جماليات التقديم والتأخير في الفاصلة القرآنية
دكتور
أسامة عبد العزيز جاب الله
مدرس البلاغة والنقد الأدبي
كلية الآداب – جامعة كفر الشيخ
Ibnmonkz2005@yahoo.com
للنص القرآني خصوصية متفردة في شتى أركانه وفي جميع نطاقات عمله ، في تراكيبه وجمله ، في كلماته ومفرداته ، في سوره وآياته ، في نظمه ، في رسمه ، في تقسيم الآيات ، في فَصْله ووصْله ، في بلاغاته ، في نهاية آياته ( فواصله ) ، في كل ما يتعلق به . هذا التفرد والتميز لابد من البحث في وسائله وسبله ، للوقوف على نطاقات الإعجاز فيه ، ومدارات الخصوصية لهذا النص الفريد .ومن بين هذه الإعجازات ، الإعجاز في توظيف الفواصل القرآنية ، تلك الفواصل التي تحوي ألواناً إعجازية ودلالية بالغة الجمال ، ورائقة السياق مما يمنحها رخصة الاشتراك في الإسهام في منظومة الإعجاز القرآني بكل تأكيد وفاعلية .
هذا وقد تعددت تعريفات الفاصلة القرآنية كما يلي :
ففي الاصطلاح اللغوي لها : الفصل : بونْ ما بين الشيئين . والفصل من الجسد : موضع المفصل ، وبين كل فصلين وصل . والفاصلة : الخرزة التي تفصل بين الخرزتين في النظام . وعقد مفصل أي جعل بين كل لؤلؤتين خرزة . الفصل : القضاء بين الحق والباطل . والتفصيل : التبيين (1) .
ويعد الخليل بن أحمد الفراهيدي أول من أشار للمصطلح كما هو إذ يقول : " سجع الرجل ؛ إذا نطق بكلام له فواصل كقوافي الشعر من غير وزن كما قيل : " لصّها بطل ، وتمرها دقل ، إن كَثُرَ الجيش بها جاعوا ، وإن قلوا ضاعوا " (2). فهو هنا يشير إلى ( الفواصل ) الكلامية غير الموزونة ، ويدخل فيها بالطبع الفواصل القرآنية .
وخلاصة الرأي اللغوي فيما يخص الفاصلة ، أنها الفصل بين شيئين متصلين ، ويدور ذلك المعنى في ثنايا التخريجات اللغوية . أما الفاصلة في الاصطلاح فتعددت تعريفاتها بتعدد مشارب العلماء ، ومن هذه التعريفات :
ما يراه الرماني ( ت386 هـ) من أن " الفواصل حروف متشاكلة في المقاطع ، توجب حسن إفهام المعاني ، والفواصل بلاغة ، والأسجاع عيب ، وذلك أن الفواصل تابعة للمعاني ، وأما الأسجاع فالمعاني تابعة لها " (3) .
فهو هنا يؤكد على دور الفاصلة في المعنى ، بالإضافة إلى دورها في الإيقاع المتولد من المقاطع المتشاكلة . إلا أن كلمة الرماني ( والأسجاع عيب ) جعلته مقصدا للنقد خاصة من جانب ابن سنان الخفاجي الذي رأى في هذا الرأي تعميما غير مقبول ، فرد على الرماني بقوله : " أما قول الرماني : إن السجع عيب ، والفواصل بلاغة على الإطلاق فغلط ، لأنه إن أراد بالسجع ما يكون تابعا للمعنى ، وكأنه غير مقصود ، فذلك بلاغة ، والفواصل مثله . وإن كان يريد السجع ما تقع المعاني تابعة له وهو مقصود متكلف فذلك عيب ، والفواصل مثله " (4) . فالخفاجي في رده هذا إنما يحفظ للمبدع حقه ، ويصون النص القرآني عما قد يظنه ظان من التشابه بين فواصله وأسجاع المتكلمين .
والباقلاني يعرف الفواصل بأنها : " حروف متشاكلة في المقاطع ، يقع بها إفهام المعاني " (5 ) .
وأبو عمرو الداني ( ت444هـ) يجعل الفاصلة : " كلمة آخر الجملة " (6) .
ويعود الداني ليفرق بين ( الفاصلة ) و ( رؤوس الآي ) بقوله : " أما الفاصلة فهي الكلام المنفصل مما بعده ، والكلام المنفصل قد يكون رأس آية ، وغير رأس . وكذلك الفواصل يكن رؤوس آي وغيرها . وكل رأس آية فاصلة ، وليس كل فاصلة رأس آية . فالفاصلة تعم النوعين ، وتجمع الضربين " (7) .
ونلمح هنا أن الداني يؤكد على مبحث " الوقف " القرآني ، فقد يكون الوقف داخل آية ، فهو عندئذ ليس بفاصلة . أما إذا انتهت الآية ، فالفاصلة هنا رأس آية . إذن الفاصلة عنده على نوعين هما :
1 – فاصلة داخلية : تقع في داخل الآيات ، وهي خاضعة لأحكام الوقف والابتداء .
2 – فاصلة خارجية : وهي ما يسمى عنده ( رأس الآية ) ، وهي خاتمة الآية .
ويرى الزركشي أن "الفاصلة هي كلمة آخر الآية،كقافية الشعر،وقرينة السجع" (8) . ويضيف الزركشي إلى هذا التعريف رأيا يوضح فيه موضع ومقام الفاصلة إذ يقول : " تقع الفاصلة عند الاستراحة بالخطاب لتحسين الكلام بها . وهي الطريقة التي يباين بها القرآن سائر الكلام ، وتسمى فواصل ، لأنه ينفصل عندها الكلام ، وذلك أن آخر الآية فصل بينها وبين ما بعدها أخذا من قوله تعالى: ) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ((9 ) ولم يسموها أسجاعا ، ولا يجوز تسميتها قوافي إجماعا " (10) .
إن مقصد الزركشي هنا هو الإشارة إلى كون الفاصلة حالة خاصة بالنص القرآني وأحد نطاقات إعجازه وتميزه وتفرده عما سواه . والواضح الجلي من هذه التعريفات السابقة هو اتفاقها على :
1- كون الفاصلة هي خاتمة الآية وآخرها .
2- كون الفاصلة متشاكلة المقاطع إيقاعاً .
3- لها دور في تحسين الكلام ، وهذا هو جوهر عملها .
والسؤال الآن : كيف يمكننا معرفة الفاصلة القرآنية ؟! والإجابة عند السيوطي في كتابه ( الإتقان ) إذ ينقل لنا من كتاب " أحكام الرأي في معرفة فواصل الآي " للجعبري الذي ضاع ولم يصلنا ، ونقل منه السيوطي نصوصا ، هي ما بين أيدينا في كتاب " الإتقان في علوم القرآن " .
ينقل السيوطي لنا طريقتين لمعرفة تواصل الآيات هما : الأولى : توفيقية : أي ما ثبت من كونه r وقف عليه ، فتحقق أنه فاصلة بلا شك . من ذلك ما رواه أبو داود عن أم سلمة لما سئلت عن قراءة رسول الله r قالت : " كان يقطع قراءته آية آية . وقرأت :( بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين ) (11 ) .
والمستفاد من الحديث السابق هو كون فعله r هو المحدد للوقف في النص القرآني . أما الطريقة الثانية ؛ فهي قياسية ؛ أي اتباع أحكام الوقف في النص القرآني . لكن ليس كل وقف في القرآن ( فاصلة ) ، فالقرآن كله مبني على الوصل لا الوقف والفصل ، ومن ثم كان لابد من طرق ووسائل لمعرفة القياسي من الفواصل . هذه الطرق والوسائل تنبع من النص القرآني ذاته ، إذ يقاس على المنصوص عليه ، فيلحق به ، وذلك للمناسبة ، ولا شيء في ذلك . ولذا سميت هذه الطريقة ( بالقياسية ) .
أنواع الفواصل القرآنية :
تتنوع الفواصل القرآنية بحسب مداخل خمسة هي (12) :
1- أنواعها من حيث حرف الروي ( الحرف الأخير من الفاصلة ) .
2- أنواعها من حيث طول الفقرة المبنية عليها .
3- أنواعها من حيث موقع الفاصلة .
4- أنواعها من حيث مقدارها من الآية .
5- أنواعها من حيث الوزن .
ونفصل القول في كل مدخل على حدة كما يلي :
أولاً : أنواع الفواصل من حيث حرف الروي :
الروي هو الحرف الذي تبنى عليه القصيدة وتنسب إليه . والروي يلتزم بعينه في سائر أبياتها . يقول ابن رشيق : " حرف الروي الذي يقع عليه الإعراب ، وتبنى عليه القصيدة ، فيتكرر في كل بيت وإن لم يظهر فيه الإعراب لسكونه " (13) .
هذا في جانب الشعر ، أما في النص القرآني فلم تلتزم الآيات حرف روي واحد ، وإنما كان تنوعها من مناطات إعجازها . وقد تنوعت الفاصلة القرآنية حسب حرف الروي إلى ثلاثة أنواع هي :
1- المتماثلة (14 ) : وهي التي تماثلت حروف رويها ، مثل قوله تعالى : ) وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ فِي رِقٍّ مَنْشُورٍ( سورة الطور الآيات ( 1 ، 2 ، 3 ) .
2- المتقاربة (15) : وهي المبنية على حروف متقاربة المخارج صوتيا ، مثل قوله تعالى : )الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّين (سورة الفاتحة الآيتان ( 2 ، 3 ) ( فالميم ) و( النون) متقاربان في المخرج .
3- المنفردة : وهي نادرة ، فلم تتماثل حروف رويها ، ولم تتقارب ، مثل : فاصلة آخر آية في سورة الضحى ، قال تعالى: ) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ( سورة الضحى آية (12) . فهي على حرف ( الثاء ) وما قبلها على حرف ( الراء ) فلا تماثل ولا تقارب هنا .
ويلاحظ أن أغلب فواصل القرآن على النوعين الأول والثاني من حروف الروي . ويرى د . محمد الحسناوي أن : " الفواصل المتماثلة تشيع في الآيات والسور المكية ، على حين تغلب المتقاربة على الآيات المدنية " (16 ) . ولعل مرد ذلك هو تحقيق الجذب الإيقاعي والموسيقي عن طريق هذا التماثل في الفواصل في صدر الإسلام ، ليحقق هذا الإيقاع نوعا من الإبهار ، ومن ثم يذوق الكفار حلاوة النص،فيدخلوا في دين الله أفواجا .
ثانياً : نوع الفاصلة من حيث طول الفقرة :
يقصد بالفقرات في القرآن ( الآيات ) ، وهي على ثلاث أنواع (17) :
1- قصير موجز : وهو ما يتكون من لفظ واحد ، أو من عدد من الحروف كقوله تعالى :)الرَّحْمَنُ (الرحمن آية (1) ، و)الْحَاقَةُ( الحاقة آية (1) ، و)ألَم( البقرة آية (1) .
2- متوسط معجز : وهو ما تكون من لفظين ، مثل قوله تعالى : )وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى( سورة النجم الآيتان رقم ( 1 ، 2 ) .
3- طويل مفصح مبين : وهو بقية آيات القرآن ، إذ قد تصل آية ما إلى ( عشرين لفظا ) مثل قوله تعالى : )وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ ( هود( 9 ، 10 ) .
ثالثاً : نوع الفاصلة من حيث موقعها :
ويقصد بموقع الفاصلة هنا أن هناك كلمات في الآية تتشاكل وتتماثل مع الفاصلة الأخيرة فيها . هذا التماثل يمنح هذه الكلمات الداخلية صفة ( الفاصلة الداخلية ) . وعلى هذا الأساس تقسم الفاصلة إلى :
1- الفاصلة الداخلية : وهي ما يسميها البلاغيون مثل ابن حجة ( بالتشريع ) ومعناها : أن يبني الشاعر بيته على وزنين من أوزان العروض ، فإذا أسقط جزءاً أو جزئين صار الباقي بيتا من وزن آخر (18) .
2- الفاصلة الخارجية : وهي مناط الفائدة ، ومحور الآيات .
