أحوال المسند إليه وبلاغتها

 




أحوال المسند إليه وبلاغتها

حذف المسند إليه

تعريف المسند إليه:

هو المحكوم عليه فاعلًا كان، أو نائب فاعل، أو مبتدأ أصلًا أو حالًا.

وأحواله هي ما يعرض له من ذكر، وحذف، وتعريف، وتنكير، وتقديم، وتأخير، وغير ذلك.

وموضع المسند إليه في جملة الإسناد والمحكوم عليه أو المخبِر عنه كالفاعل والمبتدأ وما أصله المبتدأ وهو -كما نعلم- أحد أركان الجملة، ويمثل هذا المحكوم عليه في جملة الإسناد، والمسمى بالمسند إليه الفعل في الجملة الفعلية، والاسم المبتدأ في الجملة الاسمية، وقد يُؤْتَى في الجملة الفعلية بشيء مما يتعلق بالفعل كالجار والمجرور والظرف إلى غير ذلك، وهذا مبحث وجزء ثالث من أجزاء الإسناد يختص بالجملة الفعلية، ويسمى بمتعلقات الفعل.

إذن يقصد بأحوال المسند إليه الأمور التي يأتي عليها ليكون الكلام بها مطابقًا لمقتضى الحال، أما ما يعرض له لا من هذه الحيثية بل من حيث إنه مطلق لفظ ككونه ثلاثيًّا أو رباعيًّا، فليس ذلك مما نحن بصدده؛ لأننا نريد أن نتحدث هنا عن أحوال المسند إليه التي يقتضيها المقام، ويصير بها الكلام مطابقًا لمقتضى الحال، مثل الحذف والذكر والتعريف والتنكير والتقديم والتأخير، إلى آخر ذلك.

***

ولا يصح الحذف لغةً إلا إذا وجد دليل يدل على المحذوف، فإذا لم يوجد هذا الدليل كان الذكر واجبًا متعينًا لفساد الكلام بالحذف، أما إذا دل على المحذوف دليل كان الحذف جائزًا؛ لأن المحذوف حينئذٍ في حكم المعلوم لوجود القرينة الدالة عليه، كما أن الذكر يكون جائزًا أيضًا؛ لأنه الأصل كما يقتضي العقل والإعراب.

ومما ينبغي أن يُعلم أن البلاغة لا تدلي بدلوها في الكلام إلا بعد صحته لغةً، فما منعته اللغة أو أوجبته لا يكون للاعتبارات البلاغية فيه مجال.

ومن هنا يتضح أن الحذف الممنوع؛ انعدام القرينة والذكر المتعين لذلك لا تنظر إليهما البلاغة، وإنما محط نظرها هو جواز كل من الحذف والذكر لغةً لوجود القرينة، فإذا وجد بعد ذلك سر بلاغي يطلب الحذف ويرجحه على الذكر، صارت البلاغة في الحذف، وإذا وجد داع بلاغي يوجب الذكر ويستدعيه ونُكتة تتطلبه وتقتضيه كانت البلاغة في الذكر.

ورحم الله عبد القاهر الجرجاني حين قال منوهًا بشأن الحذف ومبرزًا قيمته البلاغية: هو باب دقيق المسلك، لطيف المأخذ، عجيب الأمر، شبيه بالسحر، فإنك ترى به ترك الذكر أفصح من الذكر، والصد عن الإفادة أزيد للإفادة، وتجد أنطق ما تكون إذا لم تنطق، وأتم ما تكون بيانًا إذا لم تبِن.

الأسرار البلاغية التي تقتضي حذف المسند إليه:

1- الاختصار والاحتراز عن العبث بِناءً عن الظاهر:

إن الكلام الذي يحذف منه المسند إليه أخصر وأوجز من نظيره الذي يذكر فيه المسند إليه، كما أن المسند إليه الذي علم من القرينة والسياق، ولم يوجد سر بلاغي يقتضي ذكره يصبح ذكره حينئذٍ بمثابة الزيادة التي لا قيمةَ لها، فحذفه يصون الكلام ويُبْعِدُه عن العبث من منظور البلاغة، التي ترى أن ذكر الشيء المعلوم الذي لا يظهر لذكره فائدة يُعَدُّ عبثًا يتسامَى عنه كلام البلغاء.

والأصل أن ذكر المسند إليه ليس عبثًا في الحقيقة، وإن كان ذكر المسند إليه ليس عبثًا في الحقيقة والواقع؛ لأنه ركن من الكلام، ولذلك جعل البلاغيون العبث المحترز عنه مبنيًّا على ظاهر الكلام المشتمل على القرينة الدالة فقط لا على الحقيقة والواقع.

***

2 - ضيق المقام بسبب شعر أو ضجر أو شدة أو حزن أو ألم أو خوف فوات فرصة:

إن المتكلم إذا كان على شيء من ذلك عمد إلى الإيجاز بحذف المسند إليه، أما المقام في مثل هذه السياقات يضيق بذكره فيقتضي حذفه، تأمل مثلًا قول القائل للصياد: غزال، والأصل هذا غزال، ولكنه حذف المسند إليه لضيق المقام حتى تفوت الفرصة لصيده، وعلى هذا قول المستغيث: حريق أو غريق، والأصل هذا حريق أو هذا غريق، فضيق المقام بسبب خوف فوات فرصة الإنقاذ اقتضى حذف المسند إليه والمبادرة بذكر المسند.

ومن الحذف لضيق المقام بسبب الحذف والألم والشدة والضجر قول الشاعر:

قال لي كيف أنت قلت عليل ... سهر دائم وحزن طويل

والأصل: أنا عليل، وحالي سهر دائم وحزن طويل، لكن ضيق المقام بالنظر لما عليه الشاعر من حزن وضجر بسبب العلة والمرض اقتضى حذف المسند إليه، وفي مثل هذا البيت يمكن أن يكون ضيق المقام بسبب آخر، وهو المحافظة على وزن الشاعر مع السبب المذكور آنفًا؛ لأن النكات البلاغية لا تتزاحم كما يقولون.

كما نراه في قول السيدة سارة زوج سيدنا إبراهيم - عليه السلام - عندما دخل الملائكة المكرمون على زوجها وبشروه بأنه سيولد له ولد غزير العلم، هو إسحاق - عليه السلام - قال القرآن عنها: {فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} [الذاريات: 29] لم تقل: أنا عجوز، أنا عقيم؛ لما كانت تحسه من ضيق صدرها عن الإطالة في الكلام بسبب ما انتابها من استغراب وتعجب واستبعاد؛ نظرًا لما كانت عليه من عقم وما لحقها ولحق زوجها من كبر.

***

3 - اختبار تنبه السامع أو اختبار مقدار تنبهه ومبلغ ذكائه:

ذكر البلاغيون أن من دواعي حذف المسند إليه: إرادة اختبار تنبه السامع عند وجود القرينة الواضحة، مثل أن يزورك رجلان سبقت لأحدهما صحبة لك فتقول لمن معك العالم بهذه الصحبة: وفي، تريد: الصاحب وفي، فتحذف المسند إليه اختبارًا لهذا السامع؛ أي: يتنبه إلى أن المسند إليه المحذوف هو الصاحب بقرينة ذكر الوفاء، إذ هو المناسب لمعنى الصحبة والصداقة أم لم يتنبه.

***

4 - إرادة اختبار مقدار هذا التنبه عند وجود القرينة الخفية:

كأن يزورك رجلان أحدهما أقدم صحبةً من الآخر فتقول لمن معك العالم بهذه الصلة: جدير بالإحسان، تريد أقدمهما صحبةُ جديرٌ بالإحسان، فتحذف المسند إليه اختبارًا لمبلغ تنبه السامع؛ أي: يتنبه إلى هذا المحذوف لهذه القرينة الخفية، وهي أن أهل الإحسان قديمو الصحبة دون حادثها أم لم يتنبه.

***

5 - تعين المسند إليه:

إما لأن الخبر لا يصلح إلا له حقيقة، فيكون وضوح المسند إليه لدى المخاطب حقيقيًّا، كما في قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [الرعد: 9] فإن قوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} خبر لمبتدأ محذوف تقديره هو؛ أي: الله -عز وجل- ولكن لما كان هذا الخبر لا يكون إلا له حقيقة جاء الكلام على الحذف؛ لتعين المسند إليه حقيقةً، في ذلك إشارة إلى وحدانيته سبحانه وعظمته وجلاله، وإما لأن الخبر لا يصلح إلا للمسند إليه ادعاءً، فيكون وضوح أمره عند المخاطب ادعائيًّا كذلك، وهذا يكون فيمن اشتهروا بصفات بلغوا فيها الكمال ولو عند المتكلم، فيأتي بالخبر حاذفًا المسند إليه ادَّعاءً منه أن الصفة -أي: المسند- لا تكون هنا إلا للموصوف المحذوف وهو المسند إليه، فكأنه متعين.

وقد يكون في ذلك إشارة إلى تقدير المسند إليه وتعظيمه والمبالغة في اتصافه بالمسند المذكور، بادعاء أنه بلغ فيه حد الكمال فلا يكون إلا له؛ مثل قولنا مثلًا: عادل في حكومته؛ أي: عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وقولك: وهاب الألوف، تريد كريمًا لا تذكره ادعاءً؛ لتعينه وشهرته.

قد يكون في هذا الادعاء إشارة إلى الاستخفاف بالمسند إليه وعدم الاعتداد به، كما في قول قوم موسى - عليه السلام - الذي حكاه القرآن عنهم: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الصف: 6] أي: هذا ساحر هذا كذاب، قاصدين بذلك الحذف أن قولهم: ساحر كذاب لا ينصرف عند إطلاقه إلا إلى موسى -عليه السلام- زعمًا منهم أن هذه الصفة لا تصلح إلا له، فهو متعين في اعتقادهم الباطل وزعمهم الكاذب لهذه الصفة: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف: 5].

هذا؛ وقد يكون تعيين المسند إليه المقتضي للحذف بسبب أنه معهود بين المتكلم والمخاطب كقولك مثلًا: حضر، تريد رجلًا معينًا بينك وبين مخاطبك.

وقد يحذف المسند إليه لتأتي الإنكار عند الحاجة إليه كقولك عن رجل معروف بظلمه وفسقه: فاجر ظالم، والأصل: فلان فاجر، فلان ظالم، ولكنك تحذف المسند إليه؛ ليكون الحذف سبيلًا إلى الإنكار عندما يواجهك فلان هذا باللوم أو العتب، فييسر عليك الحذف ويمكنك حينئذٍ من أن تقول له: ما قصدتك وإنما أردت غيرك، ولو ذكرت المسند إليه في مثل هذا المقام لَمَا تأتى لك الإنكار.

***

6 - صون المسند إليه عن اللسان تعظيمًا له، أو العكس، صون اللسان عن ذكره تحقيرًا له:

ففي حالة إرادة التعظيم للمسند إليه وتكريمه قد يحذف للإشعار بأنه بلغ من كرم المنزلة وسمو المكانة حدًّا يخشى عليه بذلك من مجرد الجريان على لسانه، فيوهم المتكلم سامعه ويشعره أن في جريان المسند إليه على اللسان وذكره تقليلًا من شأنه، ونقصًا من طهارته، وكأن اللسان شيء حقير ينبغي أن يحفظ منه المسند إليه ويصان.

وإذا أريد تحقير المسند إليه قد يحذف كذلك؛ إشعارًا بأنه بلغ من المهانة والحقارة حدًّا جعل ذكره فادحًا في طهارة لسان ذاكره، وفي معنى هذا يقول الشاعر:

ولقد علمتُ بأنهم نجَس ... فإذا ذكرتهم غسلت فمي

وعند التأمل ندرك أن النجاسة هنا التي يخشَى منها على المسند إليه لجريانه على اللسان أو يخشى على اللسان منها لذكره المسند إليه، أمر اعتباري افتراضي يهدف إلى الإشعار بالتعظيم أو التحقير.

ومن الحذف لصون المسند إليه عن اللسان؛ تعظيمًا له قول الشاعر:

أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم ... دجى الليل حتى نظم الجذع ثاقبه

نجوم سماء كلما انقض كوكب ... بَدَا كوكب تأوي إليه كواكبه

والأصل هم نجوم سماء، فحذف المسند إليه؛ لصونه عن اللسان تعظيمًا له.

ومن الحذف لصون اللسان عن ذكر المسند إليه تحقيرًا له قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة: 18] وقوله سبحانه: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة: 10، 11] والتقدير هم صم؛ أي: المنافقون، هم بكم، هم عمي، وكذلك وما أدراك ما هي؟ هي نار حاميه.

