمن تشبيهات منتزعة من
الحالين المتشابهين: (حال الدنيا، وحال النبات)؛ بحيث يصلح كل منها أن يكون
تشبيهًا لجزء من الحالين المتشابهين.
***
2) وقوله
تعالى: ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ
نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا﴾ [الكهف: 45].
شبهت حالة
هذا العالم بما فيه، بحالة الروضة تبقى زمانًا بهجة خضرة، ثم يصير نبتها بعد حين
إلى اضمحلال، ووجه الشبه: المصير من حال حسن إلى حال سيئ، وأيضًا شبهت هيئة إقبال
نعيم الدنيا في الحياة مع الشباب، والجِدَةِ، وزخرف العيش لأهله، ثم تقلُّص ذلك،
وزوال نفعه، ثم انقراضه أشتاتًا، بهيئة إقبال الغيث منبت الزرع ونشأته عنه ونضارته
ووفرته، ثم أخْذه في الانتقاص، وانعدام التمتع به، ثم تطايره أشتاتًا في الهواء.
***
3) وقوله
تعالى: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا
الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ
وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ
الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا
وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا
الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [الحديد: 20].
المشبه: حال الحياة الدنيا وذهاب نعيمها وقلة نفعها؛
للتنفير من الاستغراق في ملذاتها، وجعلها هي الهدف الأسمى.
المشبه به: حال مطر أنبت زرعًا فنما وقوي وأعجب به
الزُّراع ثم أصابته آفة فيبس واصفرَّ وتفتت فأصبح حطامًا وهشيمًا.
ووجه
الشبه: صورة الاغترار بالشيء، ومظنة دوامه، والتهالك عليه، ثم زواله وانقضاؤه فجأة
كأن لم يكن، فكان شيئًا يُعجب الناظرين في أول أمره ثم لم يلبث أن زالت نضارته
وساء حاله.
فتشبه لنا هذه
الآية هيئة أهل الدنيا في أحوالهم الغالبة عليهم، بهيئة غيث أنبت زرعًا، فأينع، ثم
اصفرَّ، ثم اضمحل، وتحطم، فضرب مثل الحياة الدنيا لأطوار ما فيها من شباب، وكهولة،
وهرم، وفناء، ومن جِدة وتبذل، وبِلًى، ومن إقبال الأمور في زمن إقبالها، ثم
إدبارها بعد ذلك، بأطوار الزرع، وكلها أعراض زائلة، وآخرها فناء، وتندرج فيها
أطوار المرء في الحياة، فقد شبه أول أطوار الحياة وإقبالها بالنبات عقب المطر،
وشبَّه الناس المنتفعين بإقبال الدنيا بالزراع، وشبه اكتمال أحوال الحياة وقوة
الكهولة بهياج الزرع، وشبه ابتداء الشيخوخة ثم الهرم، وابتداء ضعف عطاء الإنسان
باصفرار الزرع وتهيئه للفناء، وشبه زوال ما كان للمرء من قوة ومال بتحطم الزرع.
يحاول
التشبيه القرآني في هذه الآية أن يُقَرِّب صُورةَ تكالب الناس في الحياة الدنيا،
وتفاخرهم بما لا يبقى، وتكاثرهم بما يفنى، فتتمثل أمامه هيئة الغيث المنقطع عن
الزرع بعد إنعاشه له لحظات ولمحات، وإذا به يجفُّ دون إنذار، فيصفر الزرع، ويتفتت،
نتيجة لعدم الموازنة في السقي والإرواء؛ ليصبح حطامًا تذروه الرياح، وهشيمًا
تتناقله الأجواء، فبينما هو نبات يعجب الزارعين وإذا به هباء يتطاير من هنا وهناك،
والتشبيه يضع هذه الصورة في مُلابساتها المتناقضة، ومضاعفاتها غير المرتقبة تجاه
أمر الدنيا وحال المعجبين بزخارفها لتكون مثلا.
***
(23) التشبيهات القرآنية التي تُصوِّر حال المؤمنين
(24) التشبيهات القرآنية التي تصور حال المنافقين
...........
أما الصورة
الثانية للحياة الدنيا -وهي صورة المتاع الزائل، والأعمال الضائعة، التي سرعان ما
تضمحل وتبطل من غير ثمرة-، فقد وردت في ست آيات؛ هي قوله تعالى:
1) قال
تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ
الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ
زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ
الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [آل عمران: 185].
2) قال
تعالى: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ
الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ
يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [الأنعام: 32].
3) قال
تعالى: ﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ
الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ
الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ [العنكبوت: 64].
4) قال
تعالى: ﴿يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ
الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ﴾ [غافر: 39].
5) قال
تعالى: ﴿إِنَّمَا الْحَيَاةُ
الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ
وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ﴾ [محمد: 36].
6) قال تعالى:
﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ
الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي
الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ
ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ
عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ
الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [الحديد: 20].