وتقسم الفاصلة الداخلية قسمين هما :
الأول : داخلية متماثلة ، مثل قوله تعالى : ) فَسُبْحَانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ( سورة الروم آية ( 7 ) ، فالتماثل هنا واضح بين الفاصلة الداخلية ( تمسون ) والفاصلة الخارجية ( تصبحون ) من حيث الاتفاق في حرف الروي ( الواو والنون ) .
والثاني : داخلية متباعدة ، وعليها قوله تعالى : )اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ( سورة المائدة آية رقم (101) ، فالفاصلة الداخلية هنا ( العقاب ) غير متماثلة تماما مع الفاصلة الخارجية (رحيم) .
رابعاً : نوع الفاصلة من حيث مقدارها من الآية :
والمقصد هنا يقوم على كون الفاصلة آية أو بعض آية وعليه بقية آيات القرآن . ويمكن أن ندمج هذا النوع في النوع الثاني المتعلق بتقسيم الفاصلة حسب طول الفقرة ، إذ أنهما يتمحوران حول جزئية متحدة لا جديد في هيكلها .
خامساً : نوع الفاصلة من حيث الوزن :
وهذا النوع ينحو منحى التقسيم الوارد في السجع ، وخاص به . لكننا هنا لا نمنع إقامة الفواصل على مثل هذا التقسيم إمعانا في إثبات تفرد القرآن على غيره ، واشتماله على ما في كلام العرب ، بل وزيادة عليه . وتقسم الفاصلة حسب الوزن إلى (19) :
1- المطرفة : وهي ما اتفقت في حروف الروي لا الوزن ، مثل قوله تعالى : ) مَا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ للهِ وَقَارًا وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا ( سورة نوح الآيتان ( 13 ، 14 ) فالكلمتان ( وقارا ) و ( أطوارا ) متفقتان في (الروي) ومختلفتان في (الوزن) فالأولى على (فَعَالا) والثانية على ( أفْعَالا ) .
2- المتوازية : وهي ما اتفقت في حروف الروي والوزن ، مثل قوله تعالى : ) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ ( الغاشية ( 13 ، 14) ، فالكلمتان ( مرفوعة ) و( موضوعة ) متفقتان في حرف الروي والوزن .
3- المتوازنة : وهي ما اتفقت في الوزن دون حرف الروي ، مثل قوله تعالى : ) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ وَزَرَابِيّ مَبْثُوثَةٌ ( سورة الغاشية الآيتان ( 15 ، 16 ) ، فالكلمتان ( مصفوفة ) و ( مبثوثة ) متفقتان في ( الوزن ) على وزن ( مَفْعُولة ) دون حرف الروي فهما مختلفتان فيه .
4- المرصعة : وهي تقابل الآيتين بكل مفرداتهما واختلافهما . فالأساس هنا لابد وأن يشتمل على تقابل ( الوزن ) و( التقفية ) و( الدلالة ) ، وعليه قوله تعالى : )إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ( سورة الغاشية الآيتان رقم ( 25 ، 26 ) فالتشريح التركيبي يجعل شكل الآيتين هكذا :
( إن / إلينا / إيابهم ) .
( إن / علينا / حسابهم ) .
( إلينا ) مقابل ( علينا ) وزنا وقافية ، و( إيابهم ) مقابل ( حسابهم ) وزنا وقافية .
5- المتماثلة : وهي أن تتساوى الآيتان في الوزن دون التقفية ، وتكون مكونات كل آية مقابل الأخرى وزنا وقافية ، مثل قوله تعالى : )وَأَتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ المُسْتَبِينَ وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ( سورة ص الآيتان رقم (117 ، 118 ) فكل مفردات الآيتين على الوزن نفسه دون القافية . تلك هي أنواع الفاصلة من حيث الوزن .
كان ما سبق مدخلا طبيعيا للحديث عن " التقديم والتأخير في الفاصلة القرآنية " فقد أحصينا في ( حزب المفصل ) سياقات " التقديم والتأخير " في الفواصل القرآنية في الحزب ، وصنفنا هذه الإحصاءات إلى أصناف تسهل عملية استخلاص الدلالات المنتجة من وراء هذا التوظيف البلاغي .
ونستخلص بعض الدلالات من هذا الإحصاء ، تتمثل فيما يلي :
أولاً : ورد " التقديم والتأخير " ملابسا لسياق الفاصلة القرآنية في ( حزب المفصل ) في ( 402 أربعمائة وآيتين ) فقط من جملة آيات الحزب ، بنسبة ( 25.4% ) أي ( ربع ) آيات الحزب ، وهي نسبة مرتفعة إذا ما اطردت في سائر سياقات النص القرآني وتم إحصاؤها .
ثانياً : تتوزع هذه المواضع التي لابس فيها " التقديم والتأخير " الفاصلة القرآنية إلى ( 21 واحد وعشرين نوعا ) ، يمثلها الجدول التالي :
| م | نوع التقديم والتأخير | العدد | ||
| 1 | الابتداء بالنكرة | 14 | ||
| 2 | تقديم الخبر على المبتدأ | 56 | ||
| 3 | تقديم خبر كان على اسمها | 13 | ||
| 4 | تقديم خبر إن على اسمها | 19 | ||
| 5 | تقديم المفعول به على الفاعل | 34 | ||
| 6 | تقديم المفعول به على الفعل | 9 | ||
| 7 | تقديم المفعول الثاني على المفعول الأول | 15 | ||
| 8 | تقديم المفعول المطلق على الفاعل | 5 | ||
| 9 | تقديم المفعول المطلق على الفعل | 1 | ||
| 10 | تقديم الحال على عاملها | 10 | ||
| 11 | تقديم النعت على منعوته | 2 | ||
| 12 | تقديم الظرف على المفعول به | 2 | ||
| 13 | تقديم الجار و المجرور على المتعلق به | 53 | ||
| 14 | تقديم الجار والمجرور على المفعول به | 52 | ||
| 15 | تقديم الجار والمجرور على الحال | 5 | ||
| 16 | تقديم الجار والمجرور على المفعول المطلق | 8 | ||
17 | الفصل بين الفعل والفاعل بالجار والمجرور | 14 |
| ||
18 | الفصل بين المبتدأ والخبر بالجار والمجرور | 53 |
| ||
19 | الفصل بين الصفة والموصوف بالجار والمجرور | 7 |
| ||
20 | الفصل بين اسم كان وخبرها | 12 |
| ||
21 | الفصل بين اسم إن وخبرها | 18 |
| ||
المجموع : | 402 |
| |||
جدول رقم ( 1)
يتضح من خلال الجدول السابق أن أكثر الأنواع استحواذا على سياقات " التقديم والتأخير " في الفاصلة في ( حزب المفصل ) هي أربعة ألوان هي :
1- تقديم الخبر على المبتدأ ، والذي تمثل في ( 56 ستة وخمسين موضعاً ) .
2- تقديم الجار والمجرور على المتعلق به ، والذي تمثل في ( 53 ثلاثة وخمسين موضعاً ) .
3- الفصل بين المبتدأ والخبر بالجار والمجرور ، والذي تمثل في ( 53 ثلاثة وخمسين موضعاً ) .
4- تقديم الجار والمجرور على المفعول به ، والذي تمثل في ( 51 إحدى وخمسين موضعاً ) .
فهذه الألوان الأربعة هي الأكثر استحواذا على سياقات " التقديم والتأخير " في الفاصلة ، إذ حازت ( 213 مائتين وثلاثة عشر موضعاً ) من إجمالي المواضع ، بنسبة ( 53 % ) من جملة المواضع ، وهي نسبة مرتفعة بالقياس إلى بقية الألوان وعددها ( 17 سبعة عشر لوناً ) .
ثالثاً : يمكن تصنيف مواضع " التقديم والتأخير " في الفاصلة القرآنية أقساما أربعة هي :
الأول : ما يختص بالجملة الاسمية .
الثاني : ما يختص بالجملة الفعلية .
الثالث : ما يختص بالمكملات .
الرابع : ما يختص بالفصل النحوي .
ونفصل القول في كل قسم على حدة كما يلي :
القسم الأول : ما يختص بالجملة الاسمية :
ويدور الحديث في هذا القسم عن سياقات " التقديم والتأخير " في الفاصلة القرآنية الملابسة للجملة الاسمية والتي تتمثل في :
1- الابتداء بالنكرة .
2- تقديم الخبر على المبتدأ .
3- تقديم خبر كان على اسمها .
4- تقديم خبر إن على اسمها .
فهذه الفروع تتضافر فيما بينها لتشكل منظومة " التقديم والتأخير " في الجملة الاسمية . والشيء العجيب حقا أن خروج ( الفاصلة ) بالتقديم أو بالتأخير عن مقررات النحو في المواضع الملابسة لها ، إنما هو في جوهر الأمر مجرد شكل من أشكال " التقديم والتأخير " في الجملة الاسمية . فالفاصلة القرآنية في هذه المواضع لابد وأن تكون أحد طرفي الجملة الاسمية ملابساً لحالة ( التأخير ) دوما . فمثلا : في الابتداء بالنكرة ورد " التقديم والتأخير " ملابساً للفاصلة في ( 14 أربعة عشر موضعاً ) كانت الفاصلة في كل هذه المواضع ( خبرا ) مؤخرا على خلاف القياس النحوي الذي يحكم للخبر في هذه المواضع بالتقديم لكون المبتدأ ( نكرة ) . فمثلا قوله تعالى :) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذَّبِينَ ( سورة المرسلات آية رقم ( 15 ) . تكررت في هذه السورة في ( 10 عشر آيات ) ودارت على الهيكلة التركيبية التالية :( ويل + يومئذ + للمكذبين ) . ( مبتدأ نكرة + ظرف + خبر شبه جملة ) .
والأصل في مثل هذا الأسلوب أن يؤخر ( المبتدأ ) لكونه نكرة ، ويُقَدَّم ( الخبر ) لكونه ( شبه جملة ) . وعلى هذا كان لابد أن يكون تركيب الآية – في غير القرآن – على النحو التالي: ( للمكذبين يومئذ ويلٌ ) أو ( للمكذبين ويلٌ يومئذ ) .
فيختلف الأمر تماما حينئذ في السياق القرآني . ولذا كان لابد من مخالفة الأصل النحوي للحفاظ على الإيقاع الموسيقي المتولد من بناء أغلب فواصل السورة على حرف ( النون ) الذي تكرر في ( 29 تسع وعشرين آية ) من إجمالي ( 50 خمسين آية ) هي جملة آيات سورة المرسلات . ولنتخيل الأمر فلو كانت الآية – حاشا لله – على التركيب التالي : ( للمكذبين يومئذ ويلٌ ) فالإيقاع الجميل يختفي تماما .
إذن المخالفة للأصل النحوي هنا تمت حفاظا على السياق الإيقاعي بالدرجة الأولى . يقول العلوي :" الظروف لا وجه لتقديمها على عاملها إلا ما ذكرناه من الاختصاص . وثانيهما : أن يكون تقديمه من أجل مراعاة المشاكلة لرؤوس الآي في التسجيع " (20) . فهو هنا يرى في " التقديم والتأخير " الملابس للفاصلة أمرين هما :
الأول : التقديم للاختصاص .
والأمر الثاني : مراعاة المشاكلة الصوتية المتولدة من بناء الفواصل على حرف متماثل .
فالاختصاص هنا في هذه الآية السابقة لا يتحقق لكون ( الخبر ) غير مقدم .
أما مراعاة المشاكلة الصوتية والإيقاعية فهو المراد هنا .
وفي " تقديم الخبر على المبتدأ " في الفاصلة القرآنية ، نجد أن هذا ورد ممثلاً في ( 56 ستة وخمسين موضعاً ) ، منها على سبيل المثال :
- قوله تعالى : ) وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ ( سورة ق آية رقم ( 4 ) .
- قوله تعالى: ) مَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ ( سورة ق آية رقم ( 6 ) .
- قوله تعالى: )وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ ( سورة ق آية رقم ( 43 ) .
- قوله تعالى: )وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ( سورة الممتحنة آية رقم ( 43 ) .