هذا؛ وقد ذكر البلاغيون أنه من مألوف الأسلوب عند العرب أنهم يريدون الكلام على حذف المسند إليه في مقامات المدح والهجاء، وعند ذكر الديار والأطلال، وهي مقامات تدعو إلى الإيجاز لضيق صدر المتكلم كما يظهر لنا ذلك عند ذكر الديار والأطلال، وتدعو كذلك إلى ما يوحي به الحذف من تعدد المعاني وتباين الصفات، حتى كأن اللاحق منها شيء جديد مستقل عن السابق، ولا شك أن هذا الذي يوحي به الحذف أبلغُ في تأدية الغرض من مدح أو قدح.

***

7 - التعجيل بالمسرة أو المساءة:

فقد ذكر البلاغيون أنه من الأسرار التي تقتضي حذف المسند إليه تعجيل المسرة إذا كان الخبر مما يسر به كقولك للسائل: دينار، وكقولك لمخاطبك: نجح، تريد ابنك نجح، فتحذف المسند إليه إذا أردت أن تعجل بذكر ما يفرح ويسر.

***

8 - إرادة تعجيل المساءة إذا كان الخبر مما يساء به:

مثل قولك: راسب؛ أي: المهمل، تخاطب بذلك مَن تريد إساءته.

***

هذا وقد عد بعض البلاغيين من باب حذف المسند إليه حذف الفاعل فيما بُني فعلُه للمعلوم باعتباره أيضًا مسندًا إليه؛ وذلك كقوله تعالى: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [القيامة:26، 27] وقوله سبحانه: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ} [الواقعة:83: 85] أي: بلغت الروح التراقي وبلغت الروح الحلقوم، وسر حذفه هنا ظهوره ظهورًا واضحًا والعلم به؛ لأن الآيات في ذكر الموت والأموات، ولا يبلغ التراقي والحلقوم عند الموت إلا الروح، وهنا سر آخر سوى ظهور الفاعل والعلم به، يتمثل في الإشارة إلى ما عليه الروح من قرب مفارقتها لصاحبها، وكأن حذفها من العبارة يشعر بذهابها.

ومن ذلك أيضًا قوله تعالى حكايةً عن سيدنا سليمان - عليه السلام-: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص: 32] فالمراد هنا بالضمير المستكن في الفعل: {تَوَارَتْ} الشمس، لكن حذفت من الكلام لقوة الدلالة عليها، ولأنها غابت وغربت، وهذا يلائم غيابها من العبارة المتمثل في حذفها.
ومنه أيضًا قوله -جل وعلا-: "لقد تقطَّع بينكَم" [الأنعام: 94] على قراءة نصب "بينكم" وحذف الفاعل المراد به والله أعلم الأمر، وهو الصلة بين القوم وشركائهم، وسر الحذف هنا الإشارة إلى أن هذه الصلة لا جدوى منها ولا فائدةَ فيها يوم لقاء الله -عز وجل-فهي صلة ساقطة لا اعتداد بها ولا قيمة لها كما يشير إلى ذلك السياق في قول الله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام: 94].

وبالتأمل نجد للحذف في هذه المواطن سرًّا عامًّا يتمثل في ظهور الفاعل ظهورًا بينًا لدلالة الكلام عليه دلالةً قويةً، حتى لكأنه مذكور بلفظه، ولعل هذا ما سوغ حذف الفاعل عند مَن أجازه، ثم لكل حذف بعد ذلك سره الخاص الذي يدل عليه المقام والسياق.

***

كما جعلوا كذلك من باب حذف المسند إليه حذف الفاعل الذي بني فعله للمفعول، باعتباره هو الآخر مسندًا إليه، وذكروا من هذا الحذف أسرارًا تقتضيه منها ما يأتي:

العلم به كقول الشاعر:

سبقنا إلى الدنيا فلو عاش أهلها ... منعنا بها من جيئة وذهوب

وكقوله -عز من قائل -: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} [الجمعة: 10] وتأمل قوله: {وقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [هود: 44] تجد أن الفعل قد بني للمفعول في قوله: {قِيلَ} و {غِيضَ} و {قُضِي} للعلم بالفاعل الحقيقي وهو الله القادر، ووراء حذف الفاعل سر آخر وهو الإشارة إلى سرعة الاستجابة والامتثال، وأن هناك قوةً خارقةً قد اختطفت الماء، فانمحى وزال.
وانظر لذلك إلى قول الله -عز وجل -: {فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ * وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} [الأعراف: 119، 120] تجد أن وراء حذف المسند إليه دقائق ولطائف؛ أهمها الإشارة إلى قدرة الخالق فهو الغالب وليس موسى، بل لقد أوجس موسى في نفسه خيفة عندما رأى حبالهم وعصيهم، وخيل إليه من

سحرهم أنها تسعى، كقوله تعالى: {فَغُلِبُوا} بالبناء للمجهول إشارة إلى قدرة الله القاهر، وتنبيهًا على أن الغلبة كانت بتدبيره تعالى وصنعه، وبهذا يظل موسى في مرتبة العبودية العاجزة التي لا تصنع شيئًا خارقًا، وإنما يجريه الله تعالى على يديها.

وتأمل قوله تعالى: {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ} وإشارته إلى سرعة امتثالهم بأمر الله، وكأن قوة القهار قد نزعت العناد والكفر من رؤوسهم، فانكبوا ساجدين مؤمنين برب العالمين.

***

وهناك من البلاغيين من عَدَّ اتباع الاستعمال الوارد عن العرب غرضًا يقتضي حذف المسند إليه كما في الأمثال نحو قولهم: رمية من غير رام؛ أي: هي رمية موفقة ممن لا يحسن الرمي، وحُذف المسند إليه وهو الضمير اتباعًا للاستعمال الوارد عن العرب.

***

هذه هي الدواعي والأسرار التي تقتضي حذف المسند إليه، ولا يمكننا أن ندعي حصرها أو الإحاطة بها، والذي يتأمل الأساليب ويسترشد بالسياق وقرائن الأحوال، قد تتكشف له أسرار سوى ما ذكر، ويقع على أغراض ونكات لم تدون من قبل، والأمر أولًا وآخرًا مبني على الذوق وتلمس أسباب الحذف.

***

ذكر المسند إليه

الأصل أن يُدَلَّ على المسند إليه باللفظ بشرط ألا يقصد المتكلم غرضًا من أغراض الحذف؛ فإذا قصَد المتكلم غرضًا من أغراض الحذف كانت البلاغة في الحذف، أما إذا لم يقصد المتكلم ذلك عدنا إلى الأصل وهو الذكر، وكانت النكتة فيه كونه الأصل، وليس في قصد المتكلم غرض يقتضي الانصراف عن الذكر إلى الحذف.

الأسرار البلاغية والدواعي التي تقتضي ذكر المسند إليه، وهي:

1- زيادة الإيضاح والتقرير للمسند إليه:

أي: زيادة انكشافه لفهم السامع وتثبيته في نفسه؛ لأن المسند إليه المحذوف معلوم وواضح وثابت بالقرينة فكأنه مذكور، فإذا صرح به فكأنه ذكر ثانيًا؛ فتحصل بذلك زيادة الإيضاح والتقرير، وإذا أراد المتكلم زيادة الإيضاح والتقرير للمسند إليه في نفس السامع اقتضى هذا الغرض أن يذكر المسند إليه؛ كما تقول مثلًا: هؤلاء جدو وهؤلاء نجحوا بتفوق، فتذكر المسند إليه وهو في الإشارة الثاني بقصد زيادة إيضاحه وتقريره في ذهن السامع، وأن هؤلاء الذين ثبت لهم الجد هم أنفسهم الذين ثبت لهم النجاح بتفوق، وتكرار هؤلاء مَفاد اختصاصهم لكل واحد من الأمرين مميزًا لهم عمن عداهم، وفي هذا من الإيضاح والتقرير ما لا يخفى.

***

2- قد يكون للمسند إليه مزيد تعلق بنفس المتكلم ذاته، ويعمد إلى الذكر تجاوبًا مع ما يحسه هو تجاه المسند إليه؛ مراعاةً لحاله:

وانظر معي إلى قول مالك بن الريب في قصيدته التي قالها حين استشعر دنو الأجل وهو في خراسان، قال:

ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بجنب الغضى أزجي القلاص النواجيا

وليت الغضا لم يقطع الركب ... وليت الغضا ماشي الركاب لياليا

لقد كان في أهل الغضا لو دنا الغضا ... مزار ولكن الغضا ليس دانيا

والغضا: هو شجر في ديار أهله، والشعر في هذه الحالة النفسية القاسية التي يستشعر فيها دنو الأجل، ويستشعر فيها الإحساس بالغربة، ويفيض فيها الحنين والتعلق بالأهل، تراه مرتبط النفس بالغضا أقوى ما يكون الارتباط، لذلك ذكر لفظ المسند إليه الغضا وكرَّره أكثر من مرة، من هذا القبيل ذكر الشاعر اسم صاحبته بتكراره أحيانًا؛ لما يحسه تجاهها من حب جارف وشوق عال، ولما يشعر به من التلذذ عند جريان اسمها على لسان؛ كقول الشاعر مثلًا:

ألا ليت لُبنى لم تكن لي خلة ... ولم تلقني لبنى ولم أدر ما هي

حيث ذكر لبنى في الشطر الثاني، وكان يمكنه أن يستغني عن ذكر المسند إليه اسم صاحبته بالضمير المستتر بالفعل: ولم تلقني، ولكن الشاعر يحرص على ذكر الاسم؛ لأنه يحبه ويحب أن ينطق به دائمًا وأبدًا، ومثل ذلك قول الآخر:

بالله يا ظبيات القاع قلن لنا ... ليلاي منكن أم ليلى من البشر

فالذكر هنا لغرض التلذذ، وأيضًا مثل التلذذ قصد التيمن والتبرك؛ إذ أن المتكلم في ذكره المسند إليه راعى حال نفسه أيضًا مستجيبًا لما يشعر به تجاه مدلول لفظ المسند إليه كما في قولك مثلًا: نبينا - صلى الله عليه وسلم - قائل هذا القول، جوابًا لِمَن سألك: هل قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا؟ فتذكره؛ تيمنًا وتبركًا بذكر اسمه، كقولك أيضًا لمن سألك قائلًا: هل الله يرضَى هذا؟ فتقول: الله يرضاه.

***

3- زيادة إيضاح المسند إليه وتقريره:

يكون كذلك الداعي للذكر الإيضاح والتقرير بالمعاني المنسوبة إلى المسند إليه والأحكام المحكوم بها عليه، وإنما يعمد البليغ إلى ذكر المسند إليه ليبرز هذه الأحكام والمعاني في صورة بينة واضحة مؤكدة، ويكون السر الإيضاح والتقرير بدون إضافة كلمة زيادة، فترى هذا السر بذكر المسند إليه ماثلًا في قول ابن الدمينة يخاطب صاحبته أميمة، معارضًا لها حين عاتبته بقولها:

وأنت الذي أخلفتني ما وعدتني ... وأشمت بي مَن كان فيك يلوم

وأبرزتني للناس ثم تركتني ... لهم غرضًا أرمى وأنت سليم

فلو أن قولًا يكلم الجسم قد بَدَا ... بجسمي من قول الوشاة كلوم

فقد قال في جوابها:

وأنت التي قطعت قلبي حزازة ... وفرقت قرح القلب فهو كليم

وأنت التي كلفتني دلج السرى ... وجون القطر بالجهلتين جثوم

وأنت التي أحفظت قومي فكلهم ... بعيد الرضا داني الصدود كظيم

حيث ذكر الشاعر ضمير صاحبته المسند إليه في كل بيت مسندًا إليها هذه الأخبار التي بدت بذكر المسند إليه في صورة واضحة مؤكدة، وحققت في الوقت نفسه ما أراده من العتاب والتثريب.

ومما ذكر فيه المسند إليه لغرض الإيضاح وتقرير الخبر وتأكيد الحكم المحكوم به على المسند إليه أيضًا قول الله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الرعد: 5] حيث ترى المسند إليه يُذكر ويكرر مع كل خبر عنه ومع كل حكم عليه، وكان من الممكن أن يكتفَى بذكره أولًا ويحذف بعد ذلك، ولكنه -والله أعلم- قصد إلى تقرير هذه الأخبار وتأكيد هذه الأحكام، فهم كفروا بربهم وهم الأغلال في أعناقهم وهم أصحاب النار، وفي هذا تكرار للمسند إليه من إعلان الغضب والوعيد ما لا يخفى.

ومن ذلك أيضًا قول الله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [لقمان: 5] ففي إعادة ذكر المسند إليه زيادة تقرير وإيضاح، وإبراز لمكانة هؤلاء المؤمنين الذين آمنوا بالغيب وأقاموا الصلاة وأيقنوا بالدار الآخرة.

