التكرار في القرآن الكريم وجه من وجوه إعجازه



التكرار في اللغة: مصدر للفعل (كرر) إذا ردد وأعاد، يُقال: (كرَّر الشيء تكريرا وتكرارا) أعاده مرة بعد أخرى.

والتكرار في اصطلاح علماء البلاغة: هو دلالة اللفظ على المعنى مُرَّددًا، فيكرر المتكلم اللفظة الواحدة؛ لتأكيد الوصف أو المدح أو الذم أو التهويل أو الوعيد.

والتكرار في اللغة قد يأتي لفائدة وقد يأتي لغير فائدة، فإذا جاء لفائدة كان جزءا من الإطناب، وكان بليغًا محمودًا وإذا جاء لغير فائدة كان جزءا من التطويل، وطان ساقطا مذمومًا.

والتكرار في اللغة منه ما يكون جيدًا يكسب المعنى قوة وجمالا، ويكسو اللفظ رونقًا وبهاء، ومنه ما يكون رديئا يقبح جلال المعنى، ويشوه جلال اللفظ.

والتكرار من الأساليب الشائعة في اللغة العربية، وهو مذهب من مذاهب العرب في كلامها كانت تذهب إليه لأغراض شتى.

والتكرار في القرآن جاء لأهداف سامية ومقاصد بليغة، واشتمل على أسرار ودقائق، ولطائف وعجائب تنحني أمام عظمتها جباه أساطين البيان، وتسجد لها البلاغة في أسمى معانيها، ومن هذه الأهداف والمقاصد: إبراز المعنى الواحد في صور متعددة وأساليب متنوعة وتفنن شيق وألفاظ مختلفة رفيعة غاية في البلاغة.

وللتكرار قيم إعجازية؛ لأن إيراد المضمون الواحد في صور متعددة مع عجز العرب عن الإتيان بصورة واحدة منها أبلغ في التحدي.

وللتكرار أيضًا قيم تربوية؛ إذ هو يلفت الانتباه إلى المسألة المكررة، ويشعر بالاهتمام بها ويرسخها، وقد قيل: ما تكرر تقرر.

وقد جاء التكرار في نظم القُرْآن على عدة صور:

1) تارة يكون المكرر أداة تؤدي وظيفة في الجملة بعد أن تستوفي ركنيها الأساسين، ومن أمثلته قول الله تعالى: ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النحل: 110]، فقد تكررت (إن) في الآية مرتين، وكان من الممكن الاكتفاء بـ: (إن) الأولى، ولكن لما طال الفصل بينها وبين خبرها (لغفور رحيم) كررت (إن) ثانية؛ حتى لا يتنافى طول الفصل مع الغرض المسوقة له (إن)، وهو التوكيد؛ فاقتضت البلاغة تكررها لتلحظ النسبة بين ركني الجملة على ما حقها أن تكون عليه من التوكيد.

2) تكرار حرف الجر في قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: 8]، فقد أعاد المولى تبارك وتعالى (الباء) مع حرف العطف في قوله: ﴿وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [البقرة: 8]، وهذا لا يكون إلا للتوكيد، وليس في القُرْآن غير هذا الموضع. 

والسر في هذا: أن هذا حكاية لكلام المنافقين، وهم أكدوا كلامهم نفيًا للريبة وإبعادًا للتهمة، فكانوا في ذلك كما قيل: يكاد المريب يقول: خُذوني، فنفى الله الإيمان عنهم بأوكد الألفاظ، فقال﴿وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ[البقرة: 8].

3) قد يكون الْمُكَرَّر كلمة مع أختها لداعٍ، بحيث تفيد معنى لا يمكن الحصول عليه بدونها، ومِن أمثلته قول الله تعالى في أول سورة البقرة عن جزاء المؤمنين: ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [البقرة: 5]؛ فقد تكرر اسم الإشارة (أولئك)، والسر في ذلك: إظهار مزيد العناية بشأن المشار إليهم، والتنبيه على أنهم كما ثبت لهم الاختصاص بالهدى ثبت لهم الاختصاص بالفلاح، وأن كل واحدة من الصفتين كافية في تمييزهم عن غيرهم.

4) قد يكون المكرر آية بعينها، كقوله تعالى: ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ [الرحمن: 13]، تكرَّرت هذه الآية إحدى وثلاثين مرة، ثمانية منها ذكرت عقب الآيات التي تحدثت عن عجائب خلق الله من الآية (16) إلى الآية (34)، ثم سبعة منها عقب آيات فيها ذكر النار وشدائدها على عدد أبواب جهنم، وحسن ذكر الآلاء عَقيبها؛ لأن في صرفها ودفعها نعمًا توازي النعم المذكورة، أو لأنها حلت بالأعداء، وذلك يعد أكبر النعماء من الآية (34) إلى الآية (45)، ثم ثمانية في وصف الجنان وأهلها، من الآية (47) إلى الآية (61)، ثم ثمانية أخرى بعدها للجنتين اللتين دونهما من الآية (63) إلى الآية (75)، فمن اعتقد الثمانية الأولى وعمل بموجبها استحق كلتا الثمانيتين في وصف الجنان من الله، ووقاه السبعة التي جاءت في النار.

والسرُّ في ذلك التكرار: أن الله تعالى خاطب في تلك السورة الثقَلين، وعدَّد عليهم نعمه وآلاءه، فكلما ذكر نعمة من نعمه أعقبها بتلك الآية؛ طلبًا لإقرارهم، واقتضًاء لشكرها؛ فالتكرار هنا لتعدد المتعلق.

