التشبيهات القرآنية التي تصور وصف الجنة

             التشبيهات القرآنية التي تصور وصف الجنة

التشبيهات القرآنية التي تصور وصف الجنة:إن رضا الله تعالى، وشكره جل جلاله وحمده عز وجل هي المقاصد العُلى التي يرجوها كل مسلم في الدنيا وفي الآخرة، وإن الجنة هي الوجهة التي يبذل المسلم في سبيل الوصول إليها الغالي والنفيس، وهي الجائزة الكبرى التي وعد الله تعالى بها عباده المؤمنين، وعباده الموحدين، الذين شهِدوا بوحدانيته، وآمنوا به جل جلاله وبملائكته الكرام، وبكتبه، وبرسله عليهم الصلاة والسلام، وباليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره، والذين أعدوا العدة لهذا اليوم من اجتناب للسيئات وإقبالٍ على الأعمال الصالحة والحسنات.

الجنة: هي دار الخلود، ونعيمها دائم، لا يَعْتَرِي سُكانَها نَصَبٌ أو هَمٌّ أو حُزْنٌ، ويتمتعون بما أحل الله تعالى لهم بفضله وكرمه، وفيها من النعيم الْمُقِيم ما لا عين رأت ولا أُذُن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

ولقد بيَّن الله تعالى بفضله الكريم في كتابه العظيم صفات هذه الدار، حتى يسعى لها المسلمون، ولقد أرشدنا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين في السنة النبوية العظيمة لصفات هذه الدار حتى نستعين بالرجاء في رحمة الله تعالى، ونُقبِل على الأعمال الصالحة، ونرتوي من ينبابيع الخير، لكي نسكن في هذه الدار العظيمة، وننعم بحمد الله تعالى على فضله وكرمه.

وحديث القرآن الكريم عن الجنة والنار حديث عن عَالَمٍ غيبي نُؤْمِن به قبل أن نراه، وهو حديث واسع مُسْتَفِيض، يعتمد على شتَّى وسائل البيان والتصوير.

قال الله تعالى عنها في سورة الرعد: ﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ [الرعد: 35]. وقال عنها في سورة محمد: ﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ [محمد: 15].

وقد جاء أسلوب التشبيه في وصف الجنة في الحديث عن سَعَة الجنة، ونساء الجنة، ووِلْدَان الجنة.

فشبَّه سَعَةَ الجنة بتشبيهين، شبَّه عرضها بعرض السماوات والأرض في البسطة والسَّعة والامتداد، قال الله تعالى في سورة آل عمران: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران: 133]. وقال الله تعالى في سورة الحديد: ﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ [الحديد: 21].

لما كانت السماوات والأرض أكثر شيء سعةً وبَسطة في هذه الحياة الدُّنيا جُعِلَت سِعَتُهُما مثلا يُقرِّب سَعة الجنة وبسطتها تقريبًا لا تحديدًا، وفي تخصيص تشبيه عرض الجنة دون طولها؛ لأن العرض في العادة يكون أقل من الطول، فذكر العرض للمبالغة.

وسبق التشبيه في الآيتين الدعوة إلى المسارعة إلى المغفرة والجنة، فقبل تشبيه سورة آل عمران (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ)، وقبل تشبيه سورة الحديد (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ). ثم انصرفت الآيتان إلى تشبيه سعة الجنة دون تشبيه سعة مغفرته جل جلاله، إشارة إلى أنه إذا كانت الجنة وهي من خلق الله تعالى وصُنعه عرضها فقط كعرض السماء والأرض وهذا على جهة التمثيل والتقريب فقط لا على جهة التحقيق والتحديد، فكيف يُحاط بوصف سعة مغفرته جل جلاله؟ ولذا اكتفى البيان القرآني في وصف سعة مغفرته جل جلاله بالإخبار في قوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ﴾ [النجم: 32]. من غير تشبيه ولا تمثيل؛ لأنه لا شبيه لها ولا مثيل؛ لتظل النفوس معلَّقة بسعة مغفرة، عاجزة عن تقريب سعتها؛ ليقف العقل عند مُنتهاه.