من هنا نعلم أن ذكر المسند إليه كما يكون لزيادة إيضاحه وتقريره في نفسه، يكون كذلك لإيضاح الخبر عنه وتقرير الحكم عليه، وتأكيد المعاني المنسوبة إليه.
وقد يجتمع هذان الغرضان لذكر المسند إليه في كلام واحد كما تراه مثلًا في قول عمرو بن كلثوم:

قد علم القبائل من معد ... إذا قبب بأبطحها بنينا

بأنا العاصبون إذا أطعنا ... وأنا الغا نم ون إذا عصينا

وأنا المنعمون إذا قدرنا ... وأنا المهلكون إذا أوتينا

وأنا الحاكمون بما أردنا ... وأنا النازلون بحيث شينا

وأنا التاركون لما سخطنا ... وأنا الآخذون لما هوينا

حيث تجده قد ذكر المسند إليه وكرره، والسر في ذلك هو تقرير ما أخبر به عن قومه، وتأكيد المعاني المنسوبة إليه في الوقت ذاته تجد للذكر سرًّا آخرَ يتصل بالمسند إليه نفسه وهو زيادة إيضاحه وتقريره؛ تأكيدًا لذات قومه وإبرازًا لهذه الذات في مواجهة الأعداء الذين توهموا في نظر عمرو بن كلثوم أن قومه قد أضعفتهم الحروب وأفنتهم المعارك، كما نفهم من قوله:

ألا يحسب الأعداء أنَّا ... تضعضعنا وأنا قد فنينا

ترانا بارزين وكل حي ... قد أخذوا مخافتنا قرينا

ومن هذا القبيل قول الخنساء في رثاء أخيها صخر:

وإن صخرًا لكافينا وسيدنا ... وإن صخرًا إذا نشت لنحار

وإنا صخر لتأتم الهداة به ... كأنه علَم في رأسه نار

حيث نجد المسند إليه وهو صخر قد ذكر وتكرر لزيادة إيضاحه وتقريره؛ تجاوبًا مع ما تحسه نحو أخيها من شدة التعلق به، والذي يجعل من ذكره اسمه وتكراره شيئًا حبيبًا إلى نفسها، ووسيلةً من وسائل السلوى وتخفيف الآلام، كما نجد لذكر المسند إليه هنا سرًّا آخرَ يتمثل في تقرير المعاني التي نسبتها إليه، وتأكيد الأخبار التي أخبرت بها عنه.

***

4- الاحتياط لضعف الاعتماد على القرينة:

وذلك إذا كان هناك قرينة تدل على المسند إليه لو حذف، ولكن هذه القرينة خفية فيخشى المتكلم حينئذٍ إن هو اعتمد عليها أن يلتبس المراد على السامع، ولذلك يأخذ بالاحتياط فيذكر المسند إليه غير معول على القرينة الموجودة كما يقال مثلًا: مَن حضر؟ ومَن سافر؟ فيقال في الجواب: الذي حضر زيد والذي سافر عمرو، ولا يقال: زيد وعمرو؛ لأن السامع قد يجهل تعيين ذلك من السؤال الأمر الذي يلي ذلك.

***

5- التنبيه على غباوة السامع:

أي: تنبيه الحاضرين على غباوة المقصود بالسماع، وأنه لا يفهم إلا ما تنص عليه الألفاظ؛ لأن في الحذف تعويلًا على الذكاء والقدرة على الإفادة من السياق والقرائن، فيعمد المتكلم إلى ذكر المسند إليه وإن كان السامع فاهمًا له بالقرينة؛ لأجل تنبيه الحاضرين على غباوة السامع إما لقصد إفادة أنها وصفه أو بقصد إهانته وتحقيره، فيقال في جواب من سأل: ماذا قال عمرو؟ عمرو قال كذا.

***

6- الرغبة في بسط الكلام وإطالته:

وذلك داع مشهور من دواعي ذكر المسند إليه، ويتأتى حيث يكون إصغاء السامع مطلوبًا للمتكلم لخطر مقامه أو لقُرْبِه من قلبه، ولهذا يطال الكلام مع الأحبة، ومن ذلك قول الله تعالى حكايةً عن سيدنا موسى -عليه السلام-: {هِيَ عَصَايَ} [طه: 18] وكان يكفي في الجواب أن يقول: عصا، لكنه ذكر المسند إليه وهو الضمير وأضاف العصا إلى نفسه؛ حبًّا في إطالة الكلام بحضرة ذي الجلال؛ لأنه تشريف، ولهذا لم يكتفِ موسى - عليه السلام - بذكر المسند إليه، بل أعقب ذلك بذكر أوصاف لم يُسأل عنها، فقال: {أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه: 18] وقد سأله سبحانه وهو بكل شيء؛ لأنه -والله أعلم- أراد لفت انتباهه إلى العصا حتى يتبينها، ويعرف أنها ليست إلا عصا يتوكأ عليها ويهش بها على غنمه، فهي يابسة جامدة حالها كحال أي عصا، فإذا تلقى الأمر بإلقائها وألقاها ورآها حيةً تسعى، كان ذلك أبين في إبطال قانونها وإحالته عن وصفها بخلق الحياة والحركة فيها، وهذه هي آية الألوهية ومعجزة النبوة.

***

7- التسجيل على السامع حتى لا يتأتى له الإنكار:

كأن يقول القاضي لشاهد واقعة هل أقر هذا بأنه فعل كذا؟ فيقول الشاهد: نعم، فلان هذا أقر بكذا، ويذكر المسند إليه لئلا يجد المشهود عليه سبيلًا إلى الإنكار فيما لو لم يذكر اسمه، وجعل الشيخ عبد المتعال الصعيدي - يرحمه الله - من الذكر للتسجيل على السامع حتى لا يتأتى له الإنكار قول الفرزدق في علي بن الحسين - رضي الله عنهما - حين أنكر هشام بن عبد الملك معرفته:

هذا ابن خير عباد الله كلهم ... هذا التقي النقي الطاهر العَلَم

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته ... والبيت يعرفه والحل والحرم

هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله ... بجده أنبياء الله قد ختموا

***

8- إظهار تعظيم المسند إليه أو إهانته:

 فالأول نحو: أمير المؤمنين حاضر، والثاني نحو: السارق اللئيم حاضر، جوابًا لمن سأل عنهما ليفيد المتكلم سامعه أن تلك الذات المعبر عنها بهذا الاسم عظيمة، وأن هذه المعبر عنها بهذا الاسم مَهانة.

***

9- إظهار التعجب من المسند إليه:

وذلك حيث يكون الحكم غريبًا يندر وقوعه، كما في قولك محدثًا عن إنسان سبق ذكره: فلان يصارع الأسود، أو يحمل أطنانًا من الحديد، وتذكر المسند إليه لقصد إظهار التعجب من شدة بأسه؛ إلى غير ذلك من نكات الذكر، إذ ليست سماعية حتى يمكن استيعابها، بل المدار في ذلك على الذوق السليم، فما عده الذوق داعيًا من دواعي الذكر أو الحذف أو غيرها أُخذ به وإن لم يذكره أهل البلاغة.

***

تعريف المسند إليه بالإضمار

إن الحديث عن أحوال المسند إليه يستوجب تناول تعريفه، ونكتفي بالتعرف على ما يكتنف تعريف المسند إليه بالضمير والعلم والإشارة:

وكما ذكرنا مرارًا وتكرارًا فإن المسند إليه يمثل المبتدأ في الجملة الاسمية والفاعل في الجملة الفعلية، والمسند إليه أيًّا ما كان الأمر محكوم عليه، فعندما أقول: محمد مجتهد، أكون قد حكمت بالاجتهاد على محمد، ومثلُ ذلك في الجملة الفعلية: يجتهد محمد، أكون أيضًا حكمت بالاجتهاد على محمد، فأيًّا ما كان الأمر فمحمد وهو المسند إليه هو المحكوم عليه في الجملتين.

والأصل في المحكوم عليه أن يكون معينًا، إذ الحكم على المجهول لا يفيد إفادة تامة وكمال التعيين بالتعريف؛ ولذا جعل البلاغيون الغرض العام لإيراد المسند إليه معرفًا بأي نوع من أنواع التعريف قصد المتكلم إفادة المخاطب الحكم إفادةً تامة ً، فإذا لم يقصد المتكلم هذه النكتة جِيء بالمسند إليه نكرةً، والمقام هو المقتضي قصد هذه النكتة أو عدم قصدها.

ومن هنا آثر النظم القرآني تنكير المسند إليه على تعريفه في قول الله تعالى مثلًا: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى} [القصص: 20] هذا هو الغرض العام بإيراد المسند إليه معرفة، ثم لكل نوع من أنواع التعريف بعد ذلك أسرار ونكات؛ لأن المعرفة -كما نعلم نحويًّا- أقسام ستة؛ الضمير، العلم، اسم الإشارة، اسم الموصول، المعرف بأل، المضاف إلى واحد من هذه الخمسة المذكورة.

ونعرض فيما يلي لأهم ما ذكره البلاغيون من أغراض وأسرار تعريف المسند إليه بالضمير.

***

يؤتى بالمسند إليه ضميرًا إذا كان الحديث في أحد المقامات الثلاثة التكلم أو الخطاب أو الغيبة، فإذا كان المتكلم متحدثًا عن نفسه كان المقام للتكلم، ينبغي أن يقول: أنا، كقول بشار بن برد:

أنا المرعث لا أخشى على أحد ... ذرت بي الشمس للقاصي وللداني

يصف نفسه بأنه مشهور ذائع الصيت، والمرعث: لقبه برعثة كانت له في صغره وهي القرط، يعلق في شحمة الأذن، وذرت الشمس؛ أي: طلعت كنايةً عن شهرته ووضوح أمره، ومثله قول المتنبي أيضًا:

أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي ... وأسمعت كلماتي مَن به صمم

وإذا كان المتكلم يُخَاطب مشاهدًا حاضرًا كان المقام للخطاب، فينبغي أن يقول: أنت مثل قول أمامة الخثعمية تخاطب ابن الدمينة وكان يتغزل بها:

وأنت الذي أخلفتني ما وعدتني ... وأشمت بي مَن كان فيك يلوم

تقول له: أنت الذي أخلفت ما وعدتني بالوفاء به، ونقضت ما عاهدتني عليه، وأشمت بي كل من كان يلومني بحبك ويخطئني في الولع بك؛ لأنك لم تقم بما توجبه المحبة على المحب من الوفاء بعهد حبه.

وإذا كان المتكلم يتحدث عن غائب ورد له ذكر في الكلام على أي صورة من صور تقدم مرجع الضمير في الغيبة، كان المقام للغيبة، فينبغي أن يقول هو مثل قول أبي تمام في قصيدة يمدح بها المعتصم بالله:

بيمين أبي إسحاق طالت يد العلا ... وقامت قناة الدين واشتد كاهله

والبحر من أي النواحي أتيته ... فلجته المعروف والجود ساحله

وعلى ما سبق ذكره فإن ضمير الغائب لا بد له من مرجع يعود عليه، وهذا المرجع يجب أن يتقدم على الضمير لفظًا تحقيقًا كما في قول الله تعالى: {فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [الأعراف: 87] وكما في قول الشاعر:

من البيض الوجوه بني سنان ... ولو أنك تستضيء بهم أضاءوا

هم حلوا من الشرف المعلى ... ومن حسب العشيرة حيث شاءوا

وكنحو قولك: جاءني زيد وهو يضحك، أو تقديرًا بأن يتأخَّر المرجع عن الضمير في اللفظ، ولكن رتبته التقديم فيعد بذلك متقدمًا لفظًا وتقديرًا نحو: في داره زيد، ومن هذا القبيل قوله: نعم رجلًا زيد، على رأي مَن يجعل المخصوص بالمدح أو الذم في باب نعم وبئس مبتدأً، والجملة قبله خبرًا مقدمًا، فمرجع الضمير هنا على هذا الرأي هو المخصوص بالمدح وهو زيد، وقد تأخر لفظًا لكنه متقدم رتبةً؛ لكونه مبتدأ. وهذه صورة من صور تقدم مرجع ضمير الغيبة.

وهناك صورة ثانية تتمثل في أن يتقدم مرجع الضمير معنى بأن يتقدم على الضمير لفظ من جنسه تدل عليه قرينة؛ فمثال ما دل عليه لفظ قوله تعالى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] فالضمير هنا للعدل، وقد تقدم معناه في لفظ: {اعْدِلُوا} من ذلك قوله تعالى: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور: 28] فالضمير للرجوع وقد تقدم معناه في لفظ "ارجعوا ".
ومثال ما دلت عليه قرينة قوله تعالى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 11] فالضمير المستتر في الفعل: {تَرَكَ} وهو مسند إليه مرجعه المتوفى قد دلت عليه قرينة الحال، وذلك أن الكلام في الآية عن الميراث فالمرجع متقدم معنًى.

