البلاغة وتحديات العصر

البلاغة وتحديات العصر

لم تكن البلاغة العربية في وقت من الأوقات بعيدة عن الحياة ومناشطها، بل شغلت الناس، واشتغلوا بها. ولم تكن البلاغة العربية بمنأى عن معترك الأمور دقيقها وعظيمها. ولم تكن البلاغة العربية قابعة في برج عاجيّ مشرفة على الناس من عل. بل كانت البوابة السمحة الشاملة لعلوم الإنسان، مرتبطة بالبيئة. وأنواعها وهموم الإنسان وآماله وآلامه، ورغباته وآهاته، وعقيدته، ونزعاته، وميوله، وثقافته، وحضارته.

ومن هنا كانت بتعريفها المشهور: «مطابقة الكلام الفصيح لمقتضى الحال». والحال من خلال مجال البلاغة أو الرسالة المرسلة بين المتفنن والمتلقي.

والحال الإنسانية ثلاثة أقسام: حال المتفنن، وحال المتلقي، وحال المتفنن والمتلقي معًا.

وهناك حال واحدة من كلام الله تعالى القرآن الكريم، وهي سعادة المتلقي في الدارين (الدنيا والآخرة) ويندرج قريبًا من الحال الرباني (الحديث النبوي الشريف).

ومن هنا نستطيع أن نقول: إن البلاغة نقل ما في نفس المتفنن إلى المتلقي بتأثير. وهذا النقل في وظيفتين واحدة دنيوية تتصل بفن القول العربي، وأخرى دينية تتصل بالكشف عن الإعجاز القرآني والبيان النبوي الشريف.

وفي ضوء ما تقدّم نستطيع أن نحكم على أنّ البلاغة في تحدّ مستمرّ مع كلّ عصر، وزمان، ومكان. ولتوضيح ذلك نورد تحديات من تاريخ أدبنا على مرّ العصور، هذا الأدب الذي تتمثل فيه البلاغة العربية بصورها وإيماءاتها وظلالها. نرى النابغة الذبياني في العصر الجاهلي قد جعل شعره سياسة أمنية لقبيلته، من أعداء حولهم، من الغساسنة والمناذرة، الذين كانوا يتبعون الفرس والروم. فبلاغة الكلمة الشاعرة جنّب قوم النابغة ويلات هذه الحرب، وجلبت لهم الأمن والطمأنينة.

ثمّ إنّ الأعشى قيس - صناجة العرب - جعل من آلته وشعره بين القبائل خدمة غنائية نفسية بين الناس من خلال صوره الشعرية التي تتراقص على نغمات الشعر ونبرات الكلمات وإيقاع الوزن.

ولنا في المعلقات مظهر لتحدي البلاغة: إذ هي المعلقات دون غيرها التي علقت على أستار الكعبة، لمعالجتها قضايا لم تصل إليها باقي الأشعار، وهذه القضايا هي من تحديات العصر آنذاك، وهذا ما شفع لها أن تكون على أستار الكعبة، ومتعلقة بالقلوب لتأثيرها ونفاذها وقوة تأثيرها في المتلقي.

ثمّ إننا لا ننسى فصاحة الرسول صلى الله عليه وسلم وبيانه عندما فاخر بأنه أفصح العرب.   

وليس هذا إلا لأن فصاحته وبلاغته تحدٍّ للحياة وللناس ولأعدائه ولمريديه وللدعوة الإسلامية أمام أمم لا تعرف الإسلام ولا تؤمن به. فكان التحدي صورة باهرة وقوة بارزة، لا ينكرها منكر، ولا يخفيها جنف أو حيف أو ظلم.

ثمّ إنّ الخطب العالية في موضوعها وأسلوبها ومضمونها التي قالها علي بن أبي طالب كرَّم لله وجهه، كم فيها من تحدّ للسياسة والحياة والعقيدة والناس والدعوة.
ولنا في مجلس الأمويين، ومنهم عبد الملك بن مروان، ما يبرز قيمة التحدي للبلاغة العربية في سياسة الكلام وسياسة الدولة وتوجيه الأمراء والأدباء والشعراء والنقاد. ثمّ إشباع حاجاتهم الفنية ومطالبهم الاجتماعية، ثمّ ما كان في مجلس سكينة بنت الحسين وعائشة بنت طلحة من محاورات ومناقشات أدبية نقدية وجدانية، كلها تحديات لوجه البلاغة المشرق.

ثمّ كتب دراسات الإعجاز القرآني والحديث النبوي الشريف من إعجاز القرآن للباقلاني وثلاث رسائل في إعجاز القرآن للرماني والخطابي والجرجاني، والمجازات النبوية للشريف الرضي وكذلك كتب الأمالي، والبيان والتبيين، والكامل، والعقد الفريد، كلها صور تحدّ للبلاغة العربية في إطار الأدب والخبر والمثل والقصة، ويردف هذا ما جاء في مقدمات كتب التفسير الكبرى من مثل تفسير الطبري والرازي والقرطبي ثمّ مقدمة بعض كتب الأصول مثل الإكسير في علم التفسير للطوفي البغدادي.

ثم ما جاء بعد ذلك في عصر الموسوعات العربية في صبح الأعشى للقلقشندي، ونهاية الأرب للنويري.

إنها صور للبلاغة العربية في تحديها للعصر وللناس وللثقافة وللحضارة.
ولو نظرنا في مادة "بلاغة" الموجودة في دائرة المعارف الإسلامية بتحرير الأستاذ أمين الخولي، نلاحظ مما أورد فيها من تحديات للغويين والأدباء والنقاد والشعراء والبلاغيين وأصحاب دراسات الإعجاز القرآني والمعاجم وأصحاب فقه اللغة، ثمّ من مطالبه في تجديد البلاغة على المدى القريب إتقان طرائق علماء النفس والتربية والاجتماع بما يخدم المادّة البلاغية، ثم علم تحقيق التراث والنصوص هو المدى البعيد من تجديد التراث البلاغي في نشر مخطوطاته نشرًا علميًّا.

ما تقدّم هو بعض التحديات، ويتبعها ما قيل من النظرة الشمولية بين البلاغة وعلوم العربية الأخرى، والاستفادة من مناهج الدرس الحديث، اللساني والصوتي واللغوي والنقدي والأسلوبي.

ومن تحديات البلاغة العربية في المستقبل أن ننظر إلى "علم البديع" على أنه جزء مهم من صورة البلاغة بفرعيها "المعاني" و "البيان". والبديع الذي نقصده هو ما توافر فيه التوصيل والتأثير. فالتوصيل بمصطلحاته من مضمون لا يقلّ أهمية عن مضمون مصطلحات علمي "المعاني" و "البيان". وبهذا يكون "علم البديع" حسنًا ذاتيًّا وجزءًا مهمًّا من أجزاء الصورة البلاغية.

ويرتبط بهذه التحديات التقليل من تفريع المصطلحات البلاغية التي تؤدي وظيفة واحدة، في أن توحد تحت اسم واحد، وإن كانت دقائق يسيرة تنضاف إلى المصطلح دون غيره.

فلا تشكل هذه الفروع اليسيرة معالم تؤدّي إلى تشقيق مصطلح بلاغي آخر. إذ نسبة الاتفاق أكبر من نسبة الاختلاف. وبهذا نجعل المصطلح الأكثر ضمًا لمعاني المصطلحات الأخرى القريبة منه هو العنوان لها.

ثمّ إنّ في التحديات التي كانت تلاحق البلاغة العربية في كل عصر ما يتحدث عنه البلاغيون باسم "الشاهد البلاغي". فقد كانت المؤلفات البلاغية بين فترة وأخرى تضمّ شواهد بلاغية مختلفة عن شواهد الفترة التي تسبقها أو تزيد عليها بشواهد جديدة من نتاج العصر.

وما هذه الأنواع من الشواهد البلاغية على مرّ العصور الأدبية غلا تأكيدات لما ذهبنا إليه.

وفي إطار ذلك لا نحرم البلاغة العربية من شواهد الأدب الحديث بفنونه المتنوعة، بشرط السلامة اللغوية والصحة النحوية وعفة المضمون. وبعد ذلك فلا مندوحة من الاستشهاد بفنّ القول العربي الحديث تحت اسم المصطلح البلاغي، والمصطلح البلاغي قد شاع بين الدارسين على اختلاف الحقب، وتداعي الأيام، وتنوّع المكان.

ومن تحديات البلاغة العربية في المستقبل ما يدعو إلى أن يكون لها موقع في شبكة العلاقات الدولية - الانترنت - ليعرف دارس البلاغة في بقعة من البقاع ما هو موجود في بقعة أخرى، حتى لا يتكرّر الجهد سدى، أو يستفيد الباحث من جهد غيره، ثمّ التعرّف إلى المخطوط غير الميسور لباحث في منطقة دون أخرى.

وما دعوات تجديد البلاغة وتيسيرها وشرحها وكتابة التقارير والحواشي على المتون إلا دعوة لتحديات البلاغة العربية. وما طرائق عرضها عند الأدباء والشعراء والنقاد إلا وجهًا من وجوه التحدّي، هل نستفيد من هذه الظواهر التي مرّت ونأخذ ما يتناسب وسلاسل تفكير أبناء العصر الماثل من البلاغة العربية، ثمّ نعيد النظر بين الفترة والفترة في حياة البلاغة العربية، لنكون على تصوّر صحيح للبلاغة العربية وتحديات المستقبل.

البلاغة وتحديات العصر

***

المصدر: 

"كيف نقرأ تراثنا البلاغي"، للأستاذ الدكتور: محمد بركات حمدي أبو علي، أستاذ البلاغة العربية في الجامعة الأردنية.

تعليقات