هذه الآيات وظفت فيها الفواصل كأحد ركني الجملة الاسمية ، وكانت دائما في هذه السياقات (مبتدأ) مؤخرا . والشيء الغريب أن التأخير في هذه السياقات لا ينحو نحو المشاكلة الصوتية للفاصلة ، بل الأمر هنا على أغراض بلاغية متولدة من سياقات تقديم الخبر (شبه الجملة) . وليست فقط على ( الاختصاص ) الذي تواطأ البلاغيون على وسم مبحث " التقديم والتأخير " به في كل مناسبة .
ونظرة بسيطة إلى مواضع " تقديم الخبر على المبتدأ " في سياقات الفاصلة القرآنية تبين بحق المواضع المستحقة للتأخير ، والمواضع الأخرى التي لا تستحق هذا التأخير . فقد استحق المبتدأ التأخير لكونه ( نكرة ) مجرورة في ( 15 خمسة عشر موضعاً ) فقط . ونظراً لكون الخبر ( شبه جملة ) ، وكان المبتدأ في هذه المواضع هو ( الفاصلة ) . في حين تأخر (المبتدأ) في بقية المواضع وعددها (41 إحدى وأربعين موضعاً) ، ولم يكن يستحق التأخير في هذه المواضع لكونه ملابسا لما يوجب له التقديم . فقد توزع المبتدأ في هذه المواضع كما يلي :
1- مبتدأ ( نكرة موصوفة ) ، وقد ورد في ( 21 إحدى وعشرين موضعا ) والوصف أحد المسوغات المبيحة للابتداء بالنكرة .
2- مبتدأ ( معرف بال ) ، وقد ورد في ( 14 أربعة عشر موضعا ) .
3- مبتدأ ( معرف بالإضافة ) ، وقد ورد في ( 6 ستة مواضع ) .
أي أن المبتدأ ( المؤخر ) في هذه المواضع كان حقه التقديم ، وكان حق الخبر أن يكون ( فاصلة ) مؤخرة كما يقتضي التركيب النحوي ذلك ، لكن ذلك لم يحدث !!
إن القول بأن غاية هذا التقديم هو الحفاظ على ( التشاكل الصوتي ) المتولد عن بناء الفواصل على حرف أو حروف متماثلة ( صوتياً ) أو قريبة التماثل ، أمر لا يتضح هنا في كل مواضع " التقديم والتأخير " في الفاصلة القرآنية . فمثلا الآية رقم ( 4 ) من سورة ( ق ) قال تعالى : )وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ { مكونة من ( خبر شبه جملة مقدم + مبتدأ نكرة موصوفة مؤخر) . وحق المبتدأ هنا (التقديم) لوجود ما يسوغ له هذا التقديم وهو ( الوصف ) . والفاصلة هنا هي كلمة ( حفيظ ) مبنية على حرف ( الظاء ) فهل نحكم للفاصلة بأنها متماثلة ( صوتيا ) مع بقية الفواصل في السورة ؟! والإجابة أن فواصل سورة ( ق ) جاءت على ( 7 سبع أحرف ) توزعت على آيات السورة البالغ عددها ( خمس وأربعين آية ) كما يلي:
م | الحرف | عدد مرات الورود |
1 | الباء | 7 |
2 | الجيم | 5 |
3 | الدال | 27 بنسبة ( 60 % ) |
4 | الراء | 2 |
5 | الصاد | 1 |
6 | الطاء | 1 |
7 | الظاء | 2 |
جدول رقم ( 2 )
إذ أغلب فواصل السورة مبني على حرف ( الدال ) ، والفاصلة التي بين أيدينا مبنية على حرف ( الظاء ) وليس بينهما أي تقارب في المخرج . إذ أمر المشاكلة الصوتية غير وارد في هذه الآية . فالتقديم هنا بلاغي محض وليس نحويا أيضا لكسره التقرير النحوي المسوغ للابتداء بالنكرة إذا وصفت . فالتقديم هنا ( للخبر ) والتأخير( للمبتدأ ) على إرادة إثبات طلاقة قدرة الخالق وليس الاختصاص ، فالسياق يدور على إنكار البعث من جانب الكفار وتحدثهم بأن الأرض ( تبلع ) فقط ، فهو الفناء المحض ، فكان الرد الإلهي بأن الذي خلق أولا يسهل عليه الخلق مرة ثانية ، كما أن ( طلاقة القدرة ) تتمثل في معرفة المقدار الذي تأخذه الأرض من أجسادهم ، لأن كل هذا ( عندنا ) فقط في ( كتاب حفيظ ) . ونفي التقديم للاختصاص هنا أمر حتمي ، لأن إرادة الاختصاص تقتضي الظن بمحاولات الاشتراك ، وهذا الموضع لا اشتراك فيه ، فلذا ينتفي هذا الغرض هنا .
ولو تتبعنا كل مواضع التقديم والتأخير ( الاسمي ) في الفاصلة القرآنية لكان لكل فاصلة خصوصية ذاتية بها في مقامها الذي ثبت فيه وتمكنت ، هذه الخصوصية تنبع من أداءات المفردات المكونة لتركيب جملة الفاصلة ، وتضافرها معا للوصول إلى قمة الأداء عند الفاصلة .
ولنأخذ مثالا آخر ، الآية رقم ( 4 ) من سورة الممتحنة قال تعالى : ) وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ( مبنية على الهيكل التركيبي التالي : ( خبر شبه جملة مقدم + مبتدأ مؤخر ) . وتأخير المبتدأ هنا على خلاف القياس النحوي الذي يحكم للمبتدأ المعرفة بالتقديم ، وعليه كان لابد في - غير القرآن – أن يكون شكل الجملة :( والمصير إليك ) . لكننا هنا نكون إزاء نفور جمالي في الأداء الصوتي المؤدي إلى الجمال الإيقاعي ( للمتلقي ) . فلو كان بناء الفاصلة على ( الخبر ) أي على حرف الكاف في ( إليك ) لما أحسسنا بالجمال الأدائي لهذه الآية . إن التقديم هنا حقق أمرين هما :
1- المشاكلة الصوتية لتقارب حرف (الراء) من مخرج حرف (الباء) الذي بنيت عليه فواصل السورة.
2- الاختصاص المنتج من تقديم الخبر ( إليك ) على المبتدأ ( المصير ) ، فالسياق يقتضي الإقرار باختصاص المولى – عز وجل – وحده بأن المآل إليه ، ونهاية المطاف لديه . ويستفاد ذلك من سياق الدعاء قبل الفاصلة ) رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ( فالدعاء في الآية مبني على تقديم (شبه جملة) كوحدة دلالية مستقلة ، على ( المتعلق به ) ، حتى إذا ما وصلنا إلى موضع الفاصلة قدم ( شبه الجملة ) على المبتدأ اطرادا على ما سبق .
وفي سياق تقديم خبر كان على اسمها ، وتقاطع سياقاته مع سياقات الفاصلة ، نجد أن هذا التقاطع ورد ممثلاً في ( 13 ثلاث عشرة آية ) . ورد فيها خبر كان مقدما على اسمها ( الفاصلة ) ، ولنضرب مثالاً لنوضح به كيفية ورود هذا النمط الأسلوبي :
قال تعالى : )فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ( سورة الملك آية رقم ( 18 ) . فقد قدم الخبر ( كيف ) أداة الاستفهام ذات الخصوصية المتفردة ، على ( كان ) واسمها المعرفة ( نكير ) . وتقديم ( كيف ) هنا واجب لاستحقاق أسماء الاستفهام الصدارة . ولكون ( كيف ) مستحقة للتصدير كانت الآية على النسق الذي لابد أن تكون عليه . واسم كان ( نكير ) ليس مؤخراً بالمعنى المفهوم لنا ، بل هو على نسقه ، فهو تالٍ للفعل الناسخ ولم يؤخر ، ولكن الخبر هو الذي قدم ليس على ( اسم كان ) بل على ( كان ) نفسها ، لوجود ما يبيح له هذا التقديم . والذي حدث في اسم كان ( الفاصلة ) هو حذف ( ياء المتكلم ) من آخره ، فكان حقه أن يكون ( نكيري ) لكن لاستمرار الدفقة الإيقاعية للفاصلة ، والمتولدة من بناء أغلب فواصل السورة على حرف ( الراء ) الذي تكرر في ( 21 إحدى وعشرين فاصلة ) من إجمالي ( 30 ثلاثين آية ) هي جملة آيات السورة ، وبنسبة ( 70% ) ، ثم حذف ( ياء المتكلم ) . والحذف هو أحد الأحكام الموجبة للمناسبة والمشاكلة الصوتية للفاصلة القرآنية . إذ يعدده السيوطي من جملة الأحكام الأربعين الموجبة للمناسبة في الفاصلة القرآنية . يقول السيوطي : " وحذف فاء الإضافة ، نحو :) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ((21)، و)فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ((22) " (23) . فعلى هذا الأساس حذفت الياء من ( نكير ) ، رعاية للمناسبة في الفاصلة .
ومثال آخر الآية رقم ( 4 ) من سورة الإخلاص ، قال تعالى : ) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ( . فالهيكلة التركيبية للآية تقوم على المفردات الآتية : ( لم جازمة + فعل مضارع مجزوم ( ناسخ ناقص ) + جار ومجرور متقدم على متعلقه + خبر يكن مقدم + اسم يكن مؤخر ) و " التقديم والتأخير " هنا ليس على القياس النحوي ، فالأصل – في غير القرآن – ( ولم يكن أحد كفوا له ) فتقديم الخبر هنا على المبتدأ على غير قياس . ولذا يجب التساؤل لم حدث هذا الاختراق التركيبي للآية ؟!
يرى مكي أن : " (أحد) اسم كان ، و( كفوا ) خبر كان ، و (له) ملغي . وقيل:( له) الخبر ، وهو قياس قول سيبويه (24) ، لأنه يقبح عنده إلغاء الظرف إذا تقدم ، وخالفه المبرد (25) ، فأجازه على غير قبح ، واستشهد بالآية ، ولا شاهد للمبرد في الآية ، لأنه ممكن أن يكون ( كفوا ) حالا من (أحد) مقدما ، لأن نعت النكرة إذا تقدم عليها نصب على الحال "(26) . فعلى هذا هناك إعرابان لكلمة ( كفواً ) :
الأول : أن تكون ( خبرا ) لكان مقدما على اسمها . والثاني : أن تكون ( حالا ) من ( أحد ) تقدمت عليه لكونه نكرة موصوفة في الأصل ، فقدمت ( الصفة ) فنصبت على ( الحال ) .
وعلى هذا يكون ( له ) الجار والمجرور ( خبراً ) لكان . وقد رد أبو حيان على هذا الرأي بقوله : " ليس الجار والمجرور منه ( تاما ) ، إنما هو ناقص لا يصلح أن يكون خبرا لكان ، بل هو متعلق بـ( كفوا ) وقدم عليه . فالتقدير : ( ولم يكن أحد كفوا له ) أي : مكافئه . فهو في معنى المفعول متعلق بكفوا . وتقدم على ( كفوا ) للاهتمام به ، إذ فيه ضمير الباري تعالى ، وتوسط الخبر وإن كان الأصل التأخر ، لأن تأخر الاسم هو فاصلة فحسن ذلك " (27) . وهذا الرأي الذي فنده أبو حيان هو الفصل إذ جعل الأمور في نصابها ، فالخبر هنا هو ( كفواً ) ، والجار والمجرور ( له ) متعلق بالخبر مقدما عليه لاشتماله على ضمير يعود على المولى- سبحانه وتعالى- فاستحق التقديم لهذا ، وللاهتمام به . أما تقدم الخبر فهو على سبيل التجوز ، وحقه التأخر ، إلا أن اسم كان حسن تأخيره لكونه ( فاصلة ) ، أي أن ( أحد ) فاصلة مبنية على حرف ( الدال ) الذي بنيت عليه فواصل السورة جميعها ، ومن هنا حسن تأخير ( اسم كان ) رعاية للتشاكل الصوتي ، ومناسبة للإيقاع المتولد من هذا التشاكل .
وهذا الرأي ارتآه أبو حيان هو خلاصة رأي أغلب النحويين و المفسرين(28) . وعليه فإن بناء ( الفاصلة ) القرآنية يخضع لقوانين نحوية وصرفية وصوتية وبلاغية تتضافر معا لتشكل منظومة الفاصلة في تقاطعات سياقاتها مع سياقات مبحث " التقديم والتأخير " .
أما شكل ( الفاصلة ) في سياق تقديم ( خبر إن ) على ( اسمها ) فقد ورد ممثلا في ( 19 تسعة عشر موضعا ) في ( حزب المفصل ) . هذه السياقات هي في جوهر أمرها سياقات لتقديم الخبر على المبتدأ ، لابسها دخول الحروف النواسخ عليها . فمثلا قوله تعالى : ) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ { سورة الغاشية الآيتان رقم (25 ، 26 ) . فهاتان الآيتان وردتا على هيكلة تركيبية واحدة تتمثل في : ( حرف ناسخ + خبر إن شبه جملة ( جار ومجرور ) مقدم + اسم إن معرفة مؤخر ) . وسبب تقديم (الخبر) هنا على غير القياس ، لأن المبتدأ معرفة مستحق للتقديم ، وتأخيره على غير قياس . وأصل الكلام - في غير القرآن - ( إن إيابهم إلينا ثم إن حسابهم علينا ) .
ولن نحكم هنا على التأخير لـ( اسم إن ) بأنه مراعاة للتشاكل الصوتي للفاصلة ، فهذا لا يمكن لكون الفاصلة في الآيتين على حرف ( الميم ) ، وأغلب فواصل السورة على ( تاء التأنيث المتحركة ) والتي وردت في ( 14 أربع عشر آية ) من جملة ( 25 خمس وعشرين آية ) هي جملة الآيات في السورة . ولو تقدم ( اسم إن ) إلى مكانه المحكوم به نحويا ، لكانت الفاصلة ( خبر إن ) على حرف واحد هو حرف ( النون ملابساً ألف المد ) . فالتشاكل الصوتي للفاصلة لا مقام له هنا ، بل إن تقديم ( خبر إن ) على غرض الاختصاص لكون المحكوم به هنا ( البعث والحساب ) مما لا سبيل لأحد إليه ، فهو بيد المولى – عز وجل – وحده .
ويلاحظ أن جميع المواضع التي تقدم فيها ( خبر إن ) كان ( شبه جملة ؛ جار ومجرور ) وهذا - وفق تقرير النحويين - مسوغ لتقديم ( خبر إن ) . أما ( اسم إن ) فكان على ثلاثة أحوال :
1- نكرة مجردة ، وقد وردت في ( 6 ستة مواضع ) .
2- نكرة موصوفة ، وقد وردت ممثلة في ( موضعين فقط ) .
3- معرفة ، وقد وردت ممثلة في ( 11 أحد عشر موضعاً ) .
معنى ذلك أن استحقاق ( اسم إن ) للتأخر لا يتمثل إلا في ( 6 ستة مواضع ) أما تأخره على غير القياس في ( 13 ثلاثة عشر موضعا ) وما كان ذلك إلا لأغراض بلاغية مستقاة من وراء هذا التوظيف لهيكل جملة ( إن واسمها وخبرها ) أو بالهيكل الفرعي ( إن + خبرها + اسمها ) ، بالإضافة إلى وضع المناسبة والمشاكلة الصوتية للفاصلة في الحسبان في الكثير من الآيات مثلما نجد في :
1- قوله تعالى : ) وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى( سورة النجم آية رقم ( 13 ) .
2- قوله تعالى : ) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى( سورة النجم آية رقم (42 ) .
3- قوله تعالى : ) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةُ الأُخْرَى( سورة النجم آية رقم ( 47 ) .
4- قوله تعالى : ) وَإِنَّ لَكَ لأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ( سورة القلم آية رقم ( 3 ) .
5- قوله تعالى : ) إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى( سورة الليل آية رقم ( 12 ) .
فهذه الآيات رُوعِيَ فيها بناء الفاصلة في سياق بنائها في فواصل السورة ، وذلك حتى تتوافق مع الإيقاع المتولد من بناء الفواصل على التماثل والمناسبة .
وعلى كل فإن بناء وتشكيل الفاصلة في سياقات " التقديم والتأخير " في الجملة الاسمية كان خاضعا في المقام الأول لمقررات الحكم النحوي في تفصيلات تقديم الخبر وما يتبعه ، وأغراض هذا التقديم ، والدلالات المستفادة من هذا التقديم تتضافر مع خصائص الفاصلة وتوظيفها في سياق هذه التفصيلات .
القسم الثاني : ما يختص بالجملة الفعلية :
تدور هيكلة الجملة الفعلية على اعتماد الفعل والفاعل ركنين أصليين لا غنى لأحدهما عن الآخر ، ولا قيام للهيكلة التركيبية في الجملة الفعلية بأحدهما دون الآخر . ويتعدى الفعل إلى نصب ركن آخر هو ( المفعول به ) بل ويمنحه رخصا تركيبية غاية في الجمال . فيمنحه التقدم على ( الفاعل ) بل والتقدم على ( الفعل ) نفسه وفقا لمنظومة سياقية يؤديها ( المفعول ) في هذه التحركات . وما يعنينا هنا هو ملابسة سياقات " التقديم والتأخير " في الجملة الفعلية ، لسياقات الفاصلة في هذه الجملة . ولذا فإن سياقات التقديم والتأخير في الجملة الفعلية في تقاطعاتها مع سياقات الفاصلة تشمل ما يلي :
1- تقديم المفعول به على الفاعل .
2- تقديم المفعول به الفعل .
3- تقديم المفعول الثاني على المفعول الأول .
فهذه التفصيلات هي محور سياقات التقديم والتأخير في الجملة الفعلية ، ولذا نفصل القول فيها .
أولاً : تقديم المفعول به على الفاعل :
ورد المفعول به مقدما على ( الفاعل ) في سياق ( الفاصلة ) أي كون ( الفاعل ) هو ( الفاصلة ) في الآية ، ورد ممثلا في ( 34 أربعة وثلاثين موضعا ) . توزع المفعول في هذه المواضع كما يلي :
1- المفعول ( ضمير متصل بالفعل ) مقدم على ( الفاعل ) المظهر المنفصل ، واجب التقديم في هذه الحالة ، ورد ممثلا في ( 31 إحدى وثلاثين موضعا ) .
2- المفعول ( اسم ظاهر ) والفاعل ( اسم ظاهر ) ، المفعول ( غير مستحق للتقديم ) ورد ممثلاً في ( 3 ثلاثة مواضع فقط ) .
وعلى هذا فإن الحديث عن تقديم المفعول به ( المضمر ) على ( الفاعل ) الذي هو بدوره ( فاصلة ) يكون من جانب بلاغية هذا التقديم الواجب هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى هي مراعاة ( المشاكلة والمماثلة ) للفاصلة ( الفاعل ) مع فواصل السور التي ترد فيها . فمثلا قوله تعالى : )عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى( سورة النجم آية رقم ( 5 ) قدم فيها المفعول به ( هاء الغيبة ) في الفعل ( علمه ) على الفاعل ( شديد العقاب ) وهذا التقديم واجب لكون المفعول به ( ضمير متصلاً ) والفاعل ( اسما ظاهراً ) . ومن ناحية أخرى جاء ( الفاعل المؤخر ) والذي هو بدوره ( فاصلة ) متشاكلاً مع أغلب فواصل السورة المبنية على ( الألف المقصورة ) والمتمثلة في ( 27 سبع وعشرين آية ) من إجمالي ( 62 اثنتين وستين آية ) هي إجمالي آيات سورة النجم . وبلاغية التقديم هنا على غرض ( التفرد ) و(الاختصاص ) فالرسول r لم يعلمه بشر ، بل علمه رسول من عند رب البشر ، وهذا هو مناط الفرق بين تعليم البشر للبشر ، وتعليم رب البشر للرسول r .
ومثال آخر ؛ قوله تعالى : )وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْْغَرُورُ( سورة الحديد رقم ( 56 ) . فقد وردت الآية على الهيكلة التركيبية الآتية : ( فعل+ مفعول به مقدم + جار ومجرور متعلق بالفعل + فاعل مؤخر وجوبا ) .
فقد قدّم المفعول به هنا وجوبا على ( الفاعل ) لإرادة ( التوبيخ ) الإلهي للمؤمنين أو للبشر إذ كيف يستحوذ عليكم الشيطان ، وقد أتتكم رسلي وكتبي ، ولذا استحققتم هذا ( التوبيخ ) في معرض الحساب يوم القيامة . أم بالنسبة للماثلة الصوتية في الفاصلة ( الفاعل ) كلمة ( الغرور ) فهي حاضرة هنا وبقوة لكون أغلب فواصل السورة مبنياً على حرف ( الراء ) الذي تمثل في ( 11 إحدى عشرة آية ) من إجمالي ( 29 تسع وعشرين آية ) هي جملة آيات السورة ، وبذلك يتحقق الغرض البلاغي من تقديم المفعول به ، ويتحقق التشاكل الصوتي والإيقاعي من تأخير ( الفاعل ) .
إن المقصد من الإشارة إلى وجوب " تقديم المفعول " أو "جواز تقديمه " هو النظر بعين أخرى غير عين البلاغة ، هذه العين تكون موجهة للمؤخر ( الفاعل ) لا للمقدم ( المفعول ) لأن مناط الاهتمام هنا هو هذا المؤخر لكونه ( فاصلة ) .
أما على صعيد جواز تقديم المفعول ، فقد ورد ممثلا في ( 3 ثلاثة مواضع ) فقط منها قوله تعالى:) وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ ( سورة القمر آية رقم ( 41 ) . فقد قدم المفعول به ( آل فرعون ) على الفاعل ( النذر ) جوازا وعلى غير قياس لكون كل من الفاعل والمفعول اسمين ظاهرين . وتحقيق البلاغة لهذا التقديم هو ( إبطال الحجة ) بمعنى أن الله – عز وجل – إذا عذبهم وعمهم بهذا العذاب فقد أبطل حجتهم بإرسال الرسل ( النذر ) . أما على صعيد ( الفاصلة ) فإن إعادة الجملة إلى رتبتها - في غير القرآن - يكون كما يلي : ( ولقد جاء النذر آل فرعون ) . فالأمر هنا يكون على اعتماد كلمة ( آل فرعون ) هي ( الفاصلة ) ، وهي بذلك لا تتواءم مع بناء هيكل الفاصلة في السورة الكريمة ، إذ ( الفاصلة ) في السورة مبنية على حرف ( الراء ) فقط منفردا . فقد هيمن على فواصل السورة كلها ، فورد في جميع آياتها ولو تحقق ما رمينا إليه لشكل هذا نبوا إيقاعيا ، ونشازا موسيقيا في سياق إيقاعي منتظم ، وهذا لا يكون . وعلى هذا يمكن القول بأن " التقديم والتأخير " هنا كان – بلا شك – من أجل رعاية الفاصلة ولأجل المناسبة والمماثلة والمشاكلة الصوتية في فواصل السورة كلها .
وعلى هذا النمط يسير سياق ( الفاصلة ) في تقاطعاتها مع سياقات تقديم المفعول به على الفاعل .
ثانياً : تقديم المفعول به على الفعل :
في حزب المفصل ورد المفعول به مقدما على ( الفعل ) في سياق ( الفاصلة ) في ( 9 تسعة مواضع ) . والنحويون يقررون مواضعا لتقديم المفعول به على الفعل تتمثل في (29) :
1- كون المفعول به من الأسماء التي لها الصدارة ، كأسماء الاستفهام،وأسماء الشرط ، وكم الخبرية.
2- أن يكون المفعول به ضميرا متصلا ، لو تأخر لزم اتصاله .
3- أن يقع المفعول به في جواب (أما) الظاهرة أو المقدرة ولا يفصل بينها وبين الفعل سوى المفعول به .