وبين تشبيه سورة آل عمران وتشبيه سورة الحديد فروق لطيفة، منها:

1) قوله (وسارعوا) في آية آل عمران، و(سابقوا) في آية الحديد، فكلاهما مناسب للسياق الذي ورد فيه، ففي السياق القريب لآية الحديد جاء قوله تعالى: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ﴾ [الحديد: 20]. فهذه الآية تصف المسابقة المذمومة التي يقصر فيها الإنسان نظره على هذه الدنيا الفانية ويترك العمل للدار الباقية، فجاء بعدها قوله: ﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ [الحديد: 21]. لبيان المسابقة الممدوحة التي يرضاها لنا ربنا، إنها المسابقة في الأعمال الصالحة التي تصل بكم إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض.

أما آية آل عمران: فإنه لما ذكر قبلها النهي عن أكل الربا أضاعفًا مُضاعفة، ناسب ذلك الدعوة إلى المسارعة إلى مغفرة من ربكم وجنة؛ لأن الفرار من السيئات يُناسب الإسراع إلى الطاعات، انتقالا من الضد إلى الضد، انتقالا مما يُوجب غضبه جل جلاله والنار إلى ما يُوجب رضاه والجنة.

2) حذف كاف التشبيه من آية آل عمران وذكرها في آية الحديد، وحذف الأداة من سورة آل عمران يتناسب مع ما بُنِي عليه التشبيه فيها من المبالغة، وهذا ظاهر في حذف المضاف، إذ التقدير: عرضها كعرض السماوات والأرض، وظاهر في جمع (السماوات) دون إفرادها، وبهذا يمضي بناء التشبيه كله على نسق واحد. وذكر كاف التشبيه في آية الحديد يتناسب مع ذكر المضاف (كعرض السماء والأرض)، فيسير بناء التشبيه فيها على نمط الذكر، كما أن ذكر الأداة فيها يلائم ذكرها في الآية التي قبلها.

3) جمع (السماوات) في تشبيه آية آل عمران وإفرادها في تشبيه آية الحديد، والجمع في آية آل عمران يتناسب مع ما بُنيت عليه من المبالغة والتعظيم بحذف أداة التشبيه وحذف الْمُضاف، وإفراد السماء في آية الحديد يتناسب مع ذكر الأداة وذكر المضاف.

ومن الملاحظ أن الذكر الحكيم تدرج في تشبيه سعة الجنة من الأعلى إلى الأدنى، فاستهل بآية آل عمران المبنية على المبالغة في وصف سعتها، لأن سورة آل عمران سابقة من حيث نزولها وترتيبها على سورة الحديد، فابتدأ بالدرجة العليا من مراقي الإيمان وهي التقوى وبالوصف الأعلى من وصفي سعة الجنة؛ ليجد المؤمن في الارتقاء إلى درجة التقوى والعمل لنيلها، فإن لم يبلغها فليثبت على ما حصَّل من درجة الإيمان بالله ورسوله، فلا يُحرم من جنة عرضها كعرض السماء والأرض، فهذا مضمار العمل والجد.

وهذه الفروق الثلاثة بين بناء التشبيه في الآيتين تابعة لوضع كل تشبيه منهما في سياقه المناسب والداعي له، بحيث يكون وضع كل منهما في سياقه نمطًا آخر من الإعجاز.

***

وجاء تشبيه نساء الجنة بثلاثة تشبيهات، وهي قوله تعالى في سورة الصافات: ﴿وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ * كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ﴾ [الصافات: 48، 49]. وقوله في سورة الرحمن: ﴿فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ﴾ [الرحمن: 56 - 58]. وقوله في سورة الواقعة: ﴿وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ﴾ [الواقعة: 22، 23].

1)   التشبيه الأول:

وهو التشبيه الوارد في سورة الصافات، قال تعالى: ﴿وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ * كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ﴾ [الصافات: 48، 49]. المشبه في الآية نساء أهل الجنة الْمَكْنِيِّ عنهم بـ(قاصرات الطرف) أي قاصرات نظرهن على أزواجهن فلا ينظُرن إلى غيرهم، ووصفهن بأنهن (عِينٌ) أي نجلاوات العيون واسعتها مع شدة جمالها، وهذا من صفات الحسن في المرأة. ووصفهن بأنهن (عِينٌ) بعد وصفهن بـ(قاصرات الطرف) احتراس من أن يُتوهم أن قصرهن الطرف على أزواجهن لضعف أو فتور في عيونهن، بل هو لفرط حيائهن وعفتهن ووفور أدبهن، وهذا ما يطمح إليه الرجل الصالح في المرأة أن تكون ذات عفة وجمال.