ومن أمثلة ما دلت عليه قرينة الحال قوله تعالى: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص: 32] فإن قرينة ذكر العشي والتواري بالحجاب مع سياق الكلام الدال على فوات وقت الصلاة تدل على أن الضمير يرجع إلى الشمس.

وقد يرد الضمير في الكلام ولا يتقدم له مرجع في اللفظ تحقيقًا ولا تقديرًا، ولا يتقدم له مرجع في المعنى، وحينئذٍ يقال: إن مرجعه متقدم حُكْمًا، ويتمثل هذا في مرجع ضمير الشأن والقصة وضمير رب، كذا قيل في التقدم الحكمي.

ومثال ضمير الشأن قوله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 90] ومثال ضمير القصة قوله تعالى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ} [الحج: 46]، فالمرجع في كل ذلك متأخر لفظًا متقدم حكمًا، ونكتة التأخير كما قالوا: البيان بعد الإبهام أو التفصيل بعد الإجمال.

***

وقد قيل: إن مقامات الإضمار هذه مباحث لغوية لا تعلق لها بالبلاغة، فإن مقام التكلم يوجب ضمير المتكلم، ومقام الخطاب يوجب ضمير الخطاب، ومقام الغيبة يوجب ضمير الغيبة، ومِثل هذا لا يتحدث عنه في البلاغة.

ولرد ذلك نقول: إن التعبير بهذه الضمائر في مقاماتها وإن كانت لغوية، فهي لا تخلو من أسرار ومزايا بلاغية تكمن وراء هذه التعبيرات يدركها كل من يتأمل السياقات ويترسم الأساليب، كما نرى ذلك في ضمير المتكلم، حيث يشعر بالاعتداد بالنفس ولذلك يؤتى به غالبًا في مقام الفخر على ما مر بنا في قول عمرو بن كلثوم:

وقد علم القبائل من معد ... إذا قبب بأبطحها بنينا

بأنا العاصمون إذا أطعنا ... وأنا الغانمون إذا عُصينا

وأنا المنعمون إذا قدرنا ... وأنا المهلكون إذا أوتينا

وأنا الحاكمون بما أردنا ... وأنا النازلون بحيث شينا

وأنا التاركون لما سخطنا ... وأنا الآخذون لما هوينا

وانظر مثلا إلى قول الله تبارك وتعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه:11: 14] فإنك تجد أن التعبير بضمير التكلم: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ}، {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ}، {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} أفاد من الإيناس والتلطف ما لا يفيده غيره خاصةً وأن الله -تبارك وتعالى- ينادي موسى أول مرة؛ فالمقام يحتاج إيناسًا وتلطفًا، وخذ مثلًا قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] وتأمل إيثاره التعبير بضمير التكلم: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا} [الإنسان: 23] {وَإِنَّا لَهُ} [يوسف: 11] وما وراء ذلك من تأكيد الحفظ وبث الطمأنينة في نفس المؤمن.

ثم تأمل قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب" وما وراء التعبير بصيغة التكلم عن الاعتداد بالنفس وتمام الثقة وبث الطمأنينة في نفوس المؤمنين، وكذا القول في بيت عمرو بن كلثوم:

ورثنا المجد قد علمت معد ... نطاعن دونه حتى يبينا

ونحن إذا عماد الحي خرت ... على الأحفاظ نمنع مَن بُلينا

إذ لا يخفَى عليك ما يكمن وراء التعبير بضمير التكلم في الأبيات من الفخر والاعتداد بالنفس.

ونرى مثل هذا في التعبير بضمير المخاطب عند خروجه عن أصله، حيث إنه وضع في الأصل لمعين كسائر المعارف، ولكن الأصل في المعين المقصود بضمير المخاطب أن يكون مشاهَدًا حاضرًا كما تقتضي حقيقة الخطاب؛ لأن الخطاب توجيه الكلام إلى حاضر المشاهد، ومع ذلك قد يخرج الضمير عن هذا الأصل فيخاطَب به غيرُ المشاهد، والنكتة في ذلك تتمثل في الإشارة إلى أنه حاضر في القلب قريب من الخاطر كأنه نصب العين، مثل قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:5: 7] ومثل قوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ} [الأنبياء: 87] كما يخاطب به غير المعين بأن يراد مطلق مخاطب، وذلك حيث يراد تعميم الخطاب وتوجيهه إلى كل مَن يتأتَّى خطابُه، فالسر البلاغي في مثل هذا إرادة العموم، وإن الأمر المسند إلى ضمير المخاطب في الكلام مقصود به كل مَن يتأتى خطابه. مثل قول المتنبي:

إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ... وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا

وقول بشار بن برد:

إذا أنت لم تشرب مرارًا على الظما ... ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه

وقول الشاعر:

إذا ما كنت ذا قلب قنوع ... فأنت ومالك الدنيا سواء

وقول الآخر:

إذا أنت لم تعرف لنفسك حقها ... هوانًا بها كانت على الناس أهون

فليس المراد بالمخاطب في هذه الأبيات إنسانًا معينًا، بل المراد كل من يتأتى خطابه، والسر هو التعميم في الخطاب إشعارًا بأن الأمور المتحدث عنها لها من الثبات في نفسها ما يجعلها صالحة لأن يخاطب بها كل إنسان.

ومن هذا القبيل قولك: فلان لئيم إذا أكرمته أهانك وإن أحسنت إليه أساء إليك، فليس المراد بالضمير في قولك: إن أكرمت وإن أحسنت مخاطبًا معينًا حاضرًا كما هو الأصل في الخطاب، وإنما المراد مطلق مخاطب على معنى أي فرد من أفراد هذا المطلق: أكرم فلانًا اللئيم أو أحسن إليه، وقابله فلان هذا بالإهانة والإساءة.

وفي هذا إشارة إلى أن سوء معاملة اللئيم لا يختص بها واحد دون آخر، ومن أجل ذلك كان الخطاب عامًّا يشمل كل مَن يمكنك خطابه.

وقد ذكر البلاغيون من شواهد هذه الخصوصية -أعني: إرادة العموم عند التعبير بضمير المخاطب- قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة: 12] المراد بالخطاب هنا كل من يتأتى منه الرؤية للإشارة إلى أن حالة المجرمين في ذلك اليوم من تنكيس الرؤوس خوفًا وخجلًا ورثاثة الهيئة واسوداد الوجه؛ وغير ذلك من سمات الخزي والخذلان المفادة من التصريح بتنكيس الرؤوس، ومن حذف جواب "لو" في الآية الكريمة، قد تناهت في الظهور والاتضاح والفظاعة لأهل المحشر، فلا يختص بها راء دون راء، بل كل من يتأتى منه الرؤيا داخل في الخطاب، بحيث لا يُختص بهذا الخطاب مخاطبٌ دون مخاطب.

وهذا معنى العموم الذي هو نكتة العدول بالخطاب عن أصل وضعه، وفي هذا التعميم المشعر بظهور حال المجرمين ظهورًا واضحًا، إشارةٌ أيضًا إلى التنفير والتحذير من سلوك المجرمين الذي أدَّى بهم إلى هذا المصير.

ومن قبيل العدول بضمير المخاطب عن أصل وضعه للعموم قوله - صلى الله عليه وسلم-: "بشروا المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة"، فليس المراد بالمخاطبين هنا جماعة معينين، وإنما المراد كل فرد من المسلمين يتأتى منه التبشير هو مأمور أن يبشر هؤلاء المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة، وفي ذلك نهاية التكريم لهم وغاية الرضا عنهم.

***

تعريف المسند إليه بالعلمية

تعريف المسند إليه بالعلمية: هواسم وُضع لتعيين مُسمَّاه بذاته دون الحاجة إلى قرينة خارجة عن لفظه.

 الأغراض البلاغية  للمسند إليه بالعلمية؛ منها:

1- إحضار المسند إليه بعينه وشخصه في ذهن السامع ابتداءً باسم مختص به:

فهناك بين المقامات ما يقتضي إحضار المسند إليه في ذهن السامع ابتداءً باسم مختص به، ولا يكون ذلك إلا بالعلم؛ لأنه يحضر مسماه في ذهن السامع ابتداء بخلاف ضمير الغائب مثلًا، فإنه وإن أحضر شخصه في ذهن السامع لكنه إحضارٌ يأتي ثانيًا بعد إحضاره بالمرجع أولًا، مثل: جاءني زيد وهو راكب.

والعلم نص في مُسمَّاه فلا يقع فيه التباس؛ لأنه موضوع للذات المشخصة المعينة بخلاف الضمير فليس نصًّا في معناه من حيث ذاته، بل هو موضوع ل كل غائب، فالذي يتحقق به إحضار المسند إليه بشخصه بمجرد النطق باللفظ والعلم، وهذا الغرض وإن كان من استعمال العلم في معناه الأصلي فهو أيضًا من وجوه البلاغة إذا اقتضاه المقام.

ومن شواهد هذا الغرض قول الله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] على جعل ضمير الشأن مبتدأً أولًا ولفظ الجلالة مبتدأً ثانيًا، والجملة من الأخير وخبره خبر المبتدأ الأول يكون فيه الشاهد، وهو إيراد المسند إليه علمًا للنقطة المذكورة، وهي إحضار المسند إليه في ذهن السامع ابتداء باسم مختص به لاقتضاء المقام لها حيث إنه مقام بيان للتوحيد وتقرير لوحدانية الله -عز وجل- والتعبير بلفظ الجلالة أعون على ترسيخ ذلك في ذهن السامع.

ومن شواهده أيضًا: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} [آل عمران: 36] وقوله كذلك: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124] وقوله أيضًا: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد: 8] وقوله -جل شأنه-: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [الرعد: 2].

إلى غير ذلك من الآيات الكريمة التي نلحظ فيها أن المسند خاص بالله -عز وجل -.

ومن شواهده أيضًا قول مالك بن عويمر الهذلي من قصيدة له في رثاء أبيه وكان يكنَّى أبا مالك، والكنية كما هو معلوم من أنواع العلم:

أبو مالك قاصر فقره ... على نفسه ومشيع غناه

فهنا يصف الشاعر أباه بكرم الطبع، وأنه إذا أعوز ورقت حاله حبس فقره على نفسه، فلا يسأل أحدًا، وإن أيسر واتسعت ذات يده أشرك صحبه في ماله وأعطى منه كل الناس، والشاهد تعريف المسند إليه أبو مالك بالعلمية بقصد إحضار مدلوله بشخصه حتى لا يلتبس بغيره، ومثل ذلك قول الحارث بن هشام معتذرًا عن فراره يوم بدر عن أخيه أبي جهل:

الله يعلم ما تركت قتالهم ... حتى علو فرسي بأشقر مزبد

وشممت ريح الموت من تلقائهم ... في مأزق والخيل لم تتبدد

فالشاعر هنا يعتذر لنفسه، إذ فرَّ من الميدان في وقعة بدر، فيقول: إنه لم يترك مكانه في ميدان الحرب إلا بعد أن ثخن بالجراح، فَعَلَا دمُه فرسَه، والأشقر: لون الدم الذي سال منه حتى علا فرسه، وهو لون أحمر يضرب إلى الصفرة والمزبد وصف آخر للدم، والشاهد التعبير عن المسند إليه الذات العلية بلفظ الجلالة الله، وهو علم لاستحضار مدلوله في ذهن السامع ابتداء باسم مختص به حيث إن المقام مقام اعتذار، وفي تفويض الشاعر عِلم حاله إلى الله وحده دليلٌ على صدق ما أراد من أنه لم يفرَّ جُبْنًا، وإنما فَرَّ بعد أن أبلى بلاءً حسنًا، حتى سالت دماؤه فغمرت فرسه.

2- تعظيم المسند إليه أو إهانته كما في الألقاب والكنى الدالة على معنى محمود أو مذموم:

مثال الأول أن تقول: أبو المعالي حضر وقدم علينا نصر الدين، ومثال الثاني أن تقول: أنف الناقة ذهب ونازعنا أبو جهل، فالتعريف في المثالين الأولين لتعظيم المسند إليه، والتعريف بالعلمية كذلك في المثالين الأخيرين للإهانة والتحقير للمسند إليه.

وقد كان لقب أنف الناقة مكروهًا ولا يحب أهله الانتساب إليه حتى قال الشاعر:

قوم هم الأنواف والأذناب غيرهم ... ومَن يسوي بأنف الناقة الذنبا

فصاروا بذلك يفخرون بالانتساب إلى أنف الناقة، وكان الرجل من نمير يفخر بنسبته إليها، ويمد صوته عند النطق بهذه النسبة وغيره مفتخرًا بذلك، ولما قال الشاعر:

فغض الطرف إنك من نُمير ... فلا كعبًا بلغت ولا كلابًا

صار يكره وينفر من تلك النسبة، وكذا كان وقع الشعر في نفوس متلقيه ومستمعيه.