ومن خلال الاستضاءة بهذه التقريرات النحوية لتقديم المفعول به وجوبا على الفعل يمكننا تقسيم المواضع التي تقاطعت فيها ( الفاصلة ) مع سياق تقديم المفعول على الفعل كما يلي :
القسم الأول : ورد المفعول به مقدما وجوبا على ( الفعل ) في ( 5 خمسة مواضع ) هي :
1- قوله تعالى : ) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ( سورة المدثر آية رقم ( 3 ) .
2- قوله تعالى : ) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ( سورة المدثر آية رقم ( 4 ) .
3- قوله تعالى : ) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ( سورة المدثر آية رقم ( 5 ) .
4- قوله تعالى : ) أَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ( سورة الضحى آية رقم ( 9 ) .
5- قوله تعالى : ) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ( سورة الضحى آية رقم ( 9 ) .
القسم الثاني: ورد المفعول به مقدما على غير القياس النحوي على( الفعل) في(3 ثلاثة مواضع) هي :
1- قوله تعالى : ) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَىَ( سورة النجم آية رقم ( 53 ) .
2- قوله تعالى : ) وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا( سورة النازعات آية رقم ( 32 ) .
3- قوله تعالى : ) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا( سورة النازعات آية رقم ( 32 ) .
فالتقديم ( وجوبا ) للمفعول به في القسم الأول جاء على وقوع المفعول به في جواب ( أما ) سواء الظاهرة كما في الآيتين الأخيرتين ، أو ( أما ) المقدرة كما في الآيات الثلاث الأول . هذا ( الوجوب ) ساهم في إبراز أغراض هذا التقديم وهي جميعا على إرادة ( الاهتمام ) لأن المخاطب هو الرسول r في جميع هذه الآيات . كما لا ينكر أن بناء الأفعال ( الفواصل ) هنا على ( حرف الراء ) في آيات سورة المدثر جاء متوافقا مع فواصل السورة ، والتي بُنِيَ معظم فواصلها على هذا الحرف الذي ورد ممثلاً في ( 31 إحدى وثلاثين آية ) من إجمالي ( 56 ست وخمسين آية ) هي عدد آيات السورة . فالتماثل الصوتي والإيقاعي لهذه الفواصل كان حاضرا في سياق هذا التقديم . وليس الحال كذلك في آيتي سورة الضحى ، إذ أن الفاصلة في الآيتين على حرف (الراء) الذي لم يُمثَّل في السورة إلا في هاتين الآيتين . ولذا فالاتكاء على المشاكلة الصوتية هنا ليست بذات طائل . بل التوجيه البلاغي هنا يكون أقوى .
أما القسم الثاني ، والذي تقدم فيها المفعول به على ( الفعل ) بلا سند ، أو قياس نحوي ، فمناط الأمر فيه كما يتضح من سياق السور الواردة فيها تلك الآيات على إرادة التماثل والمناسبة للفواصل . ففي الآية الأولى بنيت الفاصلة على حرف المد (الألف) مناسبة لفواصل سورة النجم والذي جاء فيها ( المد ) أساساً للفواصل في ( 55 خمس وخمسين آية ) من إجمالي ( 62 اثنتين وستين آية ) هي عدد آيات السورة .
وكذلك الحال في سورة النازعات فالآيتان هنا مبنيتان على فاصلة مختومة بمد ( الألف ) . وقد جاءت هكذا لتتوافق مع أغلب فواصل السورة التي جاءت على النمط نفسه ، والتي تمثلت في ( 11 إحدى عشرة آية ) من إجمالي ( 46 ست وأربعين آية ) هي عدد آيات السورة .
وخلاصة القول : أن البحث في سر " التقديم والتأخير " في ( الفاصلة ) المتقاطعة على سياق تقديم المفعول به ( الفعل ) إنما هو في جلي الأمر مستند للتقرير النحوي والبلاغي اللذين يوجهان – بلا شك – السياق الصوتي والإيقاعي المبتغي من وراء توظيف الفاصلة .
ثالثاً : تقديم المفعول الثاني :
ورد المفعول الثاني مقدما على المفعول الأول في جملة ( المفعولين ) اللذين أصلهما ( المبتدأ والخبر ) في ( حزب المفصل ) ممثلا في ( 15 خمسة عشرة آية ) . ونجد أن هذه المواضع على ضربين هما :
الضرب الأول : تقديم المفعول الثاني على المفعول الأول ، وقد ورد ممثلا في ( 14 أربع عشرة آية ) .
والضرب الثاني : تقديم المفعول الثاني على ( الفعل ) ، وقد ورد ممثلا في ( آية واحدة ) هي قوله تعالى : ) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ( سورة الحاقة آية رقم ( 31 ) .
فالضرب الأول ورد ( المفعول الثاني ) في جميع المواضع على هيئة ( شبه الجمة ) التي سدت مسد ( المفعول الثاني ) . وقد توزعت إلى :
1- الظرف ، وقد ورد ( مفعولا ثان ) ممثلا في ( آية واحدة ) هي قوله تعالى : )سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا ( سورة الطلاق آية رقم ( 7 ) .
2- الجار والمجرور ، وقد ورد ( مفعولا ثان ) ممثلا في ( 13 ثلاث عشرة آية ) .
وهذا التقسيم مفاده الوقوف على نطاقات عمل ( المفعول الثاني ) المقدم على ( المفعول الأول ) . هذه النطاقات تستفاد من كون المفعول الثاني في الأصل ( خبر ) ، والمفعول الأول في أصله ( مبتدأ ) ، فالتقديم هنا يدور على دلالات تقديم الخبر ( شبه الجملة )على ( المبتدأ ) النكرة دوما في هذه المواضع . كما أن هذه الدلالات تتواءم وتتضافر مع الدلالات المستفادة من عد ( المفعول الأول ) في هذه المواضع (فاصلة) . وهذا التضافر يمنح سياقات السورة القرآنية أبعادا جمالية ودلالية رائعة .
ولنضرب مثالا تطبيقيا لهذا التضافر . فمثلا قوله تعالى:) وَمَنْ َيتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا( سورة الطلاق آية رقم (2) . فالهيكلة التركيبية لهذه الآية قائم على : ( جعل فعل ناسخ ناصب لمفعولين أصلهما المبتدأ والخبر + فاعل ( ضمير مستتر ) + مفعول به ثان مقدم ( جار ومجرور ) + مفعول به أول مؤخر ( مخرجا ) . وكان أصل الكلام - في غير القرآن – أن يكون كالتالي : ( يجعل مخرجا له ) . لكن تم العدول عن هذا الأصل بتقديم ما هو أصل المفعول الثاني ( الجار والمجرور ) الذي كان (خبر شبه جملة) على المفعول الأول (المبتدأ النكرة ) في الأصل . والنحو يقرر وجوب تقديم الخبر ( شبه الجملة ) على المبتدأ النكرة . ولتتخيل أن هذا الأمر سار في خطوات هي :
1- الابتداء بالنكرة على غير القياس ، ( مخرجٌ له ) .
2- تحكيم التقرير النحوي بتأخير المبتدأ وجوبا ( له مخرجٌ ) .
3- دخول الفعل الناسخ الناصب لمفعولين أصلهما المبتدأ والخبر ، ( يجعل الله له مخرجا ) .
4- استتار الفاعل لدلالة السياق قبله عليه ( يجعل له مخرجا ) .
هذه الخطوات هي بالفعل ما انتظم كل المواضع التي قدم فيها المفعول الثاني على المفعول الأول .
الدلالات المستنبطة من التقديم في هذه المواضع هي في جوهرها دلالات تقديم الخبر على المبتدأ ، ولا مجال هنا للحديث عن ( التشاكل والمماثلة الصوتية ) للفواصل .
أما الضرب الثاني ، والذي تقدم فيه ( المفعول الثاني ) على ( الفعل ) وبالتالي على ( الفاعل ) و( المفعول الثاني ) ، فقد ورد ممثلا في قوله تعالى : ) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ( . على الهيكلة التالية :
( مفعول ثان + فعل + فاعل + مفعول أول ) . لكننا هنا نجد أنفسنا إزاء ( فعل ) ليس في جملة الأفعال الناصبة لمفعولين أصلهما المبتدأ والخبر ، ونجد أن المفعول الثاني والأول هنا لا يكونان جملة اسمية مفيدة ، فما معنى قولك : ( الجحيم هو ) أو ( هو الجحيم ) لا معنى حقيقي مستفاد من وراء هذا التركيب . يقول الزمخشري : " لا تصلوه إلا الجحيم ، وهي النار العظمى لأنه كان سلطانا يتعظم على الناس" (30) .
ولا ندري لم قدّر الزمخشري هنا الاستثناء المنفي . وقد رد عليه أبو حيان بقوله : " إنما قدره لا تصلوه إلا الجحيم ، لأنه يزعم أن تقديم المفعول يدل على الحصر" (31). فالزمخشري يقدم المفعول هنا على غرض الحصر ، ولذا قدر النفي هنا . لكن لم نجد من يشير إلى المفعول الأول ( الضمير المتصل ) في الفعل (صلوه) ، وينصب اهتمام النحويين والبلاغيين على المفعول الثاني وسبب تقديمه . يقول النسفي : " نصب الجحيم بفعل يفسره صلوه " (32). ويرى العلوي أن الجحيم إنما قدم : " من أجل المشاكلة لرؤوس الآي ، ومراعاة حسن الانتظام ، واتفاق أعجاز الكلم السجعية " (33 ) . إذن الأمر يخرج على عدَّ الفعل ناصبا لمفعولين ، دون تحديد لهوية هذا الفعل ، وأن المفعول الثاني إنما قدم هنا للحفاظ على التشاكل الصوتي للفواصل . وهذا هو الرأي السائد .
تلك أهم الدلالات التي لابست فيها ( الفاصلة ) سياقات " التقديم والتأخير " في الجملة الفعلية .
القسم الثالث : ما يختص بالمكملات :
يدور سياق " التقديم والتأخير " في المكملات متقاطعا مع سياق ( الفاصلة ) على مدار كون التقديم تسبب في نقل ( الفاصلة ) من دالة إلى دالة ، هذا التحول والنقل هما مناط عملية " التقديم والتأخير " . وبالنسبة للمكملات فالأمر على السياق نفسه بلا اختلاف . وتقديم المكملات في سياق الفاصلة ورد ممثلا في :
1- تقديم المفعول المطلق .
2- تقديم الحال على عاملها .
3-تقديم النعت على منعوته .
4- تقديم أشباه الجمل . ومن خلال هذه الجزئيات نحاول تلمس سياق ( الفاصلة ) في تقاطعات " التقديم والتأخير " مع سياق المكملات .
1- تقديم المفعول المطلق :
المفعول المطلق أحد المكملات في الجملة الفعلية ، والمنوط بها أداء أدوار دلالية غاية في الأهمية . إذ يرجى من وراء توظيفه أغراض ، تتضافر بدورها مع الأغراض المتولدة من سياقات تقديمه .
هذا وقد ورد المفعول المطلق مقدما على عامله في ( حزب المفصل ) ومتقاطعا مع سياق ( الفاصلة ) في جملتها ، ممثلا في ( 6 ست آيات ) ، كانت الفاصلة ممثلة فيها بشكل ما كما سيتضح . فقد ورد المفعول المطلق . وورد مقدما على ( الفاعل ) منه في ( 4 أربع آيات ) هي :
1- قوله تعالى : ) كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ َشَكرَ( سورة القمر آية رقم (35 ) .
2- قوله تعالى : ) قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ ( سورة الملك آية رقم ( 23 ) .
3- قوله تعالى : ) قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ ( سورة الحاقة آية رقم ( 41 ) .
4- قوله تعالى : ) قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ ( سورة الحاقة آية رقم ( 42 ) .
ومقدما على ( الفاعل ) في ( آيتين ) هما :
1- قوله تعالى : ) فَيَوْمَئِذٍ لاَ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ ( سورة الفجر آية رقم ( 25 ) .
2- قوله تعالى : ) وَلاَ يُوِثقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ ( سورة الفجر آية رقم ( 26 ) .
