تابع التشبيه المؤكد او البليغ فى القرآن الكريم
التشبيه المؤكد أو البليغ فى القرآن الكريم الجزء الاول
4) وقوع المشبه به خبرًا لما دخل على المشبه من النواسخ
ومنه قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا
وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} [الفرقان: 47]. في هذه الآية ثلاثة تشبيهات بليغة حذفت منها
الأداة: التشبيه الأول: المشبه: الليل. المشبه به: اللباس. وجه الشبه: الستر.
التشبيه الثاني: المشبه: النوم. المشبه به: السُّبَات (الراحة للأبدان). وجه
الشبه: الراحة والسكون. التشبيه الثالث: المشبه: النهار. المشبه به: النشور. وجه
الشبه: الحركة بعد سكون. يظهر في هذه التشبيهات الثلاثة بديع صنع الله عز وجل
وآثار قدرته وعظيم منته على عباده وسعة رحمته بهم، فقد جعل لهم هذا الليل وكأنه
اللباس الذي يستر البدن فتقضى فيه الكثير من الأمور التي ينبغي سترها، فترى الكون
متشحًا بالظلام وكأنه لباس ساتر قد لفت به الأرض وتلك نعمة وأي نعمة. ومن النعم
المترتبة على النعمة المتقدمة أن جعل النوم كأنه الموت الذي يقطع الناس عن علائق
الدنيا فيتوقف به ركض الإنسان الدؤوب في تحصيل المصالح وابتغاء الأرزاق، فإذا ما
نظرت إلى النائم حال نومه بدا لك وكأنه ميت فعلاً بعد أن كان يملأ الأرض حركة
وضجيجًا، وتبين لك أيضًا كم هو ضعيف هذا الإنسان وكم هو محتاج لنعم ربه ومن أعظمها
النوم. ثم شبه النهار بالنشور وهو القيام بعد الموت فالإنسان حين يستيقظ من نومه
فيسارع إلى ما اعتاد فعله في أوقات يقظته من معالجة أمور معيشته كأنه الميت الذي
أحياه الله فقام يسعى إلى المحشر. ففي التشبيه امتنان على الناس بهذه النعم
العظيمة التي لولاها ما استقام عيش، ولا كانت حياة فالله العليم الحكيم هو الذي
خلق الليل والنهار وقدرهما بحكمته البالغة على النحو الذي تصلح به حياة العباد.
ومنه قوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} [النبأ: 6، 7]. في هذه
الآيات تشبيهان: أما الأول فأركانه: المشبه: الأرض. المشبه به: المهاد (أي: ممهدة
منبسطة). أداة التشبيه: تشبيه بليغ محذوف الأداة. وجه الشبه: الانبساط. أما
التشبيه الثاني فأركانه: المشبه: الجبال. والمشبه به: الأوتاد. وأداة التشبيه:
تشبيه بليغ محذوف الأداة. وجه الشبه: التثبيت. لما كانت قضية البعث من القضايا
الكبيرة في العقيدة الإسلامية، وكان المشركون منكرون لها غاية الإنكار، ذكر سبحانه
وتعالى في هذه السورة جملة من الآيات الدالة على قدرته وعظمته، بحيث تكون حجة على
المشركين، بأن من قدر على هذا وهو أعظم من خلق الناس، فهو قادر على البعث بطريق
الأولى، ويمكن أن يقال: إن الذي خلق هذه الأمور العظيمة، منزه عن العبث لا يخلق
شيئا إلا لحكمة، وإنكار البعث يؤدي إلى أنه خلق هذه الأشياء عبثا، وليس لها حكمة،
وهو قول باطل. وأول هذه الدلائل على قدرة الله تعالى، أنه سبحانه جعل الأرض مهادا
أي: ممهدة منبسطة كالمهاد والفراش، وذلك لعظمها واتساعها، حتى أنها تشمل المخلوقات
الكثيرة دون أن تضيق عليهم. وثاني هذه الدلائل أنه خلق الجبال مثبتة للأرض
كالأوتاد لها، كما أن الأوتاد تثبت الخيمة، ولولا وجود هذه الجبال لكانت الأرض
تميد بمن عليها، وتتزلزل، ولا تكون مستقرة صالحة للعيش عليها، فثبتها الله ذه الجبال لتكون مستقر
للمخلوقات. والغرض منه هذين التشبيهين: بيان قدرة الله تعالى التي لا يعجزها شيء
على بعث الناس من قبورهم، وإعادة خلقهم من جديد. ومجيء التشبيه هنا تشبيها بليغا
للدلالة على كون المشبه هو عين المشبه به، فالأرض كالمهاد، والجبال كالأوتاد.
ومنه قوله تعالى: {وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا * وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ
فَكَانَتْ سَرَابًا} [النبأ: 19، 20]. في هاتين الآيتين تشبيهان: التشبيه الأول:
المشبه: السماء. المشبه به: الأبواب. أداة التشبيه: تشبيه بليغ محذوف الأداة. ووجه
الشبه: التشقق والانفتاح. يذكر سبحانه وتعالى في هذه الآيات طرفًا من أهوال يوم
القيامة، ومن ذلك تفتح السماء حتى تكون كالأبواب، ومعناه: تتفطر وتتشقق حتى يكون
فيها فتوح كالأبواب في الجداران. والغرض من هذا التشبيه: بيان أهوال يوم القيامة
التي تصيب الأجرام العظيمة فتغيرها من حالتها إلى حالة أخرى، بعيدة كل البعد عن
حالتها الأولى. نجد أن السماء بعد أن كانت مشدودة متماسكة، تصبح في يوم القيامة
أبوابا لكثرة الشقوق التي فيها، وتفطرها وتقطعها. التشبيه الثاني: المشبه: الجبال.
المشبه به: السراب. أداة التشبيه: تشبيه بليغ محذوف الأداة. وجه الشبه: أن يحسب
شيئا وهو ليس بشيء. من أهوال القيامة أن تسير الجبال فتكون كالسراب، بمعنى لا شيء،
فمن نظر إلى مواضعها لم يجد فيها شيئًا، كما أن من يرى السراب من بُعْدٍ إذا جاء
الموضع الذي كان يراه فيه لم يجده شيئًا. والغرض من هذا التشبيه: بيان أهوال يوم
القيامة فنجد أن الجبال بعد أن كانت صلبة راسية، لا يقادر قدرها، جعلها الله تعالى
كالسراب في تفرق أجزائها وتناثرها، مما يجعل الرائي يحسبها من بعيد شيئا وهي في
الحقيقة ليست بشيء. فالتشبيه بالسراب ليس في تفرق أجزائها فقط، ولكن أيضا مع حسبان
أنها شيء وهي ليست بشيء.
5) وقوع المشبه به مضافًا للمشبه
ومنه قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي
سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26]. المشبه:
التقوى. المشبه به: اللباس. وجه الشبه: الستر، أي: خلقنا لكم لباسًا يستر عوراتكم،
ولباس التقوى خير لكم من التعري والتجرد من الثياب في طوافكم بالبيت. فهناك تلازم
بين شرع الله (اللباس) لستر العورات والزينة، وبين التقوى، كلاهما لباس. هذا يستر
عورات القلب ويزينه، وذاك يستر عورات الجسم ويزينه، وهما متلازمان، فعن شعور
التقوى لله والحياء منه، ينبثق الشعور باستقباح عري الجسد والحياء منه. وهو تشبيه
بليغ، من إضافة المشبه به إلى المشبه.
ومنه قوله تعالى: {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} [الفجر: 13] المشبه:
العذاب، والمشبه به: السوط، وجه الشبه: في سرعته، وشدته وتتابعه، فهو تشبيه بليغ
من إضافة المشبه به إلى المشبه.
ومنه قوله تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ
شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ
سُرَادِقُهَا} [الكهف: 29]. هذه الآية تبين مصير الظالمين الكافرين يوم القيامة،
ويأمر الحق عز وجل فيها نبيه بأن يخبر الناس بأن الحق الذي جاء في القرآن هو من
عند الله لا من وحي الشيطان، ولا من افتراء الكهنة، ولا غير ذلك، ثم يبين أن هناك
طريقين، طريق الإيمان وطريق الكفر، ثم بين مصير من يختار طريق الكفر وأنهم في
النار خالدون. المشبه: النار. والمشبه به: السرادق (وهو: الفسطاط يجْتَمع فِيهِ
النَّاس لعرس أَو مأتم وَغَيرهمَا)، والغرض من التشبيه: تهويل شأن النار وتعظيمها،
فهي نار تحيط بالكافرين من كل جانب كالسرادق بحيث لا يتمكنون من الفرار منها. وهو
تشبيه بليغ من إضافة المشبه به إلى المشبه.
6) وقوع المشبه به نعتًا للمُشَبَّه
ومنه قوله تعالى: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِنْ وَرَائِهِ
جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ
وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ
عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم: 15 - 17]. وردت هذه الآيات في وصف العذاب الأليم الذي
سيلقاه كل كافر بربه يوم القيامة، وهي تخبر بأن الكافر الذي عاند الحق سبحانه
وتعالى وعادى المرسلين قد خسر الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين، وأن جزاءه
جهنم وبئس المصير. وفي قوله: {وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ} فيه تشبيه بليغ،
المشبه: الماء، المشبه به: الصديد، وهو نعت للماء، وتقدير الكلام: ويسقى من ماء
كالصديد في طعمه ولونه ورائحته وشدة حرارته، أي: في جميع هيئته، وذلك مما يُصور
مبلغ عذاب الكافر يوم القيامة. وهو الأمر الذي يجعل الإنسان ملتزمًا طريق الرشاد
كي يفوز برضوان الله عز وجل يوم القيامة مُجتنبًا هذا العذاب الأليم. ومنه قوله
تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا * لِنُحْيِيَ بِهِ
بَلْدَةً مَيْتًا} [الفرقان: 48- 49]. المشبه: البلدة. المشبه به: الميت. وجه الشبه:
عدم النفع والحركة. شبه الله الأرض الجدباء المحرومة من نعمة السماء بالميت الذي
لا روح فيه ولا حياة، والحياة إنما تكون بهذا الماء الطهور المبارك الذي يرحم به
الله أهل الأرض.