من بلاغة القرآن في ذكر تحذير سيدنا آدم وزوجه من الوقوع في المعصية

 

ورد تحذير سيدنا آدم عليه السلام وزوجه من الوقوع في المعصية في آيات من سور: البقرة والأعراف وطه.

واتحد نظم تحذيرهما من الأكل من الشجرة في سورتي البقرة والأعراف بقوله: (وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ) [البقرة: 35، الأعراف: 19]، أما في سورة طه فقد ورد التحذير من الشيطان نفسه بالتنبيه على عداوته لآدم عليه السلام وزوجه وذلك في قوله تعالى: (فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى) [طه: 117].

فالتحذير في آيتي سورة البقرة وسورة الأعراف أخذ طابع النهي القائم مقام شَرْطٍ محذوف، ولذلك فقد تعلَّق بجواب وهو قوله: (فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ)، وتقدير الكلام: إن تَقْرَبَا هذه الشجرة تكونا من الظالمين. ولا شك أن في وقوعه على هذه الهيئة من النَّصِّ على الجُرْمِ والجزاء فيه مزيد من التحذير والترهيب. وعَدَل عن أن يقول: (فتأثما) إلى التعبير بالظُّلْمِ الذي يُطْلَق على الكبائر، ولم يكتف بأن يقول: (ظالمين)، بل قال: (مِنَ الظَّالِمِينَ) بناء على ما ذكروا أن قولك: (زَيْدٌ مِنَ العْاَلِمِين)، أَبْلَغُ مِنْ: (زَيْدٌ عَالِمٌ)؛ لجعله مُتَخصِّصًا في العِلْمِ أبًا عن جد، وإن قلنا بأن (فَتَكُونَا) دالة على الدوام ازْدَادت الْمُبَالغة.

والقُرْب في هذا التحذير كِنَايةٌ عن الأكل، والذي أُفْصِحَ عنه بعد ذلك في سورة الأعراف بقوله: (فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ) [الأعراف: 22]. وإنما عدل السياق عن الأكل إلى القُرْب لتقدُّم ذِكْر الأكل في آية البقرة في قوله: (وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا) [البقرة: 35]، وفي آية الأعراف في قوله: (فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا) [الأعراف: 19] فإعادتها مرة أخرى تكرار لا داعي له، فضلا عن أن القُرْب فيه معنى زائد، وهو المبالغة في النَّهْي؛ لأنَّ القُرْب يشمل الأكل وسائر الانتفاعات الأخرى، فالتعبير بالقرب أحوط في باب النهي، وهو أيضًا أبلغ في إحاطة المنع؛ لأن القُرْب من الشيء قد يُؤدِّي إلى الْمَيْل إليه والوقوع فيه، ومثله قوله تعالى: (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا) [الإسراء: 32]، فهو إذن تصعيد في باب النهي يُحَقِّقُ الغرض المسوق له الكلام حيث تُرْسِي سورة البقرة دعائم الالتزام بالتشريع، فمجرد القُرْب من المحرَّمات مَنْهِيٌّ عنه، وذلك ضمانًا لسلامة الفرد المسلم وسط مجتمعه.

وأما في سورة الأعراف فجاء التحذير بهذه الصورة لتصوير مدى الضراوة العدائية التي أوقعت آدم عليه السلام وزوجه في المعصية رغم هذا التحذير القويِّ، فقال: (وَلَا تَقْرَبَا) وهو من ملائمات جوِّ تعرية وفضح هذا الشيطان اللعين وكشف وسائله الإضلالية، وكأن هذا التحذير القوي بُرْهان على قُوَّة أثر هذا الشيطان اللعين حين صنع بآدم عليه السلام وزوجه ما صنع.

والشجرة في قوله: (وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ) بدل أو عطف بيان من اسم الإشارة، واسم الإشارة (هذه) الموضوع للقريب يوضح رأفة الله سبحانه وتعالى ورحمته بهما بأن حددها لهم تحديدًا دقيقًا، وذلك من معاني التكريم.

وقد يكون التعبير بالشجرة في هذه القصة رمزًا للمُحَرَّمات، لأنه قد أُبِيح لهما الأكل من كُلِّ ثمار الجنة إلا هذه الشجرة، وهذا المحظور والمحرم لا بُدَّ منه في الحياة على الأرض؛ لأنه بغير المحظور لا تتضحُ قِيمَة الإرادة، ولا يتميَّزُ الإنسانُ المريد من الحيوان الْمَسُوق، ولا يمتحن صبر الإنسان على الوفاء بالعهد والتقيد بالشرط إلا بهذه الإرادة، فالإرادة هي مفرق الطريق، والذين يستمتعون بلا إرادة هم من عالم البهيمة، ولو بَدَوْا في شكل الآدميين.

