من بلاغة القرآن في ذكر توبة سيدنا آدم عليه السلام وزوجه وقبولها

 

أوقع الشيطان سيدنا آدم عليه السلام وزوجه في المعصية، إلا أن الفطرة التي فطرهما الله عليها قد ألحت عليهما بالندم والاستغفار، كما ألحَّت عليهما من قبل وجعلتهما يخصفان على سوءاتهما -حين بدت لهما- من ورق الجنة، ولكن كيف ذلك وآدم عليه السلام لا يدري بعد الطريق الموصل إلى هذا الندم وذلك الاستغفار، هنا يُعَلِّمُه ربُّه ماذا يقول: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ) [البقرة: 37]، وهذه الكلمات هي قوله تعالى: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف: 23]، فكانت النتيجة أن (اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى) [طه: 122].

تلك هي الأحداث التي يدور في فلكها هذا المبحث، وذكرت هذه الأحداث في السور الثلاث: البقرة، والأعراف وطه، فقد أشارت كل منها إشارات متفاوتة إلى جزئيات ذلك الحدث: التلقي، ونصُّ الكلمات، وأثر الدعاء بهذه الكلمات.

فسورة البقرة تحتوي جزءين: التلقي والأثر، بينما تنفرد سورة الأعراف بالنص على الدعاء المناجَى به، وأما في سورة طه فتنفرد بالإشارة إلى أثر هذا الدعاء.

ولهذا التوزيع صلة وثيقة بمقام كل سورة، فلما كان ذكر القصة في سورة البقرة للتذكير بالنِّعَمِ فإن النظم فيها أخذ طابع الإجمال في أغلب ما يعرضه، وإن كان إجمالا في غاية الإيحاء والإعجاز، ومن هنا فقد اكتفى النظم من الأجزاء الثلاثة بجزأي التلقي والقبول، إذ إنهما الثمرة التي يُذَكِّر بها، والنِّعْمَةُ التي يَمْتَنُّ بها على بني آدم، وهذا ما يتلاءم والمقام.

على أن النظم قد أشار إلى الجزء الثالث إشارةً خاطفة في لفظة واحدة هي قوله: (كَلِمَاتٍ) إلا أنه لم يُصَرِّح بها حيث لا يتطلب المقام سوى التذكير بالنِّعْمَة.

ولم يرد ذِكْرٌ لنعمة التلقِّي إلا في سورة البقرة، ولعل ذلك لِمُنَاسَبة حديث التعليم فيها، فكلاهما تلقٍ من المولى ـ، وهذا من الإعجاز في تنسيق الأحداث داخل كل سورة حسب المقام والغرض، ثم إن هذا الإعجاز ليزداد إشراقًا إذا تذكرنا حلقة التعليم التي لم يرد لها ذكر إلا في سورة البقرة كذلك، ويزيد الإشراق إشراقًا إذا رأينا أن كلتا النعمتين قد اختصت بهما السورة المدنية من بين السور التي ذكرت القصة، حيث التقنين والتشريع، وعمادهما لا شك التعليم والتلقِّي.

أما عن موقع نظم الحدث هنا فنلحظ أنه أخذ طابعًا غاير نظائره في السورتين، ذلك لأنه يقع عَقِيبَ الأمر بالهبوط (وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ...) [البقرة: 36، 37]، إلا أن النظرة الواقعية لمسيرة الأحداث توقفنا على أن الأمر بالهبوط كان بعد تلقِّي التوبة بدليل ما ورد في السورتين الآخرتين -كما سنرى- بل وفي سورة البقرة ذاتها، حيث أعقب قبول التوبة الأمر بالهبوط أيضًا، وذلك في قوله: (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة: 38].

والذي أراه أن الأمر بالهبوط السابق لحديث التوبة ما هو إلا امتداد لحديث أثر الوسوسة بدليل عطفه عليه (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا...)، وإنما حكاه القرآن قبل موعده تصويرًا لأثر الشيطان اللعين البالغ حين أزلهما وأخرجهما وكانت نهايتهما الهبوط على هذا الوجه من العداء، وعدم الخلود، ولا شك أن في اجتماع تلك الأمور الثلاثة -كأثر لوسوسة الشيطان- ما يصرف الذِّهْنِ إلى خطورة ارتكاب المحرَّمَات، وهذا أدعى للحذر منه، وهو ما ينشده مقام القصة -على وجه الخصوص- حيث الامتنان بغرس روح التحذير، ومقام سورة البقرة -على وجه العموم- حيث التشريع وما يلزمه من تربية تلك الروح.

ونظم هذا الحدَثِ يفيض باللَّطائف والأسرار الْمُتَعَلِّقة بمقام النِّعَم، فالفاء في قوله: (فَتَلَقَّى) للتعقيب، وهي تفيد إسراع تدارك رحمة المولى -جل وعلا- بآدم عليه السلام فمبجرد عصيانه وشعوره بالإثم أدركته الرحمة، وتلقَّى الكلمات التي كانت سببًا في رضا الله تعالى عنه.

ثم إن في إضافته إلى ربه (مِنْ رَبِّهِ) تكريمًا له كذلك وإشعارا بالحنان والاختصاص -حيث تقدم الْمُتَعلَّق- ولا يخفى أن هذا كله من ملائمات جو التكريم.

وفي تنكير الكلمات التي تلقاها إشارةٌ إلى تعظيمها، حيث يذهب الذِّهْنُ في أثر تلك الكلمات وقوَّتها في الهداية كل مذهب.

ثم يطوي النظم حلقة النطق بتلك الكلمات ويُفَاجِئُنَا بتوبة الله مباشرة فيقول: (فَتَابَ عَلَيْهِ)، وأرى أن العلة في ذلك تصوير رحمة الله تعالى بآدم عليه السلام حتى لكأنها شملته بمجرد تلقي الكلمات التي كانت سببًا في التوبة، ولا سