من المعلوم أن المخبِر بخَبَرٍ عادة وغالبًا ما يَقْصِدُ
بخبره هذا أحد أمرين:
الأول: فائدة الخبر؛ أي: إفادته الحكم الذي يتضمنه
الخبر، كقولك: زيد ناجح لمن لا يعلم بنجاحه، وهذه الفائدة هي المقصد الأول من
مقاصد الإسناد الخبري.
الثاني: لازم الفائدة؛ أي إفادة المخاطب كون المتكلم
عالمًا بالحكم، نحو قولك لمن حفظ القرآن: أنت حفظت القرآن، وإنما سمي لازم
الفائدة؛ لأنه يلزم من إفادة المخاطب الحكم إفادته أن المتكلم عالم به، وهذا هو
المقصد الثاني من مقاصد الإسناد الخبري.
والفرق بين الحالتين أن المخاطب في الحالة الأولى يكون
جاهلًا بمضمون الخبر، ويُرِيد المتكلم أن يعلمه به، وفي الثانية يكون عالمًا
بمضمون الخبر إلا أنه لا يعلم أن المتكلم عالم به، فالسامع في هذه الحالة لم يستفد
عِلْمًا بالخبر نفسه، وإنما استفاد أن المتكلم عالم به.
ويتضح هذا المعنى جليًّا عندما يسأل الأستاذ طلابه
سؤالًا، فينبري أحدهم للإجابة عليه، فكلام الطالب هنا الغرض منه إفادة الأستاذ أن
الطالب عالم بالإجابة على هذا السؤال، وليس الغرض إفادة الأستاذ بمضمون الإجابة؛
لامتناع تحصيل الحاصل، ويسمى هذا لازم الفائدة.
وهذان الغرضان هما الأصل فيما يراد بالخبر، وهناك أغراض
بلاغية أخرى يأتي لها الخبر، ويفهمها المخاطب من سياق الكلام وقرائن الأحوال، وهي
عديدة ومتنوعة؛ لأنها تترجم عن مشاعر المتكلمين وأحوالهم ونبضات قلوبهم، وغير ذلك
من الانفعالات البشرية والآمال والآلام، التي لا تقف عند حد.
ومن هذه الأغراض الثانوية ما يلي:
إظهار التحسر:
كما في قول الله تعالى حكاية عن امرأة عمران: {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} [آل
عمران: 36] فليس غرضها من هذا الخبر إعلام الله بمضمون هذا الخبر، ولا إعلامه
تعالى بلازم الفائدة، وهو أنها تعلم بمضمون الخبر، وهو أنها وضعت أنثى، فالله
تعالى أعلم بأن الوالدة أعلم من غيرها بما وضعت، وعليه: فالغرض من هذا الخبر إظهار
التحسر على خيبة رجائها، وعكس تقديرها، والتحزُّن إلى ربها؛ لأنها كانت ترجو وتُقَدِّر
أن تلد ذكرًا يُحَقِّقُ رغبتها في خدمة بيت المقدس؛ حيث كانت خدمته خاصة بالذكور
دون الإناث؛ ولذلك تحسَّرت على فوات هذا الغرض.
وتستطيع أن تدرك هذا الغرض بسهولة ويُسْرٍ في قول الشاعر
مثلًا:
ذهب الصبا
وتولت الأيام فعلى الصبا وعلى
الزمان سلام
فالشاعر هنا يتحسَّر على أيام صباه وزهرة عمره التي ولَّت
وأدبرت، وأسلمته إلى الشيخوخة، وهي تؤذن بدنو أجله وانقضاء حياته، فنغمة الحزن
واضحة هنا في كلام الشاعر.
إظهار الضعف والخشوع: كقوله تعالى حكاية عن زكريا -عليه السلام: {رَبِّ
إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} [مريم: 4] فليس
قصده -عليه السلام- إفادة الحكم أو لازمه، فالله -سبحانه وتعالى- عالم بهما، وعلمه
محيط بكل صغيرة وكبيرة في الكون بأسره، وإنما الغرض من الخبر هنا إظهار الضعف بين
يدي الله سبحانه وتعالى.
الاسترحام، والاستعطاف: كقوله تعالى في شأن موسى -عليه السلام: {رَبِّ إِنِّي
لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24] فسيدنا موسى -عليه
السلام- لا يقصد إلى أن يرجو الرحمة والعطف من ربه -عز وجل.