3- قصد تعظيم غير المسند إليه أو تحقيره:

وكما يعرف المسند إليه بالعلمية لقصد تعظيمه أو تحقيره، يعرف كذلك بالعلمية لقصد تعظيم غيره أو تحقيره، مثل: أبو الفضل صديق ك، وأبو الجهل رفيق ك، فالتعظيم للأول للمخاطب والتحقير في الثاني للمخاطب كذلك وهو غير مسند إليه، ولكن انسحب عليه التعظيم أو التحقير لصلته بالمسند إليه، وكل قرين للمقارن ينسب.

4- قصد التبرك به إن كان مما يتبرك بذكر اسمه، أو قصد التلذذ بذكره تعريف المسند إليه بالعلمية للتبرك:

مثل: الله ربنا ومحمد - صلى الله عليه وسلم - نبينا، إذا تقدم لهما ذكر في حديث سابق فيعاد ذكرهما؛ تيمنًا وتبركًا به، وكما يكون تعريف المسند إليه بالعلمية للتبرك يكون كذلك للاستلذاذ وذلك في حق المعشوقات من المخلوقات؛ لأن النفوس ترتاح لذكر بعض الأسماء، ولذلك نرى الشعراء يكثرون من ذكر أسماء صواحبهم لهذا الغرض كما قال:

بالله يا ظبيات القاع قلن لنا ... ليلاي منكن أم ليلَى من البشر

فمقتضى سياق الكلام أن يقول: أم هي، إذ للمقام للضمير لتقدم مرجعه، لكنه أورده عَلَمًا بقصد التلذذ بذكر اسم صاحبته، ومثله كذلك قول الآخر:

ألا ليت لبنَى لم تقل لي خلة ... ولم تلقني لبنى ولم أدر ما هي

فالمسند إليه في قوله: لم تلقني لبنى، جاء معرفًا بالعلمية مع أن مقتضى الظاهر أن يعرف بالضمير لتقدم مرجعه، ولكن الشاعر أورده علمًا لقصد التلذذ.

5- قصد التسجيل على السامع؛ حتى لا يكون له سبيل إلى الإنكار:

كأن يقول القاضي مثلًا لرجل: هل أقر عمرو بذلك لزيد؟ فيقول الرجل: نعم، عمرو أقر بذلك لزيد، فيعيد المسند إليه باسمه ب قصد أن يسجل على السامع، فلا يتمكن من الإنكار بعد ذلك.

6- قصد المتكلم التفاؤل:

مثل: سعد في دارك، أو قصد التطير مثل: السفاح في دارك أو في دار فلان.

إلى غير ذلك من أسرار وأغراض ينشدها البليغ من وراء تعريف المسند إليه بالعلمية.

***

تعريف المسند إليه باسم الإشارة

تعريف المسند إليه باسم الإشارة: هو اسم معرفة يدل على شيء معيّن يتم الإشارة إليه بإشارة حسية. وهو إلى ذلك رمز للدلالة والتعبير الذي إذا غاب من الجملة نقُص معناها، وتصبح مبهمة بشكل كبير.

الأغراض البلاغية لذكر المسند إليه باسم الإشارة؛ أهمها:

1- قصد تمييز المسند إليه أكمل تمييز:

لأن اسم الإشارة يميز المشار إليه أكمل تمييز ويحدد المراد منه تحديدًا واضحًا؛ لأن التمييز الأكمل هو ما كان بالعين والقلب، ولا يحصل ذلك إلا باسم الإشارة، وهذا بالنسبة لما تحته من المعارف، ويكون الكلام في مقام لا يمكن فيه التعبير بما فوقه من المعارف، وأيضًا وجود ما هو أعرف منه لا ينافي أن يكون في اسم الإشارة خصوصية وهي تمييز المشار إليه أكمل تمييز يفوق فيها ما سواه؛ وذلك إذا كان المشار إليه حاضرًا محس ًّا بحاسة البصر أو منزلًا تلك المنزلة.

وعلى الرغم من أن هذه الخصوصية باسم الإشارة من معناه الأصلي، فهناك من المقامات ما يستدعي إبراز العناية بأمر المسند إليه وتقرير الحكم المحكوم به عليه وتأكيده، وخير ما يحقق هذا المطلوب تمييز المسند إليه أكمل تمييز؛ لذا يلجأ المتكلم في هذا المقام إلى تعريف المسند إليه بالإشارة ليتحقق لكلامه المطابقة لمقتضى الحال؛ نظرًا لهذه الخصوصية الكامنة في اسم الإشارة، نرى ذلك مثلًا في مقام المدح؛ لأن التمييز الأكمل أعون على كمال المدح وأدل على العناية بأمر ممدوح كقول ابن الرومي يمدح أبا الصقر الشيباني وزير المعتمد:

هذا أبو الصقر فردًا في محاسنه ... من نسل شيبان بين الضال والسلم

ويذكر أن الممدوح فذ في خلقه وخلقه لا يدانيه فيهما أحد، وأنه سليل قوم ذوي شمم وإباء يعيشون بين أشجار الضال والسلم وهما نوعان من أشجار البادية، وهم يسكنون البادية وسكناها عند العرب يعني الوصف بالعز والمجد؛ لأنها لا تخضع لسلطان حاكم ولا تدين لسلطة قانون كما يوجد في الحضر؛ ولذا قال أبو العلاء المعري:

الموقدون بنجد النار بادية ... لا يحضرون وفقد العز في الحضر

ومن تعريف المسند إليه باسم الإشارة في مقام المدح لتميزه أكمل تمييز قول الحطيئة:

أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا ... وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا

فهنا يمدح الحطيئة هؤلاء القوم ويذكر أنهم أشراف ماجدون إن طلبوا مجدًا تلمسوه من أشرف السبل وأهداها، وأنهم أوفياء العهد لا يعرفون الغدر، وأنهم أقوياء العزيمة إن أبرموا أمرًا عقد عليه الخناصر فلا يتقاعسون.

والشاهد في البيتين تعريف المسند إليه بالإشارة؛ هذا في بيت ابن الرومي، وأولئك في بيت الحطيئة قصدًا إلى تمييزه أكمل تمييز؛ لاقتضاء مقام المدح لهم.

ويمكن أن نعد من شواهد هذا الغرض أيضًا قول الفرزدق في علي بن الحسين سبق ذكره عندما تجاهله هشام بن عبد الملك:

هذا ابن خير عباد الله كلهم ... هذا التقي النقي الطاهر العلم

إلى آخر هذه الأبيات. فقد رد الفرزدق إنكار هشام بهذه الصفات وغيرها التي مدح بها علي بن الحسين في قصيدته، وجاءت مقررة مؤكدة بسبب تمييز المسند إليه أكمل تمييز، وذلك يرجع إلى تعريف المسند إليه بالإشارة وتكراره في الكلام الذي يشعر السامع أن هذه الصفات للممدوح ذائعة شائعة فكيف يجهل الموصوف بها أو ينكر؟!

ومن ذلك قول الله تعالى في حادثة الإفك: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور: 12] قال: هذا، ولم يقل: هو؛ ليبرز المسند إليه ويحدده فيقع الحكم عليه بأنه إفك مبين بعد هذا التمييز والتجسيد، وفي ذلك كما يقول الدكتور أبو موسى في خصائص التراكيب: كبير قدر من قوة الحكم وصدق اليقين من أنه إفك مبين.

وتأمل قوله -عز وجل- بعد ذلك: {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16] تجد تميز الحدث وكمال إبرازه بالإشارة إليه أن نتكلم بهذا: {سُبْحَانَكَ هَذَا}، قد جعل الحكم عليه بأنه بهتان عظيم يقع موقعه في الأنفس، ولا يخفى عليك ما وراء الإشارة من تحقير وإهانة لمن خاض في هذه الحادثة.

2- قصد التعريض بغباوة السامع، وأن الأشياء لا تتميز عنده إلا بالإشارة الحسية:

كقول الفرزدق يهجو جريرًا ويفتخر عليه:

أولئك آبائي فجئني بمثلهم ... إذا جمعتنا يا جرير المجامع

فهنا يخاطبه قائلًا: أولئك الذين عرفت ما لهم من القدر العظيم، وعلمت ما بلغوه من الشرف الرفيع، هم آبائي الذين أعتز بهم وأفخر، فهل تستطيع يا جرير ولن تستطيع أن تأتي بأمثالهم من آبائك إذا جمعتنا مجامع الفخر والمساجلة؟ فالأمر في قوله: فجئني؛ للتعجيز، والشاهد في البيت هنا: أولئك آبائي حيث عرف المسند إليه بالإشارة؛ قصدًا إلى التعريض بغباوة السامع، وأنه لا يدرك إلا المحس لحاسة البصر؛ لأن المشار إليهم غائبون لموتهم، وفي التعريف بالإشارة أيضًا تعظيم للآباء. وهذا سر آخر، ومعلوم أن النكات البلاغية لا تتزاحم.

3- قصد تعظيم المسند إليه أو تحقيره بتعريفه باسم الإشارة:

بيان ذلك: أن أسماء الإشارة -كما نعلم- منها ما هو موضوع ليُشَار به إلى القريب مثل قولك: هذا زيد، ومنها ما هو موضوع للبعيد مثل: ذلك عمرو، ومنها ما هو للوسط بين القرب والبعد مثل: ذاك بشر.

فيعرف المسند إليه بالإشارة للقريب بسر بلاغي يتمثل في تعظيمه؛ تنزيلًا لقربه من النفس منزلة قرب المسافة والمكانة؛ فيعبر عنه حينئذٍ باسم الإشارة الموضوع للقريب؛ تحقيقًا لهذا الغرض كما في قول الله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9] ووجه إفادة التعظيم من اسم الإشارة الموضوع للقريب أن المحبوب يكون عادة مخالطًا للنفس، حاضرًا في الذهن، لا يغيب عن الخاطر، فإرادة تعظيمه يناسبها القرب المكاني.

وكما يعرف المسند إليه بالإشارة للقريب للتعظيم يعرف بها أيضًا بقصد التحقير؛ تنزيلًا لدنو منزلته وانحطاط مرتبته منزلة قرب المسافة؛ فيعبر عنه حينئذٍ باسم الإشارة الموضوع للقريب؛ تحقيقًا لهذا الغرض، كما في قول الله تعالى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64] وقد أشير إلى الحياة الدنيا بالقريب إشعارًا بهوانها وحقارتها، فلا ينبغي للمؤمن أن يجعلها غاية أو أن يتخذها هدفًا. من هنا قال - صلى الله عليه وسلم-: "لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة، ما سقى الكافر منها جرعة ماء"، وكما في قوله تعالى حكايةً لقول المشركين: {أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} [الأنبياء: 36] مُشِيرين إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قصدًا إلى إهانته في زعمهم -قبحهم الله -.

ومن هذا القبيل قول الشاعر:

ولا يقيم على ضيم يراد به ... إلا الأذلان عير الحي والوتد

هذا على الخسف مربوط برمته ... وذا يشج فلا يرثى له أحد

فقد عرف المسند إليه في الموضعين من البيت الثاني باسم الإشارة الموضوع للتحقير، ووجه دلالته على التحقير أن التحقير عادة لا يمتنع على الناس، بل يكون قريب الوصول إليه مبتذلًا، فتحقيره حينئذٍ يناسبه القرب المكاني على هذا التقدير.

ومن التعريف باسم الإشارة الموضوع للقريب لقصد التحقير، هكذا نلحظ أن الإشارة للقريب كانت وسيلة للتعظيم في مواطن عديدة، ووسيلة للتحقير في مواطن أخرى، ولا ضير في ذلك، فالجهة منفكة والوجهة مختلفة.

ومن دواعي تعريف المسند إليه بالإشارة قصد تعظيم المسند إليه أو تحقيره بتعريفه باسم الإشارة الموضوع للبعيد، فما قلناه في التعريف باسم الإشارة الموضوع للقريب من حيث الدلالة على التعظيم أو التحقير نقوله كذلك في التعريف باسم الإشارة الموضوع للبعيد من حيث دلالته على تعظيم المشار إليه مرة في مقام، ولدلالته على تحقيره في مقام آخر.