وهذان النمطان من تقديم المفعول المطلق تقاطع مع سياق الفاصلة في هذه الآيات فمثلا في النمط الأول ، قدم المفعول المطلق على العامل فيه بألفاظ محددة هي ( كذلك ، قليلا ) وكانت الفاصلة في هذه الآيات الأربع هي على التوالي الأفعال التالية : ( شكر ، تشكرون ، تؤمنون ، تذكرون ) . فهذه الأفعال كانت هي ( الفاصلة ) في سياق هذه الآيات الأربع السابقة . والأصل في هذه الآيات أن يكون التركيب الهيكلي لها - في غير القرآن – كما يلي :
- الآية الأولى : ( نجزي من شكر جزاءً ) .
- الآية الثانية : ( تشكرون شكرا قليلاً ) .
- الآية الثالثة : ( تؤمنون إيمانا قليلاً ) .
- الآية الرابعة : ( تذكرون تذكرا قليلاً ) .
وما حدث أن حذف ( المفعول المطلق ) ليقوم ( نوابه ) بدوره ، ويراد التقديم فتتقدم النواب عن المفعول المطلق . وكان الأصل أن تكون صفات المفعول المطلق (قليلا) والتي أصبحت (نوابا) له هي (الفاصلة ) . لكن بعد حدوث التقديم تحول مركز الثقل الدلالي في الآيات ليصبح ( الفعل ) ، ومن ثم تصبح الأفعال هي ( الفواصل ) في هذه الآيات .
* ففي الآية الأولى بنيت ( الفاصلة ) على حرف ( الراء ) في السورة كلها ، ومن ثم كان التقديم هنا حتميا للحفاظ على هذا النسق الموسيقي والإيقاعي المتولد من بناء الفواصل في السورة كلها على حرف واحد هو حرف ( الراء ) .
* وفي بقية الآيات لم يكن التشاكل الصوتي ، أو رعاية رؤوس الآي حاضرا بشكل قوي ، لكون فواصل هذه الآيات على حرف غير مماثل لفواصل السور الواردة فيها ولذا كان ( الغرض البلاغي ) المتوقع من وراء هذا التقديم هو محور السياق في هذه الآيات الثلاث ، والتي كان المفعول المطلق حاضرا فيها بلفظ نائب عنه هو ( قليلا ) ، قدم على ( العامل ) فيه لمناسبات السياق .
أما النمط الثاني، والذي قدم فيه المفعول المطلق على ( الفاعل ) ، والمتمثل في آيتي سورة الفجر . فالأمر فيهما على الاهتمام بالأغراض المتوخاة من هذا التقديم مع النظر إلى التماثل والمشاكلة الصوتية للفاصلة الممثلة في كلمة ( أحد ) والتي تقع ( فاعلا ) ، والفاصلة هنا مبنية على حرف ( الدال ) الذي شكل ( 10 عشر آيات ) من جملة آيات السورة البالغ عددها ( 30 ثلاثين آية ) . إذن يتحقق هنا أمران : الأول : التقديم لغرض الاختصاص " مراعاة جانب اللفظ والمعنى جميعا ، فالاختصاص أمر معنوي ، والتشاكل أمر لفظي " (34 ) . ولذا لا منافاة إطلاقا بين الأمرين ، بل إن تضافرهما معا هو عين المراد .
تلك هي أهم دلالات التقديم والتأخير في الفاصلة في سياق التقديم والتأخير في جملة المفعول المطلق .
2- تقديم الحال على عاملها :
وردت الفاصلة القرآنية في جملة الحال المتقاطعة مع سياقات " التقديم والتأخير " في (10 عشرة آيات) . وتقديم الحال " يفيد أنه جاء على هذه الصفة مختصا بها من غيرها من سائر صفاته " (35) . وقد تنوع الحال المقدم إلى نوعين هما :
1- لفظ ( كيف ) ، وقد ورد ممثلا في ( 7 سبع آيات ) .
2- شبه الجملة ، ( الجار والمجرور ) ، وقد ورد ممثلا في ( 3 ثلاث آيات ) .
فالنمط الأول للحال قدم فيه لاستحقاق اسم الاستفهام الصدارة ، فلا سبيل إلى تأخير الحال وعلى هذا فإن الفاصلة في هذه الآيات السبع هي ( الفاعل ) في الحال أي ( الفعل ) . لكن حفظ الرتبة هنا للحال المقدم هل أسهم في الحفاظ على السياق الإيقاعي للفاصلة ؟! والإجابة تتضح من استعراض سياق الحال في هذه الآيات :
* ففي الآية رقم ( 36 ) من سورة القلم ) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ( بنيت الفاصلة هنا ، الفعل ( تحكمون ) على حرف النون ، وهو الحرف الذي بنيت عليه أغلب فواصل السورة ، إذ ورد هذا الحرف في بناء فواصل آيات السورة ممثلا في ( 43 ثلاث وأربعين آية ) من جملة ( 52 اثنتين وخمسين آية ) هي عدد آيات السورة ولذلك فإن بناء ( الفاصلة ) هنا على حرف ( النون ) أسهم في الحفاظ على التماثل الصوتي والإيقاعي لفواصل السورة .
* وفي الآيتين ( 19 ، 20 ) من سورة المدثر ) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ( تكرر الأمر نفسه ، إذ كان بناء الفاصلة هو الموجه لهذا التقديم . فالفاصلة في الآيتين هنا الفعل (قدر) مبنية على حرف ( الراء ) الذي بنيت عليه معظم فواصل السورة ، فقد ورد ممثلا في ( 31 إحدى وثلاثين آية ) بنسبة ( 55 % ) من جملة فواصل السورة البالغ عدد آياتها ( 56 ست وخمسين آية ) .
* وفي الآيات ( 17 ، 18 ،19 ، 20 ) من سورة الغاشية ) أَفَلاَ يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَِتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفَعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ( كان بناء الفاصلة على حرف ( التاء ) ، وهي ( تاء التأنيث الساكنة ) والتي لم ترد ممثلة إلا في هذه الآيات الأربع فقط . فالأمر إذن ليس على مدار الحفاظ على إيقاع الفاصلة ، بل هو حينئذ على الأغراض البلاغية المتوخاة من وجوب تقديم الحال على ( العامل ) فيه . هذه الأغراض تقوم على الإشارة إلى مواقف متعلقة بعملية الخلق هي ( خلق الإبل ، وخلق السماء ، وخلق الجبال ، وخلق الأرض ) ، وهذه المواقف لم يكن ثمة سبيل لبشر أن يعاينها ، فالأمر هنا على ( الاعتبار والعظة ) المستفادة من بيان (الكيفية) التي تمت بها عمليات الخلق هنا . فتوظيف ( كيف ) كحال مقدمة على ( عاملها ) تفتح باب التصور الذهني مصحوبا بالانبهار من عظمة عملية الخلق المتنوعة هنا ، ومن ثم فإن هذا التصور يفضي بنا إلى الانبهار بالخالق – جل وعلا – وهذا هو المراد من وراء التقديم في هذه الآيات .
أما توظيف (شبه الجملة ؛ الجار والمجرور) كحال مقدمة على (عاملها) ، فقد ورد في (ثلاث آيات) هي :
- قوله تعالى : ) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ ( سورة المدثر آية رقم ( 40 ) .
- قوله تعالى : ) عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ ( سورة المطففين آية رقم ( 23 ) .
- قوله تعالى : )َ عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ( سورة المطففين آية رقم ( 35 ) .
فمدار التقديم هنا بالدرجة الأولى على جواز هذا التقديم لا وجوبه ، وهذا يفضي بنا إلى استنتاج أن التقديم كان بهدف الحفاظ على النسق الإيقاعي للفواصل في هذه الأبيات .
* فآية سورة المدثر الفاصلة فيها مبنية على حرف ( النون ) ، والذي هو أحد الحروف التي بنيت عليها فواصل السورة ، إذ ورد ممثلا في ( 10 عشر آيات ) من آيات السورة . ويمكن القول أيضا بأن تقديم ( الحال ) هنا على غرض بلاغي دقيق وهو( البشارة ) هذه البشارة للمؤمنين يجعل الأمر على كونهم في الجنات ( يتسامرون ) . ومن هذه المسامرات سؤالهم عن ( المجرمين ) . لكن لو دار الأمر على الابتداء بالسؤال أولا ثم بناء الحال ( شبه الجملة ) على ( الفعل ) لكان الأمر على غير ذلك ، فيكون مدار السياق على أن السؤال هنا على وجهه ، لا على وجه المسامرة .
* أما الآيتان رقم ( 23 ، 35 ) من سورة المطففين فهما على مدار السياق السابق نفسه ، على مراعاة التشاكل الصوتي والإيقاعي للفاصلة والتي هي مبنية على حرف ( النون ) الذي ورد ممثلا في نهاية الفواصل في (27 سبع وعشرين آية) من جملة آيات السورة البالغ عددها (36 ست وثلاثين آية). وعلى غرض( البشارة ) المتوقع من تقديم الحال ( شبه الجملة ) ، و( النكاية ) بأعداء الله الكافرين الذين كانوا يسخرون منهم في الدنيا .هكذا تسير دلالات توظيف الفاصلة القرآنية في سياق التقديم في جملة الحال .
3- تقديم النعت على منعوته :
اتفق النحويون على أن النعت إذا صلح لمباشرة العامل وكان معرفة جاز تقديمه ، على أن يعرب المنعوت بدلاً منه (36) . ويرى ابن عصفور : أنه لا يجوز تقدم النعت على المنعوت إلا ما سمع منه وهو قليل (37) . هذا وللعرب في مثل هذا الأسلوب وجهان :
الأول : تقديم النعت وإبقاؤه على ما كانت عليه قبل التقديم ، أي على حكمها الإعرابي .
والثاني : أن تضاف الصفة المقدمة إلى الموصوف . أما إذا كان المنعوت نكرة ، وتقدم على منعوته ، فإنه ينصب على ( الحال ) .
هذا وقد ورد تقديم النعت على المنعوت في ( حزب المفصل ) في ( آيتين ) هما :
- قوله تعالى : ) وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ( سورة الحاقة آية رقم ( 17 ) .
- قوله تعالى : ) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ( سورة الحاقة آية رقم ( 18 ) . فقد قدم النعت هنا (شبه الجملة) في الآية الأولى الظرف المكاني (فوقهم) مقدم على المنعوت الفاعل( ثمانية) . ووفقا لرأي مكي (38) فإن ( فوقهم ) هنا أصلح ( للحالية ) منها للنعتية ، لأن نعت النكرة إذا قدم عليها نصب على الحال . لكننا هنا نخرج هذا النعت على النعتية تقيداً بمفردات النحويين في هذا الأمر . والفاصلة هنا متمثلة في الفاعل (ثمانية) وسياق الكلام -في غير القرآن- ( ويحمل ثمانيةٌ عرشَ ربك فوقهم يومئذ ) . لكن الذي حدث هنا هو توالي ألوان من التقديم تمثلت في :
1- تقديم المفعول ( عرش ) على الفاعل ( ثمانية ) على غير قياس .
2- تقديم النعت ( فوقهم ) على المنعوت ( ثمانية ) على غير قياس .
3- تقدم الظرف الزماني ( يومئذ ) بحرية ، إذ لا رتبة له .
هذه الألوان من التقديم تضافرت معاً تشكل منظومة سياقية ودلالية في هذه الآية مدارها (التسليم التام ) بالقدرة العظمى للمَلِكِ - جل شأنه - فمن يَحمل وكيف يَحمل ؟ أيَحمل أم يُحمل ؟ . كما أن إرادة الحفاظ على النسق الصوتي والإيقاعي المتولد من بناء الفاصلة على ( تاء التأنيث المتحركة ) والتي وردت ممثلة في آيات السورة في (23 ثلاث وعشرين آية) من (52 اثنتين وخمسين آية) هي جملة آيات السورة . فهذه التداخلات السياقية كان لها أكبر الأثر في التوجيه البلاغي لهذه الآية .
* أما الآية الثانية فهي على المدار نفسه ، لا تكاد تختلف في دلالاتها إلا في كون النعت شبه الجملة المقدم هنا ( جار و مجرور ) وهو ( لكم ) مقدم على المنعوت النكرة ( خافية ) . فالدلالات في هذه الآية هي نفسها المنتجة من سياق الآية السابقة .
تلك هي أهم دلالات ورود الفاصلة في سياق التقديم في جملة النعت .
4- تقديم أشباه الجمل :
يقصد بأشباه الجمل هنا ؛ الظرف ، والجار والمجرور . وتوظيف الظرف والجار والمجرور في سياق تفصيلات " التقديم والتأخير " أمر غريب إذ أن التقرير النحوي لأشباه الجمل أنهما مما لا رتبة له ، والعرب تتوسع فيها ما لا تتوسع في غيرهما . لكننا في سياق البحث عن " التقديم والتأخير " في الفاصلة القرآنية وجدنا لأشباه الجمل دوراً كبيراً ومؤثراً في توجيه تفصيلات " التقديم والتأخير " في الفاصلة القرآنية . فقد أحصينا مواضع كان لأشباه الجمل فيها الكلمة العليا في توجيه دلالات الفواصل القرآنية . هذه المواضع تمثلت في :
1- تقدم الظرف على المفعول به ، والذي ورد ممثلاً في ( آيتين فقط ) .
2- تقدم الجار والمجرور على المفعول به ، والذي ورد ممثلاً في ( 52 اثنتين وخمسين آية ) .
3- تقدم الجار والمجرور على المفعول المطلق ، والذي ورد ممثلاً في ( 8 ثماني آيات ) .
4- تقدم الجار والمجرور على الحال ، والذي ورد ممثلاً في ( 5 خمس آيات ) .
5- تقدم الجار والمجرور على المتعلق به ، والذي ورد ممثلاً في ( 53 ثلاث وخمسين آية ) .
أي أن أشباه الجمل أسهمت في توجيه سياقات التقديم في الفاصلة القرآنية ، وتمثلت في (110 مائة وعشر آيات) بنسبة (29.6%) من جملة الآيات التي تقاطعت فيها الفاصلة القرآنية مع سياقات " التقديم والتأخير " .
ولتقديم أشباه الجمل دلالات عديدة ، يقول العلوي : " اعلم أن الظرف لا يخلو حاله إما أن يكون وارداً في الإثبات ، أو يكون وارداً في النفي . فإذا ورد في الإثبات فتقديمه على عامله إنما يكون لغرض لا يحصل مع تأخيره ، فلا جرم التزم تقديمه ، لأن في تأخيره إبطالاً لذلك الغرض " (39 ). وعلى هذا الرأي فإن تقديم أشباه الجمل يكون على إفادة غرض ما من وراء هذا التقديم ، هذا الغرض ينتفي إذا تأخرت أشباه الجمل .
ولنحاول الآن الوقوف على حركية ( أشباه الجمل ) في هذه التركيبات للوقوف على مدى ما أسهمت به من دلالات في سياق ( الفاصلة القرآنية ) . فمثلاً قوله تعالى : ) إِنَّ هَؤُلاَء يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًاً ثَقِيلاً( سورة الإنسان آية رقم (27) ضربت هذه الآية للدلالة على تقدم (الظرف) على ما هو أولى منه بالتقديم ( المفعول به ) فأصل الكلام - في غير القرآن - : ( إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون يوماً ثقيلاً وراءهم ) . وما حدث هنا هو تقديم ظرف المكان ( وراءهم ) على المفعول به ( يوماً ) . والتقديم الذي حدث هنا على غرضين :
الأول : بلاغي يتعلق بمدلول كلمة ( وراءهم ) التي تشير إلى ( اليوم الآخر ) ، فكأن هؤلاء المعرضين عن الآخرة ، استقبلوا ( العاجلة ) الدنيا بوجوههم ، وأداروا الظهور للآخرة ( وراءهم ) فصارت بمنزلة ( الوراء ) مع كونها هي ( الأمام ) . وهذا الجمال في الآداء التعبيري بهذا اللفظ عضد الغرض من وراء وصف المفعول به هنا ؛ وهو ( الإشعار بالغفلة الشديدة ) . والذي عضد أيضا هذا الغرض وصف المفعول به بالصفة ( ثقيلاً ) ، فهذا الوصف أمعن في إبراز الغفلة ، وهول ما ينتظرهم في هذا اليوم .
والغرض الثاني: إيقاعي يتعلق ببناء الفاصلة في الآية ، والتي بنيت على حرف (اللام المعانق لألف المد) ، هذا الحرف الذي بنيت عليه ( 9 تسع فواصل ) في السورة . ومعظم فواصل السورة على حرف ( الراء المعانق لألف المد ) ، وحرف ( الميم المعانق لألف المد ) وهذه الأحرف الثلاثة جميعها متقاربة المخارج ، ولذا فالقول بالتشاكل والمماثلة الصوتية يكون حاضراً في هذا المقام . ويكفينا أن نشير إلى شكل الآية لو لم يقاطع سياقها "التقديم والتأخير" فشكلها - في غير القرآن - يكون كالتالي : (ويذرون يوماً ثقيلاً وراءهم ) .
فاعتماد الفاصلة هنا سيكون كلمة ( وراءهم ) مما سيشكل نبوا موسيقياً وإيقاعياً في سياق فواصل السورة . ومن هنا تأتي الإشارة إلى الأهمية البلاغة لهذا التقديم في الحفاظ على سياق الفاصلة في السورة .
* أيضا قوله تعالى : ) مَالَكُم لاَ تَرْجُونَ للهِ وَقَارًا( سورة نوح آية رقم ( 13 ) . تم تقديم الجار والمجرور (لله) على ما هو أولى منه بالتقديم المفعول به (وقارا) . هذا التقديم يفنده الزمخشري بقوله : " ) لاَ تَرْجُونَ للهِ وَقَارًا( لا تأملون له توقيراً أي تعظيما . والمعنى مالكم لا تكونون على حال تأملون فيها تعظيم الله إياكم في دار الثواب . و( لله ) بيان للموقر ، ولو تأخر لكان صلة للوقار " (40) . وقد أحسن الزمخشري في هذا التحليل البلاغي ، لكني لم أفهم مقصده بكلمة ( صلة ) ولعل مقصده أن يكون ( صفة ) لهذا المفعول .
والغرض المتوخى من وراء توظيف هذا التقديم هو (التهويل) إذ كيف لا ترجون ( لله) وقارا ؟! ، فهذا التقديم هو مناط الاهتمام في الآية .
كما أن للتقديم دوراً في الإسهام في المشاكلة الصوتية للفاصلة في السورة ، إذ هي مبنية في معظم فواصلها على حرف ( الراء المعانق لألف المد ) ، وتكرر ذلك في ( 17 سبع عشرة آية ) من إجمالي ( 28 ثمان وعشرين آية ) هي جملة آيات السورة .
* وفي قوله تعالى : ) وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ( سورة التغابن آية رقم ( 13 ) تقدم الجار والمجرور (على الله ) على المتعلق به الفعل ( يتوكل ) ، على قصد ( القصر ) أي أنه لا يجوز للمؤمنين أن يتوكلوا إلا على الله وحده . فهذا ( القصر ) هو عين الحقيقة المرادة في الآية . والآية مصدرة بالتوحيد ، ونفى الإشراك ، ولذا كان لا بد من اتباع هذا التوحيد بكمال الاتكال على الله - عز وجل - . يقول البيضاوي : " لأن إيمانهم بأن الكل منه يقتضي ذلك " (41) . فالتوحيد يقتضي حسن التوكل على هذا الإله الواحد المتكفل بقضاء حوائج خلقه .
* وفي قوله تعالى : )وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ( سورة المدثر رقم ( 7 ) تقدم الجار والمجرور ( لربك ) على المتعلق به الفعل ( اصبر ) . هذا التقديم قائم في المقام الأول من أجل الحفاظ على التشاكل الصوتي في الفواصل المتتالية والمبنية على ( حرف الراء ) من أجل إشعار المتلقي بأهمية ما يتلى .
يقول د . السيد خضر : " الفاصلة عنصر أساسي من عناصر التصوير باللوحة القرآنية ، حيث أن اللوحة القرآنية تتبع كل آياتها تقريباً فاصلة واحدة أو فواصل متقاربة الإيقاع " (42) . هذه اللوحات هي مكونات إبداعية للسور القرآنية . ففي كل سورة تتكرر اللوحات وتتضافر فيما بينها لتؤدي أهدافا ومقاصدا من وراء هذا التوظيف الدلالي الرائع .
وفي سورة المدثر تبدأ بنداء الله تعالى لرسوله r ، وإسداء بعض الأوامر والنواهي إليه في الآيات من ( 1- 7 ) ، ونجد الفواصل في هذه اللوحة تنتهي ( براء ) قبلها حرف متحرك مع تقارب في الوزن ، ومنها ( المدثر ، وأنذر ، وكبر ، طهر ) (43) .
والسؤال الآن لم اختيار حرف ( الراء ) هنا في هذه الآيات ؟! والإجابة نجدها في الإحصاء الذي قدمه لنا د . السيد خضر حول فواصل القرآن إذ احتلت ( الراء ) المركز الثالث في أكثر فواصل القرآن عددا ، وتكررت ( الراء ) في الفواصل القرآنية في ( 690 ستمائة وتسعين آية ) بنسبة ( 11.04 % ) من جملة فواصل القرآن (44) .
وبناء على هذه الملاحظة نشير إلى أن ( حرف الراء ) يتميز بنسبة وضوح سمعي كبيرة ، هذا الوضوح السمعي جعله يتكرر في فواصل القرآن . كما أن بناء الفاصلة على شكل ( الراء الساكنة ) لا يتمثل إلا في مواضع ( الحث والاستنفار ) كما في آيات سورة ( المدثر ) التي بين أيدينا فهي محققة للمراد من الأمر والنهي للنبي r ، وهو هذا الاستنفار .
هكذا تسهم ( أشباه الجمل ) في تعضيد سياقات ( الفاصلة ) في تقاطعاتها مع سياقات " التقديم والتأخير " فيها . كما أن الهدف الأسمى لألوان " التقديم والتأخير " في أشباه الجمل هو الحفاظ على التدفق الإيقاعي ، والتشاكل الصوتي للفواصل القرآنية في سياقات ( حزب المفصل ) .
القسم الرابع : ما يختص بالفصل :
لأشباه الجمل دور آخر غير الذي تقوم به بالنسبة للمتعلق به . هذا الدور يتمثل في كونها ( فواصل ) بمعنى ( معترضات ) بين ما يكون كالجملة الواحدة . وقد قرر النحويون مواضعاً لا يحسن فيها الفصل ، ويقبح . من هذه المواضع التي قرروها (45) :
1- الفصل بين الصلة والموصول .
2- الفصل بين العدد وتمييزه .
3- الفصل بين الجار والمجرور .
4- الفصل بين ( قد ) والفعل بعدها .
5- الفصل بين المضاف والمضاف إليه .
6- الفصل بين الصفة والموصوف .
7- الفصل بين حرف العطف وتاليه .
8- الفصل بين الحروف النواصب وبين منصوبها .
9- الفصل بين ( لم ) ومجزومها .
10- الفصل بين كم الخبرية ومميزها المجرور .
أما بالنسبة للفصل في( حزب الفصل ) فقد وقع في سياق ( الفاصلة ) على خمسة أضرب هي :
1- الفصل بين المبتدأ والخبر بالجار والمجرور .
2- الفصل بين اسم كان وخبرها بالجار والمجرور .
3- الفصل بين اسم إن وخبرها بالجار والمجرور .
4- الفصل بين الفعل والفاعل بالجار والمجرور .
5- الفصل بين الصفة والموصوف بالجار والمجرور .
و الأضرب الثلاث الأولى هي في حقيقة أمرها نوع واحد ، إذ يمكن رد كل من ( الفصل بين اسم كان وخبرها ) ، و ( الفصل بين اسم إن وخبرها ) إلى النوع الأول ، وهو الفصل بين (المبتدأ والخبر) واعتماد ذلك نوعاً واحداً . هذا وقد ورد ( الفصل ) بين ركني الجملة الاسمية ( المبتدأ والخبر ) و( اسم كان وخبرها ) و ( اسم إن وخبرها ) ممثلاً في ( 83 ثلاث وثمانين آية ) .