وصف الحياة
الدنيا بأنها "متاع الغرور"، يقصد به
لذاتها وشهواتها وزينتها، فالكلام على تقدير مضاف؛ أي: وما أحوال الحياة الدنيا إلا
متاع الغرور، وقد شُبِّهت الحياة الدنيا بذلك المتاع الذي يدلس ويغرر به على
المشتري، حتى يشتريه، إشارة إلى رداءتها عند من أمعن النظر فيها، وهذا التشبيه لمن
آثرها على الآخرة، وأما من طلب بها الآخرة، فهي له متاع بلاغ، وإضافة "متاع" إلى "الغرور"، على معنى لام العاقبة؛ أي: متاع صائر لأجل
الغرور به، يغر الناظرين إليه، فيسرعون إلى التعلق به.
أما وصف
الحياة الدنيا بأنها "لعب ولهو"، فيراد به أنها أعمال ضائعة، سافلة، سرعان
ما يسرع إليها الاضمحلال، فتبطل من غير ثمرة، وتعطينا آية سورة الحديد صورة
متكاملة لهذا المضمون، فقد صورت لنا أحوال المجتمع في الحياة، كما صورت لنا أطوار
آحاد الناس في تطور حياة كل واحد منهم، (فاللعب): طور سن الطفولة والصِّبا، فهو
الغالب على أعمال الأطفال والصبيان، و(اللهو): طور الشباب، وهو يغلب على أحوال
الشباب، و(الزينة): طور الفتوة، ويكثر التزين في طور الفتوة؛ لأن الرجل يشعر
بابتداء زوال محاسن شبابه، والمرأة التي كانت غانية، تحب أن تكون حالية، و(التفاخر):
طور الكهولة، وأغلب التفاخر في هذا الطور؛ لأنه زمن الإقبال على الأفعال التي يقصد
منها الفخر، (والتكاثر): طور الشيخوخة، والتكاثر: تَفَاعُل من الكثرة، وصيغة
التفاعل هنا للمبالغة في الفعل؛ بحيث ينزل منزلة من يغالب غيره في كثرة شيء، فإنه
يكون أحرص على أن يكون الأكثر منه عنده، فكان المرء ينظر في الكثرة من الأمر
المحبوب إلى امرئٍ آخر له الكثرة منه، ثم شاع إطلاق صيغة التكاثر؛ فصارت تستعمل في
الحرص على تحصيل الكثير من غير مراعاة مغالبة الغير ممن حصل عليه.
وأسلوب
القصر - المستفاد من استخدام (ما وإلا) و (إنما) في الآيات الكريمات - هو قصر موصوف على صفة؛ أي: لا صفة
للدنيا إلا أنها نفع مؤقت، كما أن حصر الدنيا في هذه الأمور التي أشارت إليها
الآيات، هو قَصْرُ أحوال الناس في الحياة على هذه الأمور، باعتبار غالب الناس، فهو
قصر ادعائي بالنظر إلى ما تنصرف إليه همم غالب الناس من شؤون الحياة الدنيا، التي
إن سلم بعضهم من بعضها لا يخلو من ملابسة بعض آخر، إلا الذين عصمهم الله تعالى،
فجعل أعمالهم في الحياة كلها لوجه الله، وإلا فإن الحياة قد يكون فيها أعمال التقى
والمنافع والإحسان، والتأييد للحق، وتعليم الفضائل، وتشريع القوانين، وهذا القصر
الادعائي يقصد به المبالغة؛ لأن الأعمال الحاصلة في الحياة كثيرة؛ منها: اللهو
واللعب، ومنها غيرهما، فالحياة تشتمل على أحوال كثيرة، منها الملائم؛ كالأكل
واللذات، ومنها المؤلم؛ كالأمراض والأحزان.
وبعد؛ فهذا
تقييم عام مطلق، ينبغي ألَّا نفهم منه أن نظرة الإسلام إلى الحياة الدنيا ومتاعها
هي الإهمال لها، والسلبية والانعزال عنها، إنما تعني هذه النظرة أن على العاقل
"مراعاة الآخرة في هذا المتاع، والوقوف فيه عند حدود الله، كما يقصد
الاستعلاء عليه، فلا تصبح النفس أسيرة له، يكلفها ما يكلفها فلا تتأبى عليه،
والمسألة مسألة قِيَمٍ يزنها بميزانها الصحيح، فهذه قيمة الدنيا وهذه قيمة الآخرة،
كما ينبغي أن يستشعرها المؤمن، ثم يسير في متاع الحياة الدنيا على ضوئها، مالكًا
لحريته، معتدلًا في نظرته: الدنيا لهو ولعب، والآخرة حياة مليئة بالحياة.
الصورتان
الأولى: صورة الزرع يرتوي من الماء، ولكنه لا يلبث أن يذبل ويصفر، ويصبح حطامًا تذروه الرياح.
الثانية: صورة المتاع الزائل، والأعمال الضائعة، التي سرعان ما تضمحل وتبطل من غير ثمرة.
تشبيهات تمثل الحياة
***