ولكل دلالة وجهتها، فالجهة منفكة والوجهة مختلفة -كما قلنا آنفًا- ومن هذا المنطلق نجد تعريف المسند إليه بالإشارة للبعيد تفيد تعظيمه تنزيلًا لبُعْدِ درجته وعُلوّ مرتبته منزلة بُعْد المسافة؛ فيُعَبَّر عنه حينئذٍ باسم الإشارة الموضوع للبعيد للدلالة على قصد التعظيم، كما في قول الله تعالى حكايةً عن امرأة العزيز ردًّا على أولئك النسوة اللاتي لمنها: {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} [يوسف: 32] لم تقل: هذا مع إنه قريب حيث كان حاضرًا في المجلس؛ رفعًا لمنزلته في الحسن، وتمهيدًا للعذر في الافتتان به.

ومثله قوله تعالى: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف: 72] وقوله سبحانه: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2] فتعريف المسند إليه فيهما بالإشارة للبعيد للدلالة على تعظيم شأنهما، ووجه الدلالة على التعظيم أن العظيم عادة بعيد المنزلة عالي المكانة، ويُنزَّل البعد المعنوي هذا منزلة البُعْد الحسي الموضوع له اسم الإشارة؛ ولذلك يُعبَّر عنه باسم الإشارة الموضوع للبعيد بُعْدًا حِسِيًّا، فيفيد البُعْد المعنوي المُشْعِرُ بالتعظيم.

هذا؛ وكما يعرف المسند إليه بالإشارة للبعيد لقصد التعظيم يعرف بها أيضًا لقصد التحقير تنزيلًا لبعده عن ساعة الحضور والخطاب منزلة بعد المسافة؛ فيعرف حينئذٍ بالإشارة من بعيد للدلالة على معنى التحقير، خذ مثلًا في ذلك قول الله تعالى: {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الماعون:2، 3] وكما تقول لشخص يحضر مجلسك: ذلك الرجل وشَى بي عند الأمير، ووجه الدلالة هنا على التحقير أن الحقير عادة تنفر منه النفس، وهو بعيد عن القلب والخاطر لا يلتفت إليه لحقارته، فينزل هذا البعد المعنوي منزلةَ البعد الحسي الموضوع له اسم الإشارة، ولذلك يشار إليه بما يشار به إلى البعيد حسًّا؛ فتفيد الإشارة البعد المعنوي المشعر هنا بالتحقير.

ومن هذا القبيل قوله تعالى في شأن الناس يوم البعث بعد النفخ في الصور: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون: 102، 103] حيث نرى الإشارة إلى البعيد في الآية الأولى أفاد للتعظيم، وهي بعينها في الآية الثانية أفادت التحقير، لكن باعتبارين مختلفين، وفي ذلك يقول الخطيب القزويني في الإيضاح: وربما جُعل البعد ذريعة إلى التعظيم كقوله تعالى: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة: 1، 2] ذهابًا إلى بُعْد درجته ونحوه: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا} [الزخرف: 72] ولذا قالت: {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} ولم تقل: فهذا وهو حاضر؛ رفعًا لمنزلته في الحسن، وتمهيدًا للعذر في الافتتان به، وقد يجعل ذريعة إلى التحقير كما يقال: ذلك اللعين فعل كذا.

4- قصد التنبيه إلى أن المشار إليه الموصوف بعدة أوصاف حقيق من أجل هذه الصفات لما يذكر بعد اسم الإشارة من جزاء:

كما في قول الله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 5] بعد قوله -عز وجل-: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 4] فالمشار إليه في الآية بأولئك هم المتقون، وقد ذكر عقيبه أوصاف هي الإيمان بالغيب وإقامة الصلاة والإنفاق من الرزق والإيمان بما أنزل والإيقان بالآخرة، وإنما أشير إليهم بأولئك مع أن المقام للضمير لوجود مرجعه؛ تنبيهًا على أن المشار إليهم -وهم هنا المتقون- أحقاء من أجل الأوصاف التي وصفوا بها بما يذكر بعد اسم الإشارة من الجزاء؛ وهو الفوز بالهداية في الدنيا وبالفلاح في الآخرة.

ووجه تنبيه اسم الإشارة على أن المشار إليه حقيق وجدير بهذا الجزاء بسبب ما وصف به، هو أن اسم الإشارة موضوع للدلالة على المشار إليه، والمشار إليهم في الآية التي معنا هم الذوات مع ملاحظة الأوصاف السابقة؛ لأن كمال التمييز الدال عليه اسم الإشارة إنما يكون بمراعاة هذه الأوصاف، وتعليق الحكم على موصوف يشعر بغلبة الوصف، يعني: أن الأوصاف المذكورة هي العلة في استحقاقهم هذا الجزاء المتمثل هنا في الهداية والفلاح، أما الضمير فإنه لا يفيد مراعاة هذه الأوصاف في الغلبة وإن كانت موجودة؛ لأنه موضوع للذات المجردة عن أي اعتبار، لهذا كان المقام للإشارة لا للضمير.

ونظير ما جاء في صدر سورة البقرة بهذا الخصوص كثيرٌ في النظم القرآني ارجع إلى قوله تعالى مثلًا: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} [المؤمنون: 10] في سورة البقرة: {أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [العنكبوت: 52] في سورة الرعد: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ} [الرعد: 5] وتأمل ما قبله وما بعده؛ ليتضح لك ما قلناه.

5- قصد إبراز المعقول في صورة المُحَس:

فإن المتكلم قد يعظم المعنى في نفسه حتى يخيل إليه أنه صار شيئًا مُحَسًّا يُشَارُ إليه بالبنان؛ فيعمد إلى تعريفه بالإشارة التي تجسد الأمر المعنوي وتبرزه في صورة مرئية مشاهدة، مثل قوله سبحانه على لسان المنكرين للبعث: {قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [المؤمنون: 82، 83].

وهذا الغرض لتعريف المسند إليه بالإشارة شائع ذائع في الشعر والكلام الجيد، وفي القرآن كثير، ولو رجعنا إلى آية الإفك التي استشهدنا بها على تمييز المسند إليه أكمل تمييز بواسطة تعريفه بالإشارة، لوجدنا الإشارة فيها أيضًا قد أبرزت الأمور المعنوية وجسدتها في صورة حسية.

ونظير ما سبق ما جاء في قول الله تعالى: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} [النور: 44] فالإشارة قد أبرزت التقليب في صورة محسوسة مرئية ولكنها بعيدة؛ ذلك لأنه لا يأخذ العظة منها إلا النفوس المؤمنة القوية المهيأة للوعي والإدراك، ومثله قوله تعالى: {قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} ومثله قوله تعالى: {قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} [يوسف: 37].

هذا؛ ومن مزايا اسم الإشارة أنك تجده في كثير من الأساليب يلخص الكلام، إذ يستطيع به المتحدث أن يطوي جملًا كثيرة ً، بل وربما صفحات كاملة دون حاجة إلى إعادتها؛ لأن اسم الإشارة يقوم مقامَ هذه الإعادة ويغني عنها، وانظر مثلًا في ذلك إلى قول الله تعالى {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} [الإسراء: 39] تجد أن اسم الإشارة: {ذَلِكَ} قد أغنى عن آيات عديدة حوت كثيرًا من الأوامر والنواهي، وهذا كثير في النظم الكريم وفي الأساليب الرفيعة، وهو لا يخفَى على الناظر الدقيق والمتأمل الواعي.

ومن مزايا اسم الإشارة أيضًا أنه يقوم مقام أدوات الربط، فَيَصِلُ بين الجمل المستأنفة والجمل المتقدمة على نحو ما نرى في الآيات الكريمة: {وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ * هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 48، 49] {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ * هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ} [ص: 54، 55].

إلى غير ذلك من الأغراض والمزايا والمعاني اللطيفة التي تكمن وراء التعريف بأسماء الإشارة.

***

تعريف المسند إليه بالاسم الموصول

تعريف المسند إليه الاسم الموصول: هو اسم يدل على شيء مُحَدَّد مذكور قبله، والجملة التي تأتي بعد الاسم الموصول تُسمى صلة الموصول، ولا يتم معنى العبارة إلا إذا تم ذكر صلة الموصول في الجملة.

الأسرار البلاغية لذكر المسند إليه باسم الموصول:

ويؤتى المسند إليه اسم الموصول بأسرار يقصدها المتكلم منها عدم علم المخاطب بالأحوال المختصة بالمسند إليه سوى الصلة، والمراد باختصاص الأحوال بالمسند إليه عدم عمومها لغالب الناس لا عدم وجودها في غيره.

1-  تعيين المسند إليه لدى المخاطب بواسطة الصلة:

معلوم أن الموصول اسم يعين مسماه بواسطة جملة تأتي بعده تسمى بجملة الصلة، وقد يكون المخاطب لا يعلم شيئًا عن ذات المسند إليه سوى مضمون هذه الجملة؛ لذا يعمد المتكلم في هذا المقام إلى التعبير عن ذات المسند إليه باسم الموصول فيتعين بواسطة الصلة لدى المخاطب، ويتسنى بتعريفه بالموصولية للمتكلم والإخبار عنه والحكم عليه، كأن ترى عند أحد أصدقائك رجلًا لا عهد له به من قبل فت ق ول له في الغد: الذي كان عندك أمس رجل عالم، أو لا عهد لك أنت به من قبل، حيث لا تعرف عنه سوى مضمون الصلة، فتورده معرفًا بالموصولية حتى تتمكن من الإخبار عنه أو الحكم عليه.

2- استهجان التصريح بالاسم الدال على المسند إليه:

بأن كان مشعرًا بما تقع نفرة النفس منه أو قبح التلفظ به؛ لذا يعمد المتكلم إلى تعريف المسند إليه بالموصولية؛ دفعًا لقبح التلفظ باسمه، ونفور النفس من سماعه، مثل قولهم: الذي يخرج من السبيلين ناقض للوضوء، والخارج هو البول والغائط، وغيرهم، فمن هنا عبروا باسم الموصول؛ تحاشيًا للنطق بما يقبح التلفظ به، وتجنبًا لإسماع المخاطب ما تشمئز منه نفسه وتأباه أذنه.

ومن تعريف المسند إليه بالموصولية استهجانًا لذكر اسمه قول حسان بن ثابت -رضي الله عنه- يخاطب أم المؤمنين -رضي الله عنها- ويبرئ نفسه مما نُسِبَ إليه في حديث الإفك:

فإن الذي قد قيل ليس بلائط ... ولكنه قول امرئ بي ماحل

ومعنى ليس بلائط؛ أي: ليس بلازم ولا لاحق، ومعنى الماحل الذي يمشي بالنميمة، حيث استهجن حسان أن يذكر اتهام عائشة - رضي الله عنها - في حادثة الإفك فعبر عنه باسم الموصول مشيرًا بما تضمنته الصلة من فعل القول المبني للمجهول، وقد قيل: أن هذا الاتهام قول ساقط لا يصدر مثله عن عاقل، كما أشار بالتعبير بالزعم في بيت آخر؛ لأن هذا القول كذب وافتراء، وذلك في قوله:

فإن كنتُ قد قلت الذي زعمتم ... فلا رفعت صوتي إلى أناملي

3- زيادة تقرير الغرض المسوق له الكلام:

كما في قوله تعالى: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف: 23] فالغرض المسوق له الكلام هو تقرير نزاهة سيدنا يوسف - عليه السلام - وعِفته، والتعبير باسم الموصول أدل على هذا الغرض مما لو قال: وراودته زُليخا أو امرأة العزيز؛ لأن هذا التقدير الأخير يقرر الغرض فقط ولا يزيده تأكيدًا، بينما اشتملت الصلة المعبر عنها بالموصول على ما تفيده هذه الزيادة في التقرير؛ لأنه في بيتها وتمكن من أداء ما طلبت منه، حيث هيأت له كل أسباب التمكن ومع ذلك عف وامتنع، فكان ذلك غاية في نزاهته عن الفحشاء.

ومن منطلق قول البلاغيين: النكات البلاغية لا تتزاحم، يمكننا أن نقول للتعريف بالموصولية هنا سر ثاني يتمثل في التقرير للمسند الذي هو المراودة، وأنها وقعت منها لا محالة؛ لأن وجوده - عليه السلام - في بيتها مع ما لها من سعة السلطان وقوة النفوذ ومع فرط الاختلاط والألفة، دال على وقوع المراودة وصدور الاحتيال منها.

ويصح أن يكون لتعريف المسند إليه بالموصولية سر بلاغي آخر، وتقرير المسند إليه نفسه الذي هو امرأة العزيز المعبر عنه في الآية باسم الموصول التي، وأنها هي بذاتها التي راودته لا امراة أخرى؛ إذ لو قيل: وراودته زليخا، لم يعلم يقينًا أنها المرأة التي هو في بيتها بخلاف التعبير بالموصول، فإنه لا احتمال فيه؛ لأنه معلوم من الخارج أن التي هو في بيتها إنما هي زليخا امرأة العزيز لا غير.