والاحتراس بوصف (عين) لم يأت في آيات سورة الرحمن؛ لأن تشبيه سورة الصافات ركَّز على وصفهن بالحياء مع الجمال، أما تشبيه سورة الرحمن ركَّز على وصفهن بالحياء مع البكارة، فناسب الأول ذكر سعة العيون، وناسب الثاني ذكر بكارتهن وذكر الفُرش التي بطائنها من إستبراق.

وكأن كل تشبيه منهما يصف صورة من هذا النعيم، أو حالا من أحوال أهل الجنة مع الحور العين، ففي الصافات حال المؤانسة والمسرة بالنظر إلى الحور العين دون أن يتعدى ذلك إلى كونهن على الفرش، وهذا حال لا يلائمه ذكر الطمث، بخلاف سورة الرحمن فإن ذكر الفرش التي بطائنها من إستبرق ووصف الحور بأنهن لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان، كله يصف مزيد تهيئهن ليتنعم بهن من خاف مقام ربه.

والمشبه به في آيات سورة الصافات البيض المكنون، هو الذي لم تمسه الأيادي، ووجه الشبه بين النساء والبيض المكنون: الصفاء والنقاء وحسن الرونق.

وفي إيثار تشبيههن بالبيض المكنون مناسبة؛ لأن التشبيه قائم على وصفهن بالعفة والحياء مع الجمال والحُسن، وفي البيض معنى الجمال والحسن، وفي مكنون معنى الستر والصيانة المناسب للحياء والعفة.

2)   التشبيه الثاني:

وهو التشبيه الوارد في سورة الرحمن، ﴿فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ﴾ [الرحمن: 56 - 58]، وسورة الرحمن كلها تعداد لنِعم الرحمن على الإنسان، مفتتحة بنِعْمة العِلم، ومختتمة بما يُوصِّل إليه العلم من الخوف من الله تعالى، وتمت السورة بوصف ما أعده الله تعالى من النعيم لمن خاف مقام ربه.

والمشبه في قوله: (كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ) الضمير العائد على نساء الجنة، والتشبيه يركز على بياض النساء المشوب بحُمْرة، لأن المرجان أحمر، وفي التشبيه بالياقوت دلالة على الصفاء، فصفاؤهن وبياضهن مشوب بحمرة، أما في تشبيه آيات سورة الصافات فركَّز التشبيه على بياضهن المشوب بصُفرة؛ لأن البيض المكنون كذلك، فنساء أهل الجنة لسن على صورة واحدة من الحُسن، بل هن في الحسن ألوان وأفانين، ولكل وارث من ورثة الجنة ما تعشقه نفسه منهن وتصبو إليه.

والتشبيه في سورة الرحمن ينفرد عن التشبيهين الآخرين بأن يشبه حال النساء وهُن على الفُرش التي بطائنها من إستبرق. ولم يذكر هذا السياق أن أهل الجنة متقابلون على سررهم يُقْبِلُ بعضُهم على بعض آخذين بأطراف الحديث بينهم؛ لأن هذا الوصف لا يتلاءم مع كونهن على الفُرش، وإنما ذُكر هذا التقابل على السُّرر والإقبال بالحديث في التشبيهين الآخرين، ففي سورة الصافات: ﴿فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ﴾ [الصافات: 43، 44]، وفي سورة الواقعة: ﴿عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ * مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ﴾ [الواقعة: 15، 16].

وأداتي التشبيه في آيات سورة الصافات والواقعة (كأن)، وفيها قوة وتأكيد للتشبيه.

3)   التشبيه الثالث:

وهو التشبيه الوارد في سورة الواقعة، قال تعالى: ﴿وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ﴾ [الواقعة: 22، 23].

