الأغراض البيانية للجملتين : الاسمية ، والفعلية في القرآن الكريم

الأغراض البيانية للجملتين : الاسمية ، والفعلية في القرآن الكريم

إن خير ما توصف به الجملة في القرآن ، أنها بناء قد أحكمت لبناته ، ونسقت أدق تنسيق ، لا تحس فيها بكلمة تضيق بمكانها ، أو ننبو عن موضعها ، أو لا تتعايش مع أخواتها ، حتى صار من العسير ، بل من المستحيل أن تغير كلمة بكلمة ، أو تستغني فيها عن لفظ ،
 أو أن تزيد فيها شيئا ، وصار قصارى أمر من يريد معارضة جملة في القرآن ، أن يرجع بعد طول المطاف إليها ، كأنما لم يخلق الله لأداء تلك المعاني ، 
غير ما اختاره القرآن لهذا الأداء. قال ابن عطية : عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن ( 541ه) : ( وكتاب الله تعالى لو نزعت منه لفظة ، ثم أدير لسان العرب على لفظة أحسن منها لم يوجد ، ونحن يتبين لنا البراعة في أكثره ، ويخفى علينا وجهها في مواضع ،
 لقصورنا عن مرتبةالعرب يومئذ في سلامة الذوق ، وجودة القريحة ) (21)يقول مصطفى صادق الرافعي : ( وإنك لتحار إذا تأملت تركيب القرآن ، ونظم كلماته في الوجوه المختلفة ، التي يتصرف فيها ، وتقعد بك العبارة إذا أنت حاولت أن تمضي في وصفه ، 
حتى لا ترى في اللغة كلها أدل على غرضك ، وأجمع لما في نفسك ، وأبين لهذه الحقيقة ، غير كلمة الإعجاز ……. إلى أن يقول : فترى اللفظ قارا في موضعه ، لأنه الأليق في النظم ، ثم لأنه مع ذلك الأوسع في المعنى ، ومع ذلك الأقوى في الدلالة ، ومع ذلك الأحكم في الإبانة ، ومع ذلك الأبدع في وجوه البلاغة ، ومع ذلك الأكثر مناسبة لمفردات الآية ،
 مما يتقدمه أو يترادف عليه...). (22)والجملة القرآنية تتبع المعنى النفسي ، فتصوره بألفاظها لتلقيه في النفس ، حتى إذا استكملت الجملة أركانها ، برز المعنى ظاهرا ، فليس تقديم كلمة على أخرى صناعة لفظية فحسب ،
 ولكن المعنى هو الذي جعل ترتيب الجملة ضرورة لا محيد عنه ، وإلا اختل وانهار. خذ مثلا قوله تعالى : ( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ) (23). تجد إسماعيل معطوفا على إبراهيم ، فهو كأبيه يرفع القواعد من البيت ، ولكن تأخره في الذكر يوحي بأن دوره في رفع القواعد دور ثانوي ،
 أما الدور الأساس فقد قام به إبراهيم. قال في الكشاف : ( قيل : كان إبراهيم يبني ، وإسماعيل يناوله الحجارة ) (24)وفي قوله تعالى : ( واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين ) (25) ( تجد المستعان عليه في الآية غير مذكور ، لا تخففا من ذكره ، ولكن ليوحي هذا الحذف إلى النفس أن كل ما يقوم أمام المرء من مشقة ، 
وما يعترضه من صعوبات ، يستعان على التغلب عليه بالصبر والصلاة. ) (26)ب- دراسة تطبيقية لاستخدام القرآن للجملة بنوعيها : تتألف الجملة – كما أسلفنا - من ركنين رئيسين هما : المسند ، والمسند إليه. وهذان الركنان هما عمدة الكلام.
 ويظهر تأليف الجملة – تبعا للمسند - بصورتين : فعل مع اسم ، أواسم مع اسم ، وبالتعبير الإصطلاحي : فعل وفاعل ، أو نائبه ، أو : مبتدأ وخبر ، نحو : أقبل سعيد ، وسعيد مقبل ، وكل التعبيرات الأخرى ، إنما هي صور أخرى لهذين الأصلين.
 والصورة الأساسية للجمل التي مسندها فعل ، أن يتقدم الفعل على المسند إليه ، ولا يتقدم المسند إليه على الفعل إلا لغرض يقتضيه المقام. والصورة الأساسية للجمل التي مسندها اسم ، أن يتقدم المسند إليه على المسند ، أو بتعبير آخر أن يتقدم المبتدأ على الخبر ،

 ولا يتقدم الخبر إلا لسبب يقتضيه المقام ، أو طبيعة الكلام. والفرق بين هاتين الصورتين : أن الجملة التي مسندها فعل إنما تدل على الحدوث ، تقدم الفعل أو تأخر ، وقد تفيد الإستمرار بالقرائن ، وهذا يكون في الفعل المضارع فقط ، كما في قوله تعالى : ( هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض.. ) (27) ،