هذا؛ ويصح أن يكون الغرض للتعبير بالموصول أيضًا استهجان التصريح بالاسم إما لأن العادة جرت على استهجان التصريح بأسماء النساء، وإما لشناعة الفعل المنسوب إليها؛ لأن مَن تقبل على فعل الفاحشة تنفر منها النفوس السليمة، وتأبَى نسبتها إلى زوجها، لا سيما مع كونه من ذوي المكانة والخطر في المجتمع.

4- التفخيم والتهويل:

فإن قصد تفخيم المسند إليه وتهويل أمره يمكن أن يُفاد من الموصولية؛ لما في بعض أسماء الموصول من إبهام وغموض يشعر بالتفخيم والتهويل؛ كما في قول الله تعالى: {فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} [طه: 78] أي: غمرهم ماء غزير لا يدركه وهم ولا يحده وصف. وكقوله سبحانه: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} [النجم: 16] أي: يغشاها أمور عظيمة الله وحده بها عليم.

ومن أجل تحقيق هذا المعنى عبر في الآيتين بـ"ما" الموصولية؛ لأن في إبهامها تفخيمًا وتهويلًا لا يفي به التصريح فيما لو قيل: غشيهم من اليم مقدار كذا، أو إذ يغشى السدرة أشياء كثيرة مثل كذا؛ لأن في الموصول إشارةً إلى أن تفصيل المسند إليه وبيانه مما لا تفي به عبارة ولا يحيط به عقل مخلوق، ولله در الإمام الزمخشري حين قال معقبًا على قول الله تعالى: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى}: وقد علم بهذه العبارة أن ما يغشاها من الخلائق الدالة على عظمة الله وجلاله أشياء لا يكتنهها النعت ولا يحيط بها الوصف.

5- تنبيه المخاطب على خطأ وقع منه أو من غيره:

وذلك إذا كانت الصلة ما يشعر بهذا الخطأ، فإذا أراد المتكلم تنبيه المخاطب إلى خطئه أتى بالمسند إليه اسمًا موصولًا؛ تحقيقًا لهذه النكتة البلاغية مثل قول عبدة بن الطيب من قصيدة يعظ فيها بنيه:

إن الذين ترونهم إخوانكم ... يشفي غليل صدورهم أن تصرعوا

فهنا ينبه الشاعر إلى خطئهم في ظنهم أن هؤلاء الناس إخوان وأصدقاء وهم في الحقيقة مخدوعون فيهم؛ لأن صدورهم تغلي حقدًا عليهم ولا يشفيها إلا أن تصيبهم أحداث الدهر بالنكبات والرزايا والهلاك، ولو صرَّح الشاعر بأسماء هؤلاء الأعداء لبنيه بالموصول لَمَا أفاد التعبير به من تنبيههم إلى خطئهم، ومما أفاد هذا الغرض في آي الذكر الحكيم قول الله -تبارك وتعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأعراف: 194] فإنك إذا تأملتَ تجد أن جملة الصلة: {تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} تفيد تنبيه المشركين إلى خطئهم في عبادتهم غير الله تعالى.

6- تنبيه المخاطب على خطأ وقع منه، ويعرف كذلك بالموصولية لتنبيه المخاطب على خطأ وقع من غيره:

 مثل قول الشاعر:

إن التي زعمتْ فؤادك مَن لها ... خلقت هواك كما خلقت هوًى بها

ففي التعبير بالموصول تنبيه على خطئها في زعمها أن قلبه زهَدَ فيها، كما أن فيه إيماءً إلى أن الخبر من نوع المحبة والوفاء.

7- تشويق المخاطب إلى الخبر ليتمكن في ذهنه فضلَ تمكنٍ، وذلك حيث يكون مضمون الصلة أمرًا غريبًا:

كما في قول أبي العلاء المعري:

والذي حارت البرية فيه ... حيوان مستحدَث من جماد

فقد عبر عن المسند إليه باسم الموصول بقصد تشويق المخاطب إلى الخبر؛ لما في مضمون الصلة من ذلك الأمر الغريب، وهو إيقاع البرية كلها في حَيرْة وارتباك؛ فإن مثل هذا الأمر الغريب مما يشوق النفس إلى أن تعرف ذلك الذي أوقع البرية كلها في هذه الحيرة، ومثل قول ك: الذي يصيد الأسود في مرابضها فلان، والذي يصيد الأفاعي في أوكارها فلان؛ وأشباه ذلك مما تضمن أمرًا غريبًا لا يقره الإلف والعادة.

8- أن يقصد المتكلم إخفاء الأمر المتحدث عنه عن غير المخاطب:

 مثل قول الشاعر:

وأخذت ما جاد الأمير به ... وقضيت حاجاتي كما أهوى

وقد يقصد إخفاء اسم المتحدث عنه؛ رغبةً في هدايته واستمالة له، نحو: الحق والهدى؛ كما في قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة: 204] قوله -عز وجل -: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [الحج: 8] وقوله -تبارك وتعالى-: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا} [لقمان: 6].

9- قصد الإيماء إلى وجه بناء الخبر:

أي: الإشارة إلى نوع الخبر المراد إسناده إلى المسند إليه المعبر عنه باسم الموصول، من حيث كونه مدحًا أو ذمًّا أو نجاحًا أو إخفاقًا أو ثوابًا أو عقابًا، فإن المتكلم في بعض المقامات قد يقصد إشعارَ السامع بنوع الخبر قبل النطق به فيقتضيه هذا القصد أن يعرف المسند إليه بالموصولية؛ ليتحقق له الإيماء إلى نوع الخبر؛ نظرًا لما يكون في الصلة من مناسبة للخبر، تشعر بنوعه وطريق إسناده إلى الموصول قبل النطق به؛ كما في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} [الكهف: 107] ففي مدلول الصلة وهو الإيمان والعمل الصالح ما يشير إلى أن الخبر المحكوم به من نوع الإثابة والإمتاع. وكقوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60] وفي مضمون الصلة أيضًا وهو الاستكبار عن العبادة إيماء وإشارة إلى أن الخبر المترتب عليه من جنس الإذلال والعقوبة.

ومن ذلك قولهم: إن من يصبر ويتأنَّى ينال ما يتمنى، ومن يستمرئ مرعى الكسل يجانبه الأمل، ففي الأمل إيماء إلى أن الخبر من نوع الفوز والنجاح، وفي الثاني إشارة إلى أن الخبر من جنس الإخفاق والحرمان.

وهكذا يؤتَى بالمسند إليه معرفًا بالموصولية للإشارة إلى نوع الخبر المراد إسناده إليه أو الحكم به عليه، فيفطن المخاطب من فاتحة الكلام إلى ما تدل عليه خاتمته، والمرجع في ذلك إلى الذوق السليم.

هذا؛ وقد يكون الإيماء إلى نوع الخبر مقصودًا لذاته -كما سبق - وقد لا يكون مقصودًا لذاته، بل المقصود جعله وسيلة وواسطة لغرض آخر وهو التعريض بتعظيم شأن الخبر، أو التعريض بإهانته، أو التعريض بتعظيم شأن غير الخبر، أو التعريض بإهانة وتحقير غير الخبر.

قول الفرزدق يفتخر على جرير:

إن الذي سمك السماء بنَى لنا ... بيتًا دعائمه أعز وأطول

أي: إن الذي رفع السماء ذلك البناء الضخم بنى لنا مجدًا وشرفًا لا يطاولهما شيء، والشاهد هو تعريف المسند إليه بالموصولية في قوله: الذي سمك السماء، فإن في الموصول إشارةً إلى أن الخبر المبني عليه من جنس الرفعة والبناء، ولكن هذه الإشارة وهذا الإيماءُ إلى نوع الخبر ليس مقصود الشاعر، وإنما هدفه التعريض بتعظيم بيته وتفخيمه من حيث إ ن بانيه هو ذلك الذي رفع السماء.

ومثال ما فيه تعريض بالتهوين من شأن الخبر قولك مثلًا: إن الذي لا يحسن الفقه صنَّف فيه، في الموصول إشارة إلى أن الخبر من جنس التأليف لكن ليس هذا هو الغرض الأساسي، وإنما المقصود هو التوسل بهذه الإشارة إلى التعريض بتحقير الخبر؛ وهو أن ما ألفه وصنفه في الفقه.

ومثال ما فيه تعريض بتعظيم شأن غير الخبر قوله تعالى: {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 92] ففي التعبير عن المسند إليه باسم الموصول إشارة إلى نوع الخبر، وأنه من جنس الخسران، وذلك أن شعيبًا نبي تكذيبه يؤدي إلى الخيبة والخسران، لكن هذا الإيماء إلى نوع الخبر ليس مقصودًا لذاته، بل هو وسيلة إلى التعريض بتعظيم شأن غيره، وهو شعيب - عليه السلام- لأن تكذيبه هو سبب خسرانه، ولفظ شعيب واقع في سياق الصلة لا في سياق الخبر، ف التعريض إذن لتعظيم شأن غير الخبر.

ومثال ما فيه تعريض بتحقير غير الخبر قولهم: إن الذي يتبع الشيطان خاسر، ففي الصلة إيماء إلى أن الخبر من نوع الخسران والبَوار؛ لأن الشيطان ضال مضل فاتباعه ضرب من الخسران والضلال والهلاك، غير أن الغرض التعريض بتحقير شأن الشيطان من حيث إن اتباعه يؤدي إلى هذا المصير البغيض، ولفظ الشيطان وقع كذلك في جملة الصلة لا في جملة الخبر، والتعريض حينئذٍ بالتهوين والتحقير من شأن غير الخبر.

والذي يتأمل كلام السكاكي قد نقله عنه القزويني يرى أن الإيماء إلى نوع الخبر الذي هو أحد أغراض تعريف المسند إليه بالموصولية قد يكون ذريعةً ووسيلةً إلى تحقيقه وتقريره، وذلك إنما يكون حيث تكون الصلة كالسبب للخبر أو كالدليل على ثبوته كما في قول الشاعر يشكو ويتوجع من جفاء حبيبه:

إن التي ضربت بيتًا مهاجرة ... بكوفة الجند غالت ودها غول

غالت يعني: أكلت، يقول: إن التي نزعت إلى الكوفة واتخذت بها موطن إقامة دائمة، وانحلت عُرى العلاقة بيني وبينها، ففي الموصول إيماء إلى وجه بناء الخبر، وأنه من نوع زوال المحبة وانقطاع المودة والجفاء من جانبها هي، كما يدل على ذلك قوله بعد هذا البيت معزيًا ومسليًا نفسه؛ حتى يهون عليها تشبثه بحبها، حيث قال:

فعدِّ عنها ولا تشغلك عن عمل ... إن الصبابة بعد الشيب تضليلٌ

لأنها هي التي هجرت الوطن، والإنسان لا يهجر وطنه إلى غيره عادة إلا إذا كان كارهًا لأهله راغبًا عنهم، ومع ما في الموصول من هذه الإشارة إلى نوع الخبر هو كالدليل على تحقيق هذا الجفاء وتقريره، فالإيماء هنا وسيلة إلى تحقيق الخبر عند السكاكي.

من هنا ندرك أن هناك فرقًا واضحًا بين الإيماء إلى وجه بناء الخبر وتحقيق الخبر؛ فالإيماء إشعار بالخبر ودلالة عليه، أما تحقيق الخبر فمعناه ثبوته وتقريرُه في الواقع، فهذا غير ذاك، وقد يجتمعان كما في البيت: إن التي ضربت بيتًا مهاجرة، وقد ينفرد الإيماء كما في بيت الفرزدق: إن الذي سمك السماء بنى لنا،؛ لأن الإيماء إلى الخبر أعم من تحقيقه وإفادة الجزم به.

***

تعريف المسند إليه بـ"أل"

يُعَرَّف المسند إليه بـ"أل" لغرضين بلاغيين:

أحدهما: الإشارة بها إلى معهود خارجي، وهي التي يكون مدخولها معينًا في الخارج، وتسمى اللام حينئذ لام العهد الخارجي.

ثانيهما: الإشارة بها إلى الحقيقة، وهي التي يكون مدخولها موضوعًا للحقيقة والماهية، وتسمى اللام حينئذ لام الحقيقة أو لام الجنس، ولكل من اللامين أقسام ثلاثة بالنظر إلى مدخولها.

أقسام لام العهد الخارجي، وسر التعبير عنها:

1- هناك لام العهد الخارجي الصريحي:

وهي التي يتقدم لمدخولها ذِكر صريح في الكلام، كما في قولك مثلًا: صنعت في طالب معروفًا ولم يحفظ الطالب هذا المعروف، فإتيان المسند إليه وهو لفظ الطالب معرفًا بـ"أل " للإشارة بها إلى معهود خارج عهدًا صريحًا لتقدم ذكره صراحةً في قولك: صنعت في طالب معروفًا، ومثاله أيضًا قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} [النور: 35] فلفظ المصباح والزجاجة كل منهما مسند إليه، وقد أتيَا معرفين بـ"أل " إشارةً إلى معهود خارجي، وهذا المعهود قد صرح به قبلًا في قوله سبحانه: {فِيهَا مِصْبَاحٌ}، {فِي زُجَاجَةٍ} ولذا سميت اللام هنا لام العهد الخارجي الصريحي.