وأما في سورة طه فوردت حكاية التحذير بشكل مختلف، حيث أخذ النظم شكلا آخر يتفق مع مقام وغرض السورة، لأن الجوَّ العام في السورة يُسَيْطِر عليه الحِلْم والرِّفْق والرحمة، وفي مناسبة الآية لما قبلها ذكر العلماء أنه لَمَّا مَدَح الله سبحانه وتعالى القرآن، حرَّض على استعمال التؤدة والرِّفق في أخذه، وعَهَدَ على العزيمة بأمره وترك النسيان فيه ضرب حديث آدم عليه السلام مثلا للنِّسْيَان وترك العزيمة. وفي ذلك مزيد تحذير للنبي صلى الله عليه وسلم عن العَجَلة وعدم التُّؤدَة لئلا يقع فيما لا ينبغي كما وقع آدم عليه السلام.

وقد بدأت هذه الآيات بتوجيه الخطاب إلى آدم عليه السلام فقال سبحانه وتعالى: (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا) [طه: 115]، والعهد: الوصية، والمعهود محذوف يدلُّ عليه ما بعده، وهو النَّهي عن الأكل من شجرة مُعَيَّنة، واللام واقعة في جواب قسم محذوف، أي وأقسم بالله لقد أمرناه ووصيناه، فنَسِي هذا العهد ولم يهتمَّ به ولم يشتغل بحفظه حتى غَفَلَ عنه، والعتاب جاء من ترك الاهتمام، ومثله عليه السلام يُعَاتب على مثل ذلك. وقرأ اليماني والأعمش «فنُسِّي» بضم النون وتشديد السين، أي نسَّاه الشيطان.

ثم بعد ذلك ذكر قصة سجود الملائكة لآدم عليه السلام واستكبار إبليس، فقال: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى) [طه: 116]، فقوله: (أَبى) جملة مستأنفة وقعت جوابًا عن سؤال نشأ عن الإخبار بعدم سجوده كأنه قيل: فما باله لم يسجد؟ فقل: (أَبى) والإباء الامتناع أو شِدَّته، ومفعوله إما محذوف، أي أبى السجود كما في قوله تعالى: (إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) [الحجر: 31]، أو غير مَنْوِيٍّ رأسًا بتنزيله منزلة اللازم، أي فَعَلَ الإِبَاءَ وأَظْهَرَهُ.

ثم انتقل بعد ذلك مباشرة إلى تحذيره وزوجه من الشيطان فقال: (فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى) [طه: 117]. وأعاد اللام في قوله: (وَلِزَوْجِكَ)؛ لأنه لا يُعْطَفُ على الضمير المجرور بدون إعادة الجار عند الجمهور. وقيل: أُعِيد للدلالة على أن عداوة اللعين للزوجة أصالة لا تبعًا. وهو على القول بعدم لزوم إعادة الجار في مثله كما ذهب إليه ابن مالك وهو ظاهر. وأما على القول باللزوم فقد قيل في توجيهه: إن كون الشيء لازمًا بحسب القاعدة النحوية لا ينافي قصد إفادة ما يقتضيه المقام.

فنجده قد انتقل مباشرة عَقِيبَ ظهور عداوة الشيطان اللعين المقيتة إلى إسداء النُّصح لآدم عليه السلام ولذا فقد عطفت الحكاية هنا بالفاء تصويرًا لرحمة المولى سبحانه والتي أحاطت بنبيه آدم عليه السلام إزاء عداء اللعين وتعاليه، فضلا عن أن هذا النُّصح إنما ترتب على ظهور تلك العداوة.

فتوجيه الخطاب إلى سيدنا آدم عليه السلام يدلنا على رعاية وعناية الله تعالى به، حيث بدأت الآية بنداء سيدنا آدم عليه السلام تنبيهًا له على خطورة ما سيذكر بعد هذا النداء ثم أتى ما بعده مؤكدًا بـ (إِنَّ) لقوة الاهتمام بعداوة الشيطان لآدم وزوجه ولأبنائهم من بعدهم.