فالرزق من الله متجدد ومستمر ، لا ينقطع ولا يزول. أما الجملة التي مسندها اسم : فإنها تدل على الثبوت ، وربما تفيد الدوام بالقرائن. (28) وإذا كان وضع الجملة الاسمية على إفادة الثبوت ، ووضع الجملة الفعلية على إفادة التجدد ،
 فإن الجملة الاسمية تدل على معنى أوفى مما تدل عليه الجملة الفعلية ،
 ولهذا ذهب البلغاء إلى أن الجملة الاسمية تفيد تاكيد المعنى ، وقدتؤثر من أجل هذا في بعض المقامات على الجملة الفعلية (29). وقد يعدل القرآن أحيانا عن الفعل إلى الاسم ، فقد يكون الأصل أن يعبر عن الحدث بالفعل ،
 ومع ذلك يؤتى بالاسم للدلالة على الثبوت. قال تعالى : ( إني جاعل في الأرض خليفة ) (30) فهو لم يجعله بعد ، ولكن ذكره بصيغة اسم الفاعل للدلالة على أن الأمر حاصل لا محالة ، 
فكأنه تم ، واستقر ، وثبت. ومن جميل استعمال القرآن للفعل والاسم : أنه يستعملهما استعمالا مناسبا مع وقوع الحدث في الحياة ، فإذا كان مما يتكرر حدوثه ويتجدد استعماله ، استعمله بالصورة الفعلية ،
 وإن لم يكن كذلك استعمله بالصورة الاسمية. فمن ذلك مثلا :( استعمال القرآن للفعل ( ينفق ) ، فإنه يستعمله بالصيغة الفعلية ، لأن الإنفاق أمر يتكرر ويحدث باستمرار ، قال تعالى : ( الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) (31) ، فاستعمل الفعل المضارع الدال على التجدد والحدوث ،
 لأن الإنفاق أمر يتجدد. ولم ترد بالصورة الاسمية إلا في آية واحدة ، هي قوله تعالى : ( الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار..) (32)وهو في سياق أوصاف المؤمنين الدالة على الثبات.) (33)من ذلك : ( قوله تعالى : (إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون..) (34) فاستعمل الفعل مع الحي ، فقال : ( يخرج ) ، واستعمل الاسم مع الميت ، فقال : ( مخرج ) ، وذلك لأن أبرز صفات الحي : الحركة والتجدد ، فجاء معه بالصيغة الفعلية الدالة على الحركة والتجدد , ولأن الميت في حالة همود وسكون وثبات ، فجاء معه بالصيغةالاسمية الدالة على الثبات ، فقال ( ومخرج الميت من الحي ). وقد يقول قائل : ولماذا قال في سورة آل عمران : ( تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي..) (35)بالصيغة الدالة على التجدد في الحالتين ، فنقول: إن السياق في آل عمران يختلف عنه في الأنعام ،
وذلك أن السياق في آل عمران هو في التغير والحدوث ،والتجدد عموما ، فالله سبحانه يؤتي ملكه من يشاء ، أو ينزعه منه ، ويعز من يشاء أو يذله ، ويغير الليل والنهار ، ويخرج الحي من الميت ، ويخرج الميت من الحي ، فالسياق كله حركة ، 
وغيير ،وتبديل ، فجاء بالصيغة الدالة على التجدد والتغير والحركة ، فوضع كل صفة في المكان اللائق بها.) (36) ومما أوردناه ندرك أن الجملة القرآنية قد تكونت من كلمات قد اختيرت بعناية ، ثم نسقت في سلك واحد ، فلا ضعف في تأليف ، ولا تعقيد في نظم ، ولكن حسن تنسيق ، ودقة ، وترتيب.


المصدر: من كتاب : د. سامي عطا حسن
جامعة آل البيت - المفرق – المملكة الأردنية الهاشمية


(21) - نقلا عن : د. نعيم الحمصي : فكرة إعجاز القرآن منذ البعثة النبوية حتى عصرنا الحاضر ، مع نقد وتعليق . ص95.

(22) - انظر : مصطفى صادق الرافعي : إعجاز القرآن والبلاغة النبوية . ص 281-282 .

(23) - سورة البقرة: آية / 127 .

(24) - محمود بن عمر الزمخشري : الكشاف . ج1/ ص 361 .

(25) - سورة البقرة : آية / 45 .

(26) - د. منير سلطان : بلاغة الكلمة . ص 108 .

(27) - سورة فاطر : آية / 3 .

(28) - انظر : د. فضل حسن عباس : البلاغة فنونها وأفنانها ، علم المعاني . ص 92 .

(29) - للاستزادة انظر : يحيى بن حمزة بن علي بن إبراهيم العلوي اليمني ( 749هـ): الطراز . ج2/ ص 25

(30) - سورة البقرة : آية / 30 .

(31) - سورة البقرة : آية / 274 .

(32) - سورة آل عمران : آية / 17 .

(33) - د. فاضل صالح السامرائي : التعبير القرآني ( مرجع سابق ) ص 30 .

(34) - سورة الأنعام : آية / 95 .

(35) - سورة آل عمران : آية / 27 . (36) - د. فاضل صالح السامرائي : التعبير القرآني ( مرجع سابق ) ص/ 25 .
الأغراض البيانية للجملتين : الاسمية ، والفعلية في القرآن الكريم

1 تعليقات


  1. مقال رائع يا شيخ عمر، جزاك الله خيرًا.
    كان عندي فكرة لموضوع أريده استشارتك فيه، وكنت أريد مراستك على بريدكم الآلي، بريدي هو: moud_ramadan2000@yahoo.com
    أنتظر معرفة بريديكم، ولعلنا نتحدث بعد العيد، وشكر الله لك.

    ردحذف
أحدث أقدم
×
المجاز فى القرآن الكريم والسنة النبوية
التشبيه المفصل فى القرآن الكريم
اسلوب القسم وحروفه فى القرآن الكريم
التشبيه المؤكد فى القرآن الكريم
التشبيه المجمل فى القرآن الكريم
كتاب السنة بيانا للقرآن أ.د إبراهيم الخولي
بلاغة المجاز العقلى
🔒
by.abf=abdullah omar