أما الفصل بين ( الفعل والفاعل ) فتمثل في ( 14 أربع عشرة آية ) . وتمثل الفصل بين ( الصفة والموصوف ) في ( 7 سبع آيات ) .
ومما يجب ملاحظته هنا أن ( الجار والمجرور) هو ( الفاصل ) بين أركان هذه الجمل ، كما أنه - في أصل الكلام - كان يجب أن يكون هو ( الفاصلة ) التي تختم بها الآيات . إلا أن محكمات السياق والدلالات هي التي سمحت له بهذا التقديم غير الرتبي ، والفصل بين هذه الأركان . فمثلاً في النوع الأول كان يجب أن يكون ( الجار والمجرور ) هو ( الفاصلة ) ، فلما حدث هذا الفصل ، تحولت مركزية الفاصلة إلى ( الخبر ) . ويمكننا تمثيل ما حدث في الجدول الآتي :
النوع | الفاصلة في غير القرآن | الفاصلة في القرآن |
الفصل بين المبتدأ والخبر بالجار والمجرور . | الجار والمجرور | الخبر . |
الفصل بين اسم كان وخبرها بالجار والمجرور . | بالجار والمجرور | خبر كان . |
الفصل بين اسم إن وخبرها بالجار والمجرور . | بالجار والمجرور | خبر إن . |
الفصل بين الفعل والفاعل بالجار والمجرور . | بالجار والمجرور | الفاعل . |
الفصل بين الصفة والموصوف بالجار والمجرور. | بالجار والمجرور | الصفة . |
جدول رقم ( 3)
إذن تم العدول عن وضعية ( الركن الثاني ) من هذه الأنماط التركيبية للجمل السابقة لإحلال عنصر آخر في وصفية أخرى . كل هذا لإرادة بناء الفاصلة في هذه المواضع على نمط معين .وقد نتساءل ألا يمكن عد ( الفصل ) بين هذه الأركان من قبيل تقديم أشباه الجمل ؟ ! والإجابة أن وضعية ( الجار والمجرور ) هنا هي التي حكمت له بحكم ( الفصل ) ، لوقوعه بين هذه الأركان .
ولنحاول الآن تلمس الدلالات لهذه المواضع . فمثلاً قوله تعالى : ) ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ( سورة ق آية رقم ( 44 ) . فقد فصل هنا بالجار والمجرور ( علينا ) بين الخبر( حشرٌ ) الموصوف وصفته ( يسيرٌ ) . فالفصل هنا فصل بين ( الصفة والموصوف ) . وأصل الكلام - في غير القرآن - : ( ذلك حشرٌ يسيرٌ علينا ) . إلا أن إرادة المحافظة على التماثل الصوتي والإيقاعي للفاصلة في السورة كان هو الموجه الأول لهذا الفصل ، رغم أن بناء الفاصلة في سورة ( ق ) على حرف ( الراء ) لم يكرر إلا في ( آيتين ) فقط ، منهما هذه الآية التي بين أيدينا . إذن الموجه هنا هو الحفاظ على نمط سياقي وإيقاعي مقبول ، إذ لو بنيت الفاصلة هنا على كلمة ( علينا ) ، وأردنا وصل الآية بما بعدها لشكل ذلك نبوا إيقاعياً وصوتيا ملحوظاً .
كذلك قوله تعالى : )فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى( سورة النجم آية رقم (10) . تم الفصل هنا بالجار والمجرور ( إلى عبده ) بين الفعل ( أوحى ) والفاعل الاسم الموصول (ما) . هذا الفصل الذي كان بغرض الحفاظ على النمط السياقي والإيقاعي للفاصلة في السورة ، والتي بني مقطعها على ( الألف المقصورة ) بالنسبة للأسماء ، وعلى ( ألف المد ) بالنسبة للأفعال . والفاصلة هنا ( أوحى ) مبنية على ( ألف المد ) الذي تكرر في فواصل السورة في ( 28 ثمان وعشرين آية ) بنسبة ( 45% ) من جملة آيات السورة . وهذا الفصل بين الفعل والفاعل بالجار والمجرور كان مراداً منه غرضان هما :
الأول : الحفاظ على سياق المماثلة والمشاكلة في بناء الفاصلة في السورة .
والثاني : بلاغي ، يتمثل في إفادة الاختصاص ونفي المشاركة ، فالوحي لا يكون إلا ( لعبده ) r .
وهكذا يدور ( الفصل ) على مدار سياقي ودلالي يهدف من ورائه ، ويقصد من توظيفه .
وخلاصة القول :
إن " التقديم والتأخير " في سياق الفاصلة القرآنية كان متمحوراً في المقام الأول حول المشاكلة والمماثلة الصوتية ، إذ هي مناط الأمر كله . ولم يمنع ذلك أداء سياقات " التقديم والتأخير" لأغراض بلاغية متضافرة مع سياق الفاصلة .
على أنه يجب أن نلاحظ أن " التقديم والتأخير " في الفاصلة في سياق الجملة الفعلية كان أكثر استحواذاً وهيمنة ، إذ بلغ عدد الفواصل المقدمة في سياق الجملة الفعلية كان أكثر استحواذاً وهيمنة ، إذ بلغ عدد الفواصل المقدمة في سياق الجملة الفعلية (217 مائتين وسبع عشرة آية) بنسبة ( 53.9 % ) على حين بلغ عدد الفواصل المقدمة في سياق الجملة الاسمية ( 185 مائة وخمس وثمانين آية ) بنسبة ( 46 % ) من إجمالي الآيات . وهذه الهيمنة يجب تفسيرها في إطار إفادات التعبير بالجملة الفعلية ، والتي تدور على مدارات التجدد ، وهذا مناسب لسياقات النص القرآني ، التي تتسم بالعطاء المستمر ، والمنح المتواصل ، وهذا أحد إعجازات هذا النص المعجز .
وبحق فإن الفاصلة القرآنية تحتاج إلى دراسة متكاملة تضم في جنباتها المستويات الأربع للغة من حيث النحو والصرف والدلالة والصوت ، للوقوف على الشبكة الدلالية التي تحكم النسيج السياقي للفاصلة ، وتوظيف ذلك في إطار النسيج القرآني كله .
الهوامش :
1. - ينظر : الجوهري الصحاح ، مادة ( فصل ) ، 4 / 116 . – الرازي ، مختار الصحاح ، 298 . – الفيومي ، المصباح المنير ، 246 . - ابن منظور ، لسان العرب ، مادة ( فصل ) ، 8 / 177 .
2. - الخليل بن أحمد الفراهيدي ، العين ، مادة ( سجع ) ، 2 / 244 .
3. - الرماني ،النكت ، 91 .
4. - ابن سنان الخفاجي ، سر الفصاحة ، 173 .
5. - الباقلاني ، إعجاز القرآن ، 270 .
6. - الداني ، التيسير في مذاهب القراء السبعة ، 32 .
7. - السابق ، 37 .
8. - الزركشي ، البرهان في علوم القرآن ، 1 / 53 .
9. - سورة فصلت : آية رقم ( 3 ) .
10. - الزركشي ، البرهان في علوم القرآن ، 1 / 54 .
11. - أبو داود ، السنن ، باب ما جاء كيف كانت قراءة النبي r ، حديث رقم ( 1466 ) .
12. - ينظر : محمد الحسناوي ، الفاصلة في القرآن ، 145– 162. عيد شبايك ، الفاصلة القرآنية ، 50 - 68.
13. - ابن رشيق ، العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده ، 1 / 154 .
14. - سماها ( الرماني ) بالمتجانسة ، وسماها كل من الخفاجي و الزركشي و السيوطي " بالمتماثلة " وسماها ابن القيم ذات المناسبة التامة . ينظر : الرماني ، ثلاث رسائل ، 90 . - ابن سنان ، سر الفصاحة ، 203 . - الزركشي ، البرهان ، 738 . - السيوطي ، الإتقان ، 2 / 105 . - ابن قيم الجوزية ، بدائع الفوائد ، 1 / 88 .
15. - سماها الرماني ، والخفاجي ، والزركشي ، والسيوطي ( بالمتقاربة ) ، وسماها ابن القيم ( ذات المناسبة غير التامة ) . ينظر : الرماني ، ثلاث رسائل ، 90 .- ابن سنان ، سر الفصاحة ، 204. - الزركشي ، البرهان ، 1/ 73 . - السيوطي ، الإتقان ، 2 / 104 . - ابن القيم ، بدائع الفوائد ، 1 / 89 .
16. - د . محمد الحسناوي ، الفاصلة في القرآن ، 146 .
17. - ابن قيم الجوزية ، الفوائد المشوق لعلوم القرآن ، 255 – 228 .
18. - ينظر : ابن حجة ، خزانة الأدب ، 119 . - السيوطي ، الإتقان في علوم القرآن ، 2 / 104 .
19. - ينظر : ابن القيم الجوزية ، الفوائد ، 1 / 76 . - ابن أبي الإصبع المصري ، بديع القرآن ، 107 .
20. - العلوي ، الطراز ، 236 .
21. - سورة القمر : آية رقم ( 18 ) .
22. - سورة الرعد : آية رقم ( 3 ) .
23. - السيوطي ، معترك الأقران في إعجاز القرآن ، 1 / 27 .
24. - ينظر : سيبويه ، الكتاب ، 1 / 56 .
25. - ينظر : المبرد ، المقتضب ، 4 / 90 .
26. - مكي بن أبي طالب ، مشكل إعراب القرآن ، 2 / 854 .
27. - أبو حيان ، البحر المحيط ، رقم ( 3 ) .
28. - ينظر : الأخفش ، معاني القرآن ، 2/589 . - النحاس ، إعراب القرآن ، 5 / 312 .
29. - ينظر : ابن جني ، الخصائص ، 2 / 384 . - ابن الناظم ، شرح الألفية ، 227 . – المرادي ، توضيح المقاصد ، 2 / 16 .
30. - الزمخشري ، الكشاف ، 4 / 604 .
31. - أبو حيان ، البحر المحيط ، 10 / 261 .
32. - النسفي ، تفسير النسفي ، 4 / 288 .
33. - العلوي ، الطراز ، 234 .
34. - العلوي ، الطراز ، 235 .
35. - السابق ، 237 .
36. - ابن مالك ، شرح التسهيل ، 169 . - الرضي ، شرح الكافية ، 1 / 317 .
37. - ابن عصفور ، شرح جمل الزجاجي ، 1 / 218 .
38. - مكي بن أبي طالب ، مشكل إعراب القرآن ، 2 / 854 .
39. - العلوي ، الطراز ، 236 .
40. - الزمخشري ، الكشاف ، 4 / 918 .
41. - البيضاوي ، أنوار التنزيل ، 5 / 318 .
42. - د. السيد خضر ، الفاصلة القرآنية ، 147 .
43. - السابق ، 148 .
44. - د . السيد خضر ، الفواصل القرآنية ،148 .
45. - ينظر : سيبويه ، الكتاب، 1 / 176 - 179 ، 1 / 180 ، 2 / 164 - 166 .
46. المبرد ، المقتضب ، 1 / 25 ، 2 / 323 ، 3 / 55 ، 3 / 195 ، 4 / 98 - 4 / 302 .
47. ابن جني ، الخصائص ، 2 / 392 - 413 . - ابن عقيل ، شرح الألفية ، 2 / 89 ، 3 / 344 .
Thank you for your wonderful topics :)
ردحذفموضوع مميز جدا .. شكرا لكم
ردحذفwohnungsräumung wien
wohnungsräumung wien
موضوع مميز جدا .. شكرا لكم
ردحذفwohnungsräumung wien
wohnungsräumung wien
ردحذفجزاكم الله خيرا
حائط للصور مدير موقع
thank you
ردحذفمدير موقع وى كير جيرماني
thank you
ردحذفمدير موقع شاليهات القاضى
ردحذفthank you
مؤسسة تنظيف