البلاغة القرآنية في آية الكرسي
قال الله تعالى: {اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255].
ذكر بعض العلماء أن آية الكرسي أفضل آية في القرآن، ومعنى الفضل أن الثواب على قراءتها أكثر منه على غيرها من الآيات، وإنما كانت أفضل؛ لأنها جمعت من أحكام الألوهية وصفات الإله الثبوتية والسلبية ما لم تجمعه آية أخرى. جاء في الحديث الشريف عن أبى هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: لكل شيء سنام وإن سنام القرآن البقرة، وفيها آية هي سيدة القرآن- أي أفضله- وهي آية الكرسي. ففضلت هذه الآية اشتمالها على توحيد الله وتعظيمه وتمجيده وصفاته العظمى ولا مذكور أعظم من رب العز، فما كان ذكرا له كان أفضل من سائر الأذكار.
وقد اشتملت هذه الآية الكريمة على عشر جُمَلٍ فيها ما فيها من صفات الله الجليلة- ونعوته السامية.
أما الجملة الأولى والثانية فتتمثل في قوله- تعالى-: (اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ).
ولفظ الجلالة (اللَّهُ) يقول العلماء: إن أصله (إله) دخلت عليه أداة التعريف «أل» وحذفت الهمزة فصارت الكلمة الله. قال القرطبي: قوله: (اللَّهُ) هذا الاسم أكبر أسمائه- تعالى- وأجمعها، حتى قال بعضهم إنه اسم الله الأعظم ولم يتسمَّ به غيره، ولذلك لم يثن ولم يجمع، فالله اسم الموجود الحق الجامع لصفات الألوهية، المنعوت بنعوت الربوبية المنفرد بالوجود الحقيقي، لا إله إلا هو- سبحانه-». وجيء باسم الذات (الله) هنا؛ لأنه طريق في الدلالة على المسمى المنفرد بهذا الاسم.
ولفظ (إِلهَ) قالوا إنه من أله فلان يأله أي عبد. فالإله على هذا المعنى هو المعبود، وقيل هو من أله، أي: تحير.. وذلك أن العبد إذا تفكَّر في صفاته- سبحانه- تحيَّر فيها ولذا قيل: «تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله».
وجملة «لا إله إلا هو» خبر أول عن اسم الجلالة، والمقصود من هذه الجملة إثبات الوحدانية ونفي الآلهة.
والْحَيُّ، أي: الباقي الذي له الحياة الدائمة التي لا فناء لها. لم تحدث له الحياة بعد موت، ولا يعتريه الموت بعد الحياة، وسائر الأحياء سواه يعتريهم الموت والفناء. والمقصود: إثبات الحياة وإبطال استحقاق آلهة المشركين وصف الإلهية؛ لانتفاء الحياة عنهم.
والْقَيُّومُ، أي: الدائم القيام بتدبير أمر الخلق وحفظهم، والمعطي لهم ما به قوامهم. وهو مبالغة في القيام. وأصله قيووم- بوزن فيعول- من قام بالأمر إذا حفظه ودبره. والمعنى: الله- عز وجل- هو الإله الحق المتفرد بالألوهية التي لا يُشَاركه فيها سواه، وهو المعبود بحق وكل معبود سواه فهو باطل، وهو ذو الحياة الكاملة، وهو الدائم القيام بتدبير شئون الخلق وحياتهم ورعايتهم وإحيائهم وإماتتهم.
والجملة الثالثة قوله- تعالى-: (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) وهي جملة سلبية مؤكدة للوصف الإيجابي السابق، فإن قيامه على كل نفس بما كسبت، وعلى تدبير شئون خلقه يقتضي ألا تعرض له غفلة، ولأن السِّنة والنوم من صفات الحوادث وهو- سبحانه- مخالف لها. فجملة (لا تأخذه سنة ولا نوم) مُقَرِّرة لمضمون جملة (الله الحي القيوم) ولرفع احتمال المبالغة فيها، فالجملة منزلة منزلة البيان لمعنى (الحي القيوم) ولذلك فُصِلَت عن التي قبلها.
والسِّنة: الفتور الذي يكون في أول النوم مع بقاء الشعور والإدراك. ويقال له غفوة. يقال: وسن الرجل يوسن وسنا وسنة فهو وسن ووسنان إذا نعس والمراد أنه- سبحانه- لا يغفل عن تدبير أمر خلقه أبدا، ولا يحجب علمه شيء حجبًا قصيرًا أو طويلا، ولا يدركه ما يدرك الأجسام من الفتور أو النعاس، أو النوم.
وتقديم السِّنة على النوم يُفِيد المبالغة من حيث إن نفي السِّنة يدلُّ على نفي النوم بالأولى، فنفيه ثانيا صريحا يفيد المبالغة؛ لأن عطف الخاص على العام يفيد المبالغة؛ ولأن عطف الخاص على العام يفيد التوكيد أي: لا تأخذه سِنَة فضلا عن أن يأخذه نوم.
وفي قوله: (لا تَأْخُذُهُ) دلالة على أن للنوم قوة قاهرة تأخذ الحيوان أخذًا وتقهر الكثير من أجناس المخلوقات قهرًا، ولكنه- سبحانه- وهو القاهر فوق عباده- مُنزَّه عن ذلك، ومُبرَّأ من أن يعتريه ما يعتري الحوادث.
وقوله- سبحانه- في الجملة الرابعة: (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) تقرير لانفراده بالألوهية؛ إذ جميع الموجودات مخلوقاته، وتعليل لاتِّصافه بالقيومية؛ لأن مَنْ كانت جميع الموجودات ملكا له فهو حقيق بأن يكون قائمًا بتدبير أمرها.
والمراد بما فيهما ما هو أعم من أجزائهما الداخلة فيهما ومن الأمور الخارجة عنهما المتمكنة فيهما من العقلاء وغيرهم. فالجملة الكريمة تفيد الملكية المطلقة لرب العالمين لكل ما في هذا الوجود من شمس وقمر وحيوان ونبات وجماد وغير ذلك من المخلوقات. وصُدِّرت الجملة بالجار والمجرور «له» لإفادة القصر، أي: ملك السماوات والأرض له وحده ليس لأحد سواه شيء معه. فهذه الجملة أفادت تعليم التوحيد بعمومها، وأفادت إبطال عقائد أهل الشرك بخصوصية القصر، وهذا بلاغة معجزة.
والاستفهام في قوله في الجملة الخامسة: (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ؟) للنفي والإنكار، أي: لا أحد يستطيع أن يشفع عنده- سبحانه- إلا بإذنه ورضاه، قال- تعالى- {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى} [النجم: 26]. فجملة (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) مقررة لمضمون جملة (له ما في السماوات وما في الأرض) لما أفاده لام الملك من شمول ملكه تعالى لجميع ما في السماوات وما في الأرض، وما تضمنه تقديم المجرور من قصر ذلك الملك عليه تعالى قصر قلب.
والمقصود من هذه الجملة- كما يقول الآلوسي- بيان كبرياء شأنه- تعالى- وأنه لا أحد يساويه أو يُدَانِيه بحيث يستقلُّ أن يدفع ما يريده دفعًا على وجه الشفاعة والاستكانة والخضوع فضلا عن أن يستقل بدفعه عِنَادًا أو مناصبة وعداوة. وفي ذلك تَيْئِيس للكفار حيث زعموا أن آلهتهم شفعاء لهم عند الله.
وقوله- سبحانه- في الجملة السادسة: (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) تأكيد لكمال سلطانه في هذا الوجود، وبيان لشمول عِلْمه على كل شيء.
والضمير في (أيديهم) و (خلفهم) يعود إلى (ما) في قوله قبل ذلك: (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) وعبَّر بضمير الذكور العقلاء، تغليبًا لجانبهم على جانب غير العقلاء.
والعلم بما بين أيديهم وما خلفهم كناية عن إحاطة علمه- سبحانه- بماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم، وما يعرفونه من شئونهم الدنيوية وما لا يعرفونه.