الفخر: وذلك كقول
أبي العلاء المعري:
وإني وإن
كنت الأخير زمانه لآت بما لم تستطعه
الأوائل
فليس الغرض إفادة المخاطب الحكم أو لازمه، وإنما الغرض
الفخر والاعتداد بالنفس. وكقول عمرو بن كلثوم:
إذا بلغ
الرضيع لنا فطاما تخر له الجبابر
ساجدينا
هو يفخر بقومه وبما لهم من القوة والبأس، ويُبَاهي بعزِّهم
ومنعتهم، كما يفهم من المقام.
الحث على شيء واستنهاض الهمم له: كقوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} [النساء: 95] وذلك تذكيرًا بما بينهما من التفاوت
العظيم؛ ليتأنف القاعد بلا عذر، ويرتفع بنفسه عن انحطاط منزلته، فينضم إلى صفوف
المجاهدين، ويحظى بشرف الجهاد وعظيم الثواب. وكقولك أنت: لا يستوي العالم والجاهل؛
لأن فيه تحريكًا لحمية الجاهل وحثًّا له على تحصيل العلم ليلحق بركب العلماء،
ويحظى بشرف الانتساب إليهم، والارتقاء إلى منزلتهم، ولا غرو فهم ورثة الأنبياء.
إظهار الفرح والسرور: وذلك كقولك لمن يعلم بنجاحك هذا العام: نجحت في
الامتحان والحمد لله. ومنه كذلك: المدح، كقول النابغة الذبياني يمدح النعمان بن
المنذر:
فإنك شمس
والملوك كواكب إذا طلعت لم يبد منهن
كوكب
الذم: كقول جرير
يهجو الفرزدق:
زعم الفرزدق
أن سيقتل مربعا أبشر بطول سلامة يا
مربع
التوبيخ والتقريع: كما في قول الله تعالى: {قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ
بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} [الأعراف: 123] يقول الزمخشري: "آمنتم به على
الإخبار؛ أي فعلتم هذا الفعل الشنيع توبيخًا لهم وتقريعًا، وإنما أفاد الخبر
التقريع والتوبيخ؛ لأنه حين أخبر به من هو عالم بفائدته تولد منه بحسب القرائن
والأحوال ما ناسب المقام، والمناسب للمقام هنا هو التوبيخ والتقريع".
النصح والإرشاد: كقول زهير:
ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله على قومه يستغن عنه ويذمم
البشارة بالثواب لأهل الخير: كما في قوله تعالى: {وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ
فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 115].
التعجب: كما في
قوله: {قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف: 138] فهذا تعجب منهم. ومن
قولهم: {يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138]
وذلك بعد أن رأوا من الآية العظمى والمعجزة الكبرى، وقد استفيد التعجب من المقام؛
لأن من شاهد مثل تلك الآيات العظام إذا صدر عنه مثل هذا الكلام دل ذلك على قصور
فهمه وعقله وسوء تقديره وفساد تدبيره.
وأسرار الخبر وأغراضه كثيرة ومتنوعة، ومن يستعرض الأساليب الرفيعة في القرآن والسنة وفي الأدب العربي شعرًا ونثرًا؛ فسوف يقف على كثير من هذه الأغراض، وهي لا تجري على قاعدة ثابتة، وإنما تفهم من سياق الكلام، وقرائن الأحوال.
***
وقد يُنَزَّل العالمُ بفائدة الخبر ولازم فائدته منزلةَ
الجاهل؛ لِعَدَم جريه على مُوجِب العلم؛ فيُلْقَى إليه الخَبرُ كما يلقى إلى
الجاهل بأحدهما.
ومن تنزيل العالم بالفائدة منزلة الجاهل بها، قول
الفرزدق لهشام بن عبد الملك حين تجاهل معرفة علي بن الحسين، رضي الله عنهما
"من البسيط":
هذا ابن خير
عباد الله كلهم ... هذا التقي النقي الطاهر العلم
هذا ابن
فاطمة إن كنت جاهله ... بجده أنبياء الله قد ختموا
ومن تنزيل العالم بلازم الفائدة منزلة الجاهل به، قولك لمن يؤذيك وهو يعلم أنك مسلم: "الله ربنا ومحمد نبينا". وقد جعل السكاكي هذا من باب تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر؛ فهو عنده مثل تنزيل غير السائل منزلة السائل ونحوه مما يأتي، وقيل: إن الخطيب لم يجعل ما هنا من ذلك الباب؛ لأن الخبر لا يختلف في التأكيد وتركه في مخاطبة الجاهل بفائدة الخبر ولازمها، ومخاطبة العالم بهما المنزل منزلة الجاهل. أما تنزيل غير السائل منزلة السائل ونحوه فيختلف في ذلك، والخطب في هذا سهل.
***