من بلاغة القرآن في هلاك امرأة سيدنا نوح عليه السلام

 

ورد ذكر هلاك امرأة سيدنا نوح عليه السلام عند الطوفان، في آيتين، وهما:

الأولى: قوله تعالى: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ [هود: 40].

والثانية: قوله تعالى: فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ [المؤمنون: 27].

فهاتان الآيتان التي ورد فيهما ذكر امرأة نوح عليه السلام تُعَبِّر عن مَوْقِفٍ واحد، وهو هلاك قوم نوح بالطُّوفان الذي أَغْرَق الله به الكافرين، وكان من ضِمْن الهالكين امرأته وابنه، ولم ينج مِمَّن كان على الأرض في هذا الوقت إلا مَنْ ركبها معه في سفينته، والنص عليها كان في قوله تعالى: إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ [هود: 40] وقوله تعالى: إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ [المؤمنون: 27] فهي ضمن مَنْ سبق عليه القول فلم تؤمن به. أما المقصود بأهله في هاتين الآيتين فهي زوجته التي آمنت به وهي غير زوجته الكافرة، وأولاده.

والمرادُ بالأمر في الآيتين: العذابُ، وهو مجاز مرسل، وعلاقته السَّبَبِيَّة، حيث وضع الأمر موضع العذاب لتَسَبُّبِه عنه، وذلك إظهارًا لقوة السَّبَبِيَّة بين الأمر والعذاب. وهذا المجاز جعلنا نتصور أن هذا الأمر هو العذاب نَفْسُه وليس بين الأمر والعذاب زَمَنٌ، ولذلك وضع الأمر موضع العذاب لقُوَّة السَّبَبِيَّة بينهما، وكذا انتفاء الزمن، مما يدل على قُدْرَة صاحب هذا الأمر.

وقال الله عز وجل: جَاءَ أَمْرُنَا ولم يقل: (عذابُنَا) ليُصَوِّر العظَمَة الإلهيَّة والقُدْرَة التي تُغَيِّر مُجْرَيات الأمور بإرسال الأمر الذي يعقبُه في طرفة عين تحقيقُ المأمور به، وتلك قُدْرَةٌ عظيمة لصاحب الأمر جلَّ في عُلَاه. والتعبير عن النزول بالمجيء تفخيمٌ وتهويلٌ لهذا الأمر. وفي إضافة الأمر إلى ضمير العظَمَة ما يدل على التهويل، فهو فوق ما يعرفون.

وقوله: وَفَارَ التَّنُّورُ التَّنُّور: الْمَوْقِدُ الذي ينضج فيه الخبز، على قول أكثر المفسرين. والفوران: غليان القدر، وأُطْلِقَ هنا على نَبْعِ الماء بِشِدَّةٍ، تشبيهًا له بفوران الماء في القِدْر إذا غَلِي. وفي إسناد الفعل (فار) إلى (التنور) مجاز عقليٌّ بعلاقة المكانية، فالأصل أن يقال: (فار الماء من التنور)، وفي اختيار لفظ (فار) دون غيره تشبيهًا لِشَّدَةِ نَبْعِ الماء بِشِدَّةِ غليان القِدْرِ، ولا شك أن التعبير بالمجاز أبلغ لما فيه من تعبير عن شِدَّة الأمر، ولما فيه من إيجاز وخيال ظريف حين تتصور أن التنور وهو مكان من شِدَّةِ نَبْعِ الماء منه كأنَّهُ نفسه يفُورُ ويَضْطَّرِبُ ويتحرَّك.

والمراد بالأهل في الآيتين: كُلُّ مَنْ آمن به سواء من أهله أو من غيرهم، فالأهلِيُّة هنا يُراد بها أهليَّة الإيمان والاتِّباع.

وقوله: وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ [هود: 40] خبر أريد به الاستدراك ودَفْع ما يُتَوهَّم ثبوته من أن المؤمنين مع سيدنا نوح عليه السلام خلق كثير، وعلى هذا فهو إطناب ونوعه احتراس.

وقوله: فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا [المؤمنون: 27] الأعين: استعارة للمراقبة والملاحظة، وهي تُفِيدُ شمول الحفظ وكمال الرِّعاية، وعبَّر بالجمع للمبالغة، والمراد الكناية بالمعنى المجازي عن لازمه وهو الحفظ من الخلل والخطأ في الصُّنْعِ.

وفي قوله: وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا وَضْعٌ للمُظْهَرِ مَوْضِع الْمُضْمَر، فكان يكفي أن يقول: (ولا تخاطبني فيهم)، وآثر التعبير بالْمُظْهَرِ تسجيلًا عليهم.