وقوله- تعالى- في الجملة السابغة: (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ) معطوف على قوله: (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) لأنه مُكَمِّلٌ لمعناه، والمراد بالعلم: المعلوم. والإحاطة بالشيء معناها: العلم الكامل به، أي: لا يعلمون شيئا من معلوماته- سبحانه- إلا بالقدر الذي أراد أن يعلمهم إياه على ألسنة رسله. فهو كقوله- تعالى-: {عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 27].
فالجملة الكريمة بيان لكمال علم الله- تعالى-، ولنقصان علم سواه؛ إذ أن البشر لم يعطوا من العلم إلا القليل، وهذا القليل ناقص؛ لأنه ليس على إحاطة واستغراق لكل ما تشتمل عليه جزئيات الشيء ووجوده وجنسه وكيفيته وغرضه المقصود به وبإيجاده؛ إذ العلم الكامل بالشيء لا يكون إلا لله رب العالمين.
ثم قال- تعالى- في الجملة الثامنة: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ). قال الراغب: الكرسي في تعارف العامة: اسم للشيء الذي يقعد عليه، وهو في الأصل منسوب إلى الكرس، أي: الشيء المجتمع، ومنه الكراسة؛ لأنها تجمع العلم.. وكل مجتمع من الشيء كرس.
وللعلماء اتجاهان مشهوران في تفسير معنى الكرسي في الجملة الكريمة، فالسلف يقولون: إن لله- تعالى- كرسيًّا علينا أن نؤمن بوجوده وإن كُنَّا لا نعرف حقيقته؛ لأن ذلك ليس في مقدور البشر. والخلف يقولون: الكرسي في الآية كناية عن عظم السلطان، ونفوذ القدرة، وسعة العلم، وكمال الإحاطة.
ولصاحب الكشاف تلخيص حسن لأقوال العلماء في ذلك، فقد قال- رحمه الله- وفي قوله: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ) أربعة أوجه:
أحدها: أن كرسيه لم يضق عن السماوات والأرض لبسطته وسعته، وما هو إلا تصوير لعظمته ولا كرسي ثمة ولا قعود ولا قاعد.
والثاني: وسع علمه، وسمى العلم كرسيا تسمية بمكانه الذي هو كرسي العالم.
والثالث: وسع ملكه تسمية بمكانه الذي هو كرسي الملك.
والرابع: ما روى أنه خلق كرسيا هو بين يدي العرش دونه السماوات والأرض وهو إلى العرش كأصغر شيء. وعن الحسن الكرسي هو العرش.
هذا وقد روى المفسرون عن ابن عباس أنه قال «كرسيه علمه» ولعل تفسير الكرسي بالعلم كما قال حبر الأمة هو أقرب الأقوال إلى الصواب؛ لأنه هو المناسب لسياق الآية الكريمة.
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بالصفتين التاسعة والعاشرة فقال- تعالى-: (وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ).
يَؤُدُهُ معناه: يثقله ويشق عليه. يقال: (آدني الأمر) بمعنى أثقلني وتحمَّلت منه المشقة.
والْعَلِيُّ: هو المتعالي عن الأشياء، والأنداد، والأمثال، والأضداد وعن أمارات النقص ودلالات الحدوث. وقيل هو من العلو الذي هو بمعنى القُدْرَة وعلوّ الشأن.
والمعنى: ولا يثقله ولا يتعبه حفظ السماوات والأرض ورعايتهما، وهو المتعالي عن الأشباه والنظائر، والمسيطر على خلقه، العظيم في ذاته وصفاته، ففي هاتين الجملتين بيان لعظيم قدرته، وعظيم رعايته لخلقه، وتنزيهه- سبحانه- عن مشابهة الحوادث.
وبعد، فهذه آية الكرسي التي اشتملت على عشر جمل، كل جملة منها تشتمل على وصف أو أكثر من صفات الله الجليلة، ونعوته المجيدة، وألوهيته الحقه، وقدرته النافذة، وعلمه المحيط بكل شيء، قد أقامت الأدلة الساطعة على وحدانية الله- تعالى- ووجوب إفراده بالعبادة. ولهذه الآية فضل كبير لما اشتملت عليه من أصول معرفة صفات الله تعالى، كما اشتملت سورة الإخلاص على ذلك وكما اشتملت كلمة الشهادة.
***