5) قد يكون المكرر قصة من قصص الأنبياء في مواضع متعددة مع اختلاف في طرق الصياغة وعرض الفكرة، كقصة آدم -عليه السلام- ذكرت في القُرْآن سبع مرات؛ في سورة البقرة، والأعراف، والحِجر، والإسراء، والكهف، وطه، و"ص"، وهذا التكرار في القصص له عدة فوائد:

أ- التسلية والتثبيت لقلب المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، بذكر ما اتفق للأنبياء من الإيذاء والتكذيب، مما حدث له من قومه -صلى الله عليه وسلم-؛ قال تعالى: ﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [هود: 120].

ب- هذا التكرار وجه من وجوه الفصاحة؛ فإبراز القصة الواحدة بطرق كثيرة وأساليب مختلفة لا يخفى ما فيه من الفصاحة، فكان تكرار القصص أسلوبًا من أساليب إظهار فصاحة القُرْآن، وهذا يسمى عند البلغاء (اقتدارًا).

ج- أن الدواعي لا تتوفر على نقل القصص كتوفر الدواعي على نقل الأحكام؛ فلهذا تكرر القصص.

د- هذا التكرار في القصص قد تقع فيه بعض الزيادة مما لم يذكر في المواضع الأخرى؛ فمثلًا قصة آدم -عليه السلام- في سورة البقرة جاء فيها عدة أمور لم تأتِ في المواضع الأخرى: قول الله تعالى للملائكة: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: 30]، فالإشارة إلى آدمَ بكلمة: ﴿خَلِيفَةً﴾ تعجُّب الملائكة من استخلاف آدم في الأرض؛ لفساد ذريتِه في الأرض، وسفكهم للدماء، ولكون الملائكة مسبِّحة ومقدِّسة (منزِّهة) لله؛ قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 30].

وتعليم آدم -عليه السلام- أسماءَ المسميات كلها، وعرض هذه المسميات على الملائكة، والطلب أن ينبئوا عن أسمائها، وردهم العلم إلى الله وتسبيحهم له؛ قال تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ  قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ[البقرة: 31، 32].

أمر آدم بإنباء الملائكة بأسماء المسميات، وقيامه بذلك؛ قال تعالى: ﴿قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ [البقرة: 33].

ه- تعديد النعم، كما جاء في قصص بني إسرائيل في القُرْآن، وخاصة في سورة البقرة.

و- قال الزركشي: الرجل كان يسمع القصة من القُرْآن ثم يعود إلى أهله، ثم يهاجر بعده آخرون يحكون عنه ما نزل بعد صدور الأوَّلين، وكان أكثر من آمن به مهاجريًّا، فلولا تكرر القصة لوقعت قصة موسى إلى قوم، وقصة عيسى إلى آخرين، وكذلك سائر القصص، فأراد الله -سبحانه وتعالى- اشتراك الجميع فيها، فيكون فيه إفادة القوم، وزيادة تأكيد، وتبصرة لآخرين، وهم الحضور.

ز- تكرار القصص وجه من وجوه الإعجاز في القُرْآن؛ حيث عجز العرب عن الإتيان بمثل آية من القُرْآن، وكرر القصص إيضاحًا لعجزهم؛ حيث عجزوا عن الإتيان بمثله بأي نظم جاؤوا وبأي عبارة عبروا، كما أن التكرار هو المناسب لقوله تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [هود: 13]، فلو ذكر قصة آدم مثلًا في موضع واحد واكتفى بها، لقال العربي: ائتونا أنتم بسورة من مثله، فأنزل الله سبحانه: ﴿قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ﴾ [هود: 13] في تعداد السور؛ دفعًا لحجتهم من كل وجه، كما أن هذا التكرار لم يوقع في اللفظ هجنة، ولا أحدث مللًا، بخلاف التكرار في كلام المخلوقين.

ح- تكرار القصص في القُرْآن، سوى قصة يوسف -عليه السلام- جاءت مخالفة للقصص في الكتب المتقدمة الذي جاءت كل قصة من قصصه مجموعة في موضع واحد، كما وقع لقصة يوسف -عليه السلام- في القُرْآن، وإظهارًا لعجز العرب الذين عجزوا عن معارضة القصص المكرر وغيره.

6) قد يكون المكرر بعض الأوامر والنواهي والإرشادات والنصح: مما يقرر ويؤكد حكمًا شرعيًّا، أو يحث على فضيلة، أو ينهى عن رذيلة، أو يرغب في خير، أو ينفر من شر؛ كالأمر بالصلاة والزكاة والصبر، والنهي عن الفواحش والمنكرات.

ومن العرض السابق لصور التكرار في القُرْآن الكريم يتبين أن الأسباب الداعية إليه كالآتي:

تعدد المتعلق، إظهار الفصاحة، إظهار الإعجاز، تحقيق النعمة، وترديد المنة، والتذكير بالنعم، واقتضاء شكرها، إظهار العناية بالأمر المكرر ليكون في السلوك أمثل وللاعتقاد أبين (التصوير والتجسيم)، بسط الموعظة وتثبيت الحجة (الإنذار والتهويل)، التقرير والتوكيد؛ فالأمر إذا تكرر تقرر، دفع توهم غير المعنى المراد.

***

تعليقات