وفُصِلَت جملة إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ولم تعطف على ما قبلها للاستئناف البياني؛ لأنها تعليل للنهي عن الْمُخَاطبة، أو لما يُنْبِئ عنه من عدم قبول الشفاعة. وقد أكدت هذه الجملة؛ لانشغال نوح عليه السلام بأمرهم حيث تقدَّم الأمر بصُنع الفلك، والنهي عن المخاطبة في شأن الذين كفروا، فتعلَّق ذِهنه وانشغل بما سينزل بهم من عذاب، وكأنه عليه السلام تساءل هل سيغرقون؟ ولذا كان التأكيد في قوله: إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ تثبيتًا وتقريرًا وإجابة لهذا الانشغال وذاك التساؤل.

وذكر الإمام عبد القاهر هذه الآية شاهدًا على أن دخول (إِنَّ) يفيد المعنى ويُؤثِّر فيه [دلائل الإعجاز (ص: 317)].

***

موازنة بين ما ورد في هاتين الآيتين:

أولا: يتشابه نظم الآيتين في جزءين، الأول في قوله: جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ والثاني في قوله: مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ.

ثانيًا: هناك فروق في النظم بين الآيتين، نذكر منها ما يلي:

1)                        قصة هلاك قوم نوح عليه السلام في سورة هود جاء في سياق يتسم بالتفصيل والإطناب، أما في سورة المؤمنون فقد وردت في سياق يتَّسِمُ بالإجمال والاختصار.

2)                        بدأت آية سورة هود بذكر الإيحاء إلى سيدنا نوح عليه السلام بصنع السفينة، ولم يرد في آية سورة هود هذا الحديث عن الإيحاء إليه بصنع السفينة إلا أنه ورد في الآيات التي قبل ذلك، والسرُّ في ذلك يعود إلى أن القصة في سورة هود جاءت مفصلة مبسوطة أما ورودها في سورة المؤمنون فكانت موجزة مختصرة.

3)                        بدأت آية سورة هود بـ(حتى)، والجزء الذي يقابله في سورة المؤمنون جاء بالفاء العاطفة، والسرُّ في هذا الاختلاف أن البداية بـ(حتى) في آية هود تصوِّر لنا تلك الْمُدَّة الزَّمنِيَّة، أي يصنعه إلى زمن مجيء العذاب، وهي في دلالتها على تلك المدة الزمنية مُدَّة صُنْع الفلك إلى مجيء زمن العذاب تتناسب مع ما في سورة (هود) من تفصيل واسع لقصة الهلاك في ثلاث وعشرين آية. بينما لم نجد هذا الاتساع في آية سورة المؤمنون حيث جاء فيها التعبير بـ(إذا) مباشرة بعد الفاء التي تدلُّ على التعقيب الْمُفيد للسُّرعة، وتدلُّ على ترتيب ما بعدها على ما قبلها من صُنْعِ الفُلْك، وهذه الآيات سِيقَتْ في هذه السورة مَسَاق الإنعام، وسبق فيها مباشرة دعاء سيدنا نوح عليه السلام لرَبِّه بالنُّصْرَةِ، لذلك حسُن مجيء الفعل مُقْتَرِنًا بحرف الفاء الدالة على سُرْعَة تعقيب الإجابة بالدعاء. فـناسب التعبير المتراخي القصَّ المتراخي بسبب عدد الآيات في سورة هود، وناسب التعبير السريع في سورة المؤمنون القصَّ السريع.

4)                        جاء في سورة هود (قلنا) بينما لم ترد في سورة المؤمنون، والسرُّ في ورودها في سورة هود هو أن ما جاء بخصوص هذا الأمر فيها بعد صنعه للسفينة، أما في سورة المؤمنون فكان قبل صنعه للسفينة.

5)                        جاء التعبير في آية سورة هود بالفعل (احمل) بينما جاء التعبير في سورة المؤمنون بالفعل (اسلك)، والسرُّ في هذا الاختلاف أن آية سورة هود حكت ما خاطبه الله به عند حُدوث الطوفان وكان ذلك وقت ضيق، فأمر بأن يحمل في السفينة مَنْ أراد الله إبقاءهم، فأسند الحمل إلى نوح تمثيلا للإسراع بإركاب ما عُيِّن له في السفينة حتى كأن حاله في إدخاله إيَّاهم حال مَنْ يَحْمِلُ شيئًا ليضعه في موضع، أما آية سورة المؤمنون حكت ما خاطبه الله به من قبل حدوث الطوفان إنباء بما يفعله عند حدوث الطوفان، فأمره بأنه حينئذ يدخل في السفينة مَنْ عَيَّن الله إدخالهم، فاختلاف الوقت كان السرُّ في الاختلاف، مع ما في ذلك من التفنن في حكاية القصة.

***

تعليقات