ونلحظ توجيه الخطاب إلى آدم عليه السلام دون زوجته، وذلك مراعاة لجو القصة في هذه السورة وما يكتنفه من تجسيد معنى الرعاية والعناية بأنبياء الله تعالى ومنهم آدم عليه السلام فهو المقصود الأهم، ومن هنا فقد انفرد نظم القصة في طه باحتوائه على جملة من أساليب الخطاب الموجهة إليه فقط عليه السلام وبذلك من نحو: (يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ)، (فَتَشْقَى)، (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ)، (وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ)، (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ).

ثم إن في توجيه الخطاب إليه دون زوجه توطئة وتأسيسًا لإسناد أثر اتباع الشيطان (الشقاء) إليه عليه السلام دون زوجته. ثم لتوجيه الخطاب في تعليل التحذير (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى)، وهكذا يُمَهِّدُ النظم بعضه لبعض وسط هذه المراعاة، وهذا من الإعجاز.

ثم أشار إلى الشيطان باسم الإشارة (هذا) الموضوعة للقريب تحقيرًا له، وذلك بغرض التنفير منه، وفيه تعيين له بواسطة الإشارة الحسِيَّة وهو من لوازم معنى التحذير. ثم نعت هذا الشيطان اللعين بالعداوة صراحة، وهذا أليق بمقام التحذير.

ونلحظ أنه تعلَّق التوجيه بآدم وزوجه معًا إمعانًا في التحذير، فقال: (إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ)، وكأن في إعادة حرف الجر مُتَلبِّسًا بالزَّوج، دون أن يقال مثلا: (عدو لكما) مبالغة في تصوير العداوة، فهي ليست عداوة واحدة بل عداوتان، أحدهما لآدم والثانية لزوجه كُلًّا على حِدَةٍ، فليجهتدا في مُخَالفته وليَحْذَراه.

وإنما ابتدأ بآدم عليه السلام لأنه منشأ العَدَاوة لحسده ثم أتبع بذكر زوجته؛ لأن عداوته إيَّاها تبع لعداوته آدم -زوجها- وكانت عداوته متعلقة بكليهما لاتحاد عِلَّة العداوة وهي حسده إياهما على ما وهبهما الله من فَضْلٍ وإنعام، ولأن الشيطان رأى نفسه أجدر بالتفضل على آدم فحنق لما أمر بالسجود له.

ثم نص على سبب النهي عن الاتباع، وهو الخروج من الجنة، إذ تقدير الكلام: فلا تطيعاه فيخرجكما من الجنة بسبب طاعته، إلا أنه اكتفى بالمسبب تنبيهًا من أول الأمر إلى خطورة طاعته، وتجسيدًا لنتيجة هذا الاتباع. فالإخراج مجاز مرسل علاقته السَّببية، والمعنى: فلا يخرجنكما بسبب تلك العداوة، وذلك بطاعتكما له. ويمكن اعتباره مجازًا عقليًّا، إذ فاعل الإخراج حقيقة إنما هو المولى سبحانه وتعالى وإنما أسنده إلى الشيطان اللعين تصويرًا لأثره البالغ في الإضلال بعلاقة السببيَّة، وهذا هو الراجح، فجملة (فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى) من شواهد البلاغيين على أن المجاز العقلي غير مختص بالخبر بل يجري في الإنشاء.

ثم نصَّ على محلِّ نعيمهما وهي الجنة، فقال: (فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ) وفي هذا زيادة تَنْبِيهٍ، وهو ألصق بمعنى التحذير.

وإنما أسند إلى آدم عليه السلام وحده فِعْلَ الشقاء دون حواء بعد إشراكها في الخروج، فقال: (فَتَشْقَى)؛ لأن في ضمن شقاء الرجل وهو قَيِّم أهله وأميرهم شقاءهم، كما أنه في ضمن سعادته سعادتهم، فاختصر الكَلامَ بإسناده إليه دونها مع المحافظة على الفاصلة. أو أريد بالشقاء التعب في طلب القُوت، وذلك مَعْصُوب برأس الرجل وهو راجع إليه، ويؤيد هذا قوله تعالى: (وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ) [القصص: 23]. وعبَّر عن التَّعب بالشَّقاء زيادة في التحذير منه.

ثم يأتي قوله: (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى) تعليلا للشقاء الْمُتَرتِّب على الخروج من الجنة والْمَنْهي عنه، وتوكيدًا في الوقت ذاته لِمَفاد التحذير، كما ذكرت.

***

إرسال تعليق


أحدث أقدم
document.querySelector('.button').addEventListener('click', function() { alert('مرحبًا في طريق التعلم!'); });