2 - وهناك لام العهد الخارجي الكنائي

وهي التي يتقدم لمدخولها ذكر كنائي؛ أي: غير مصرح به كما في قول الله تعالى في شأن أم مريم: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} [آل عمران: 35، 36] فلفظ الذكر مسند إليه؛ لأنه اسم ليس فهو في الأصل مبتدأ، وقد جاء معرفًا بـ"أل " للإشارة بها إلى معهود خارجًا عهدًا كنائيًّا لعدم التصريح بلفظه، وإنما ذكر كنايةً في قوله تعالى حكاية عن أم مريم: {نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} فإن لفظ ما مبهم يعم الذكور والإناث، لكن التحرير وهو أن يعتق الولد ليكون وقفًا على خدمة بيت المقدس كان خاصًّا بالذكور فقط، فـ"ما" حينئذ كناية عن الذكر لاختصاص التحرير بالذكور، والمراد بالكناية هنا الخفاء؛ لأن فهم الذكر من لفظ "ما" الذي يطلق على الذكر والأنثى فيه نوع خفاء؛ لعدم التصريح.

ويصح أن يكون المراد بالكناية المعنى الاصطلاحي عند البلاغي وأن المطلوب بها موصوف؛ لأن التحرير من الصفات المختصة بالذكور فهو إذن ملزوم والذكر لازم له، وقد أطلق اسم الملزوم وهو لفظ: {مَا فِي بَطْنِي} الموصوف بالتحرير وأريد اللازم وهو الذكر، ومن أجل هذا سميت اللام هنا لام العهد الخارجي الكنائي.

3 - لام العهد الخارجي العلمي:

وهي التي لا يتقدم لمدخولها ذكر مطلقًا لا صريحًا ولا كناية ً، ولكن للمخاطب عهد به سواء كان حاضرًا بالمجلس أو غائبًا عنه؛ كأن تقول في شأن رجل حاضر: أبدع الرجل في خطبته، وتسمى اللام حينئذ لام العهد العلمي الحضوري؛ لأن المتكلم اعتد فيها على ما عند المخاطب من علم بشأن هذا الحاضر في المجلس، وكأن تقول في شأن رجل غائب: حاضرنا الرجل فأبدع في محاضرته فالمسند إليه في المقامين جاء معرفًا ب ـ"أل " للإشارة بها إلى معهود خارجًا عهدًا علميًّا لتقدم عهد المخاطب به، ومنه في غير المسند إليه قول الله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18] فالمراد بالشجرة شجرة معهودة عهدًا علميًّا حيث لم يتقدم لمدخولها ذِكر لا صريحًا ولا كناية وإن كانت غير مسند إليه.

***

أقسام لام الحقيقة:

فهي تنحصر فيما يسمى بلام الحقيقة، أو لام الجنس، وكذا لام العهد الذهني، ولام الاستغراق.

لام الحقيقة أو لام الجنس:

 هي التي يكون مدخولها مرادًا به الحقيقة نفسها بغض النظر عما ينطوي تحتها من أفراد، كما في قولهم: الرجل خير من المرأة؛ أي: حقيقة الرجل خير من حقيقة المرأة، وهذا لا ينافي أن يكون بعض أفراد جنس النساء خيرًا من بعض أفراد جنس الرجال؛ لأن المنظور إليه في الخيرية والمفاضلة إنما هو الحقيقة لا الفرض، ومنه قولهم: أهلك الناسَ الدينارُ والدرهم، فالمسند إليه جاء معرفًا ب ـ"أل " للإشارة بها إلى الحقيقة والجنس بغض النظر عن الأفراد؛ لأن الحكم المذكور على جنس هذين النقدين لا على نقد بعينه.

ومثله قول أبي العلاء المعري:

والخِل كالماء يبدي لي ضمائره ... مع الصفاء وي خ فيها مع الكدر

فالحكم بالتشبيه هنا على حقيقة الخل لا على خل معهود، ومنه في غير المسند إليه قول الله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30] يراد حقيقة الماء لا ماء معين، ونحوه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} [الأنعام: 89].

أما لام العهد الذهني:

فهي التي يكون مدخولها مرادًا به فرد مبهم من أفراد الحقيقة لقرينة دالة على ذلك؛ أي: أن الفرد المبهم مستفاد من قرينة خارجية لا من المعرف باللام؛ لأنه موضوع بالحقيقة، بخلاف النكرة فإنها تدل على الفرد المبهم ابتداء بذاتها.

ومن أمثلة هذه اللام كلمة الذئب في قوله تعالى على لسان يعقوب - عليه السلام-: {وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} [يوسف: 13] فالقصد هنا إلى فرد مبهم من حقيقة الذئب، والقرينة على ذلك قوله: {أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ} فليس المراد الحقيقة نفسها؛ لأن الحقيقة من حيث هي أمر لا وجود له خارجًا حتى يتحقق منه أكل أو شرب، وإنما يتأتَّى ذلك من الأفراد، كما أنه ليس المراد حقيقة من حيث وجودها في جميع الأفراد؛ لاستحالة أن تجتمع الذئاب كلها على أكله، ولا الحقيقة من حيث وجودها في فرد بعينه، إذ لا عهد في الخارج بذئب معين، لتعين أن يكون المراد فردًا مبهمًا من أفراد الحقيقة.

ومن أمثلة هذه اللام كلمة الغراب في قول الشاعر:

فمَن طلب العلوم بغير كد ... سيدركها إذا شاب الغراب

فليس المراد الحقيقة نفسها؛ لاستحالة قيام الشيب بما لا وجود له في الخارج، ولا الحقيقة في ضمن جميع أفرادها لعدم الداعي إليه، ولا الحقيقة من حيث وجودها في فرد بعينه إذ لا عهد بغراب معين، فتعين أن يكون المقصود فردًا غير معين من أفراد الحقيقة بقرينة قوله: شَاب َ.

ومن هذا القبيل في غير المسند إليه قولك: أدخلُ السوق، فليس المراد حقيقة السوء لاستحالة الدخول فيما لا وجود له خارجًا، ولا سوقًا بعينها، إذ ليس بينك وبين مخاطبك سوق معينة، ولا جميع أفراد حقيقة السوق لاستحالة

الدخول في جميع أفراد هذه الحقيقة، فتعين أن يكون المراد فردًا ما من أفرادها، ومنه قول الشاعر:

ولقد أمر على اللئيم يسبني ... فمضيت ثمة قلت لا يعنيني

فالشاعر لا يريد حقيقة اللئيم لاستحالة المرور بما لا وجود له في الخارج ولا لئيمًا بعينه، إذ لا عهد له به، ولا الحقيقة في ضمن جميع أفرادها؛ لعدم تأتي المرور بكل لئيم، فتعين أن يكون المراد فردًا غير معين من أفراد الحقيقة.

هذا؛ ولك أن تسأل قائلًا: كيف سُميت هذه اللام لام العهد الذهني مع أن مدخولها فرد غير معين، فلا عهد فيه لازمًا ولا خارجًا؟

وأجيبك: بأنه معهود في الذهن باعتباره أحد أفراد الحقيقة المعهودة في الذهن، بمعنى أنها معلومة متميزة عما عداها من الحقائق، فعهديته تبع لعهدية الماهية، وصح ب هذا الاعتبار اعتبار الفرد المبهم معهودًا ذهنيًّا، وصح تسمية هذه اللام الداخلة عليه بلام العهد الذهني.

لام الاستغراق:

وهي التي يكون مدخولها مرادًا به جميع الأفراد المندرجة تحت الحقائق عند قيام القرينة الدالة على ذلك؛ أي: على أن ليس القصد إلى الحقيقة نفسها ولا من حيث وجودها ف ي فرد مبهم لتخرج لام الجنس ولام العهد الذهني، وسميت لام الاستغراق لاستيعابها وشمولها جميع أفراد الحقيقة، وتكون لام الاستغراق هذه للاستغراق الحقيقي والعرفي.

فالاستغراق الحقيقي هي ما يكون م د خو ل ها مرادًا به كل فرد مما يتناوله اللفظ بحسب الوضع كما تقول: الغيب يعلمه الله، فإن القصد فيه إلى جميع الأفراد التي يتناولها لفظ الغيب وضعت؛ أي: كل أفراد الغيب لا تخفى على الله، وكما في قوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [العصر: 2، 3] فإن القصد فيه إلى جميع الأفراد التي يتناولها لفظ الإنسان بحسب الوضع؛ أي: كل فرد من أفراد الإنسان، ومنه في غير المسند إليه قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [السجدة: 6] أي: محيط علمًا بكل مغيب وكل مشاهد.

وهذا الاستغراق والشمول لا بد عند إرادته من نصب قرينة تدل عليه، وهذه ال قرينة ال دالة على الاستغراق إما أن تكون حالية وإما أن تكون مقالية؛ فالحالية كما في قولنا: الغيب يعلمه الله، فالقرينة هنا على إرادة الاستغراق حالية؛ لظهور أن ليس المراد حقيقة معنى الغيب وماهيته؛ إذ ليس ذلك مما استأثر الله بعلمه، ولا أن يكون المراد فردًا مبهمًا أو معينًا من أفراد الغيب، فحاشا لله العليم بخفايا الأمور أن يقتصر علمه على بعض الغيوب؛ فتعين إذن أن يكون المراد جميع الأفراد بقرينة الحال، والقرينة المقالية كما في قوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} فالقرينة هنا على أن المراد هنا عموم الأفراد، لا الحقيقة نفسها ولا فرد مبهم أو معهود في أفرادها القرينة، بدليل صحة الاستثناء في قوله سبحانه بعد: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فهذا أمارة العموم؛ لأن شرط الاستثناء دخول المستثنى في المستثنى منه لو سكت عن ذكر المستثنى، ودخوله فيه فرع عمومه الدال على الاستغراق والشمول، وهذا الدخول شرط صحة الاستثناء، فتعين أن يكون المراد جميع الأفراد بقرينة صحة الاستثناء المذكور.

أما لام الاستغراق العرفي فهي تلك التي يكون مدخولها مرادًا به كل فرد مما يتناوله اللفظ بحسب متفاهم العرف والعادة؛ كما في قولك مثلًا: امتثل الطلاب أمر الأستاذ، ف ـ"أل " في الطلاب يراد بها الاستغراق العرفي؛ لأن مدخولها أريد به

جميع الأفراد التي يتناولها اللفظ بحسب العرف وما جرت به العادة لا جميع الأفراد حقيقة ً.

هذا؛ وبالتأمل فيما سبق ندرك أمرين مهمين:

أولهما: أن حمل "أل " التي للعهد الذهني على الفرد المبهم والتي للاستغراق على جميع الأفراد مشروط بالقرينة الدالة على ما حملتَا عليه، أما بدون القرينة فكلتا اللامين محمولة على الحقيقة؛ لأن مدخولها موضوع للحقيقة؛ فإذن فالنظر إلى الفرد المبهم في لام العهد الذهني وإلى جميع الأفراد في لام الاستغراق إنما هو بالقرينة لا بالوضع.

ثانيهما: المعرف بلام العهد الذهني موضوع للحقيقة، وإنما يُحمل على الفرد المبهم عند قيام القرينة الدالة عليه، فهو إذن ذو شبهين من جهتين: يشبه النكرة من جهة المعنى ويشبه المعرفة من جهة اللفظ؛ أما شبهه بالنكرة فلأن مفاد كل منهما بعض غير معين، إلا أنه يدل على هذا البعض بالقرينة، والنكرة تدل عليه بالوضع؛ ولهذا يعامل معاملة النكرة من جهة المعنى فيوصف بالجملة على نحو ما توصف النكرة كما في قول الشاعر:

ولقد أمر على اللئيم يسبني ... فمضيت ثمة قلت لا يعنيني

وأما شبهه بالمعرفة فلجريان أحكام المعارف عليه غالبًا فهو يقع مبتدأً، كما في قولك: الذئب في حديقتي، ويكون ذا حال كما في قولك: رأيت الذئب خارجًا من حديقتك يطارده كلب، ويأتي موصوفًا بالمعرفة كقولك: السوق ذات السلع الجيدة يقصدها الناس. إلى غير ذلك من أحكام.

*** 

 

 

 

تعليقات



أحوال المسند إليه وبلاغتها - مدونة البلاغة العربية أرسل بريدًا إلكترونيًا