الحروف المقطعة في أوائل بعض السور القرآنية وجه من وجوه الإعجاز

 

الحروف المقطعة في أوائل السور القرآنية: هي نصف الحروف الهجائية افتتح الله -عز وجل- بها تسعًا وعشرين سورةً من سُوَر القرآن الكريم.

ومثال ذلك قوله تعالى: ﴿الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ [البقرة:2،1]، وقوله تعالى: ﴿آلم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ [آل عمران:1-3]، وقوله تعالى: ﴿يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ [يس:1، 2]، وقوله تعالى: ﴿حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [غافر:1،2]، وقوله تعالى: ﴿حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ [الدخان:1،2]، وقوله تعالى: ﴿ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ [صّ:1] ﴿ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ [قّ:1].

وقد اختلف العلماء في تفسير معنى الحروف المقطعة التي افتتح بها بعض سور القرآن الكريم، فمنهم رد علم ذلك إلى الله ومنهم من فسرها، والذين فسروها اختلفت أقوالهم.

وأقرب هذه الأقوال إلى الصواب: القول بأن كل اسم في الدنيا مقصود منه مسماه المعروف، ووضع للدلالة على مسماه، فلما أقول (ألف)، أو (لام)، أو (ميم)، فمقصود من كل منها مسماه الذي ينطق في الكلمات مثل: الألف في أول كلمة (أكل)، واللام في أول كلمة (لك)، والميم في آخر كلمة (تكلم)،

وطبقا لهذا فالأسماء المذكورة وضعت للدلالة على مسمياتها التي تستعمل في مباني الكلمات؛ للدلالة على ما وضعت له حقيقة، وهي محكمة في ذلك.

والغرض من ورود هذه الحروف المقطعة في القرآن الْمُتَحدَّى به العرب: أن الله أتاهم بها في أوائل بعض السور؛ لبيان أن القرآن الكريم مؤلف من عين مسميات الحروف التي تؤلفون منها كلماتكم، فما الذي أعجزكم في أن تأتوا بمثله؟

وقد اختار هذا القول أعلام من محققي المفسرين كالزمخشري، والبيضاوي، وابن تيمية، والحافظ المزي، وابن كثير، وغيرهم. 

والمناسبة بين المعنى الواضح لهذه الأسماء الذي هو مسمياتها (حروف المعجم) وبين المعاني التي تليها بل بين القرآن عامة، ولما كانت هذه المسميات هي عنصر الكلام وبسائطه التي يتركب منها افتتح الله تسعًا وعشرين سـورة من سور القرآن تمثل عدد الحروف العربية كلها بطائفة من أسماء الحروف تسجيلا لعجزهم وإظهارا لتعنتهم في عـدم إيمانهم، فإنه يقول لهم بلسان هذه الحروف: إن هذا القرآن الذي عجزتم عن الإتيان بما يدانيه فضلًا عما يساويه، لـم يأتكم بلغة غير لغتكم، ولا بما لا تستطيعون النطق به، وإنمـا أتاكم بنظم عربي للحمة والسـدى، لا تتألف كلماتـه إلا من نفـس حروفكم العربية التي تنطقون بها لـيـل نهار، بل التي لا تنطقون إلا بها، فعجزكم عـن الإتيان بمثله وأنتم أساطين البيان وفرسان حلبة الكلام وهو بضاعتكم الرائجة وسوقكم النافقة ولا شيء أعز عندكم وأحب إلى نفوسكم مـن إجادتـه والتبريـز فيه، عجزكـم عـن الإتيان بمثله مـع ذلك ليس إلا لكونه صادرا عن قوة تستطيع وحدها أن تشكل من هذه المادة التي تشكلون منها صـور كلامكم صورة لا تمثل جميع صوركم وصور الثقلين إلى جنب حسنها وروعتها إلا بما يمثله الثرى إلى جنب الثريا، وما تلك القوة إلا قوة الله القاهرة لجميع القوى، وما هذه الصورة إلا الذكر الحكيم.

وتبلغ عدد الحروف المقطعة في أوائل السور بحذف المكرر منها أربعة عشر حرفًا، وهي: (أ-ل-م-ص-ر-ك-هـ- ع- ي- ط- س-ح-ق- ن) يجمعها قولك (نَص حَكِيمٌ قَاطِعٌ له سر) وهي نصف حروف الهجاء عددًا، وهي أكثر الحروف دورانًا في الكلام، ولم يذكر فيها باقي الحروف الهجائية؛ لأنها أقل دورانا في الكلام.

وهذا النصف من الحروف الهجائية فيه نصف أحكام الحروف، فبعضها منشور، أو مهموس، أو مخفي، أو مستعلٍ، ومن كل نوع تجد النصف، مما يدل على أنها موضوعة بحساب دقيق، ومع أن توصيف الحروف، من مستعل، أو مفخم، أو مرقق، أو منشور، أو مهموس، هذا التوصيف جاء متأخرًا عن نزول القرآن، ولكن الذي قاله يعلم ما ينتهي إليه خلقه في هذه الحروف المقطعة وله في ذلك حكمة، وكان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم -َ أميًّا، ولم يجلس إلى معلم، فكيف نطق بأسماء الحروف، وأسماء الحروف لا يعرفها إلا من تعلم؟! فهو إذن قد تلقنها، وإننا نعلم أن القرآن جاء متحديًّا العرب؛ ليكون معجزة لسيد الخلق، ولا يُتَحَدَّى إلا من كان بارعًا في هذه الصنعة.

وكان العرب مشهورين بالبلاغة، والخطابة والشعر، والسجع وبالأمثال؛ فهم أمة كلام، وفصاحة، وبلاغة، فجاء لهم القرآن من جنس نبوغهم، وحين يتحدى الله العرب بأنه أرسل قرآناً لا يستطيعون أن يأتوا بمثله.

ومما يؤكد أن الغرض من هذه الفواتح هو التحدي بالقرآن، أن معظم آيات التحدي بالقرآن وبعشر سور، وبسورة، من سور هذه الفواتح، وأن كل سـورة ابتدأت بفاتحة من هذه الفواتح احتوت على كثير من ألوان الانتصارات للقرآن ولنبي القرآن ﷺ وأثبتت بأكثر مـن وجه من وجوه الإعجاز كون القرآن من عند الله وكون نبيه ﷺ صادقا في دعواه، فأغلب هذه السور يعقب الفاتحة فيها ذكر الكتاب أو القرآن موصوفا بأوصافه السامية، وبأفخم الأوصاف، في قلب كل ذي قلب، الشـاهدة بكونـه مـن عند الله كمـا يتبين ذلـك مـن قـراءة أوائل السـور الفواتح.

وأكثر سور الفواتح لا تغفل ذكر القرآن أكثر من مرة، وأكثرها كذلك فيها من قصص الأولين، وذكر الغيوب الصادقة، الموغلة في القدم منها، والمعاصر لنزول القرآن، والمستقبلي، ما يثبت بأنصع البراهين أن القرآن من عند الله وأن من جاء به ﷺ صادق مصدوق.

وفي بعض سور الفواتح ذكر كثير من التشريعات التي ما كان أحد غير الله ليقدر على الإتيان بمثلها سموا ووفاء بحاجات البشر، وبحسبنا أن نقرأ سورة البقرة لنرى في ثناياها من ذلك الشيء الكثير، ففي انتظام هذه السـور هـذه الألوان المتكاثرة من وجوه التحدي قرينة واضحة على أن المراد بالحروف المذكورة أولها التحدي بهذه السور، بل بالقرآن جميعا.

***

تعليقات