وسورة الواقعة في جُملتها تفصيل للأصناف الثلاثة التي يكون عليها الناس إذا وقعت الواقعة، السابقون، وأصحاب اليمين، وأصحاب الشمال، وجاء هذا التشبيه فيما أعدَّه الله تعالى للسابقين المُقرَّبين في جنات النعيم، ولذا كان في علو تشبيه نسائهم من علو طبقته ما يُلائم علو طبقتهم وسبقهم وقُربهم من الله سبحانه وتعالى، وحسبك باللؤلؤ المكنون صفاء وبهجة للنفس وسرورًا للناظرين، وهذا يلائم صفاء السابقين المقربين ظاهرا وباطنا، قولا وفعلا وحركة وسلوكا.

وفي التشبيهات الثلاثة من الرَّوْحِ والراحة والنفاسة والصون ما لا يخفى، فنساء أهل الجنة (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ)، (كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ)، (كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ)، ولا شك أن في هذه الجواهر النفيسة من الياقوت والمرجان واللؤلؤ مناسبة للنساء؛ لأنهن يعشقن الحُليَّ والجواهر وينشأن في الحلية، فهي من الصفات المحببة إلى نفوسهن.

***

وجاء تشبيه وِلْدان الجنة في الذكر الحكيم في تشبيهين، شُبِّهوا فيهما باللؤلؤ في صفائه ونقائه وحُسنه، فهما متفقان في هذا وينفرد كل منهما ببعض الخواص التي تتلاءم مع سياقه.

قال تعالى في سورة الطور: ﴿وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ﴾ [الطور: 24]. فالمشبه: غلمان الذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان حين يطوفون عليهم في الجنة. والمشبه به: اللؤلؤ المكنون في صفائه ولمعانه وحُسنه وإسعاده للنفس وإمتاعه للعين، ودلالته على ما هم فيه من سعادة وسرور ونعيم لا يزول. ووُصِف اللؤلؤ بالمكنون ليكون أدل على صفائه وحُسنه.

وفي التنكير دلالة على أن الغلمان وهم خدم أهل الجنة أخذن حظًّا وافرا من الصفاء والحُسن صرن به إلى حال غير معهودة، وحُسنهن من جنس حُسن نساء أهل الجنة، وكُلًّا أعطاه الله سبحانه وتعالى حُسنًا يلائمه وصفاء يُناسبه.

وقال تعالى في سورة الإنسان: ﴿وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا﴾ [الإنسان: 19].

وقد جاءت هذه الآية في سياق نعيم الأبرار في الجنة، والمشبه: الولدان المخلدون حين تراهم يطوفون على الأبرار في الجنة، وفي هذا التشبيه قيدان جديدان ليسا في التشبيه الأول، القيد الأول: وصف الولدان بأنهم مُخلَّدون، والقيد الثاني: قوله (إذا رأيتهم).

والتشبيه في آية سورة الطور مُتَّجه إلى وصف الغلمان في ذاتهم باللؤلؤ المكنون، أما التشبيه في سورة الإنسان فمتَّجه إلى وصفهم في عين الرائي وما يجد في نفسه عند رؤيتهم.

وفي التقييد بـ(إذا) في قوله تعالى (إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا) دلالة على تحقق وقوع تلك الرؤية.

والتشبيه في سورة الإنسان يتجه إلى إفادة الانتشار زمانًا ومكانًا، أما الانتشار زمانًا يدل عليه وصفهم بأنهم مخلدون، وأما الانتشار مكانًا فيدل عليه اختيار وصف اللؤلؤ بأنه منثور، أي متفرق غير مجتمع.

والتشبيه في سورة الطور يصور الغلمان وهم مجتمعون، لذلك لم يوصف اللؤلؤ بالانتشار، وإنما وصف بالمكنون. لذلك استوعب القرآن الكريم الحالين، حال اجتماعهم وحال تفرقهم.

***

هذه هي التشبيهات القرآنية التي تصور لنا وصف الجنة، بينت لها سعتها، ووصفت لنا نساءها وولدانها، نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يرزقنا الجنة وما قرَّب إليها من قول أو عمل، وأن يُجيرنا من النار وما قرَّب إليها من قول أو عمل، وصلى الله تعالى وسلم وبارك على الحبيب الشفيع، والسراج المنير، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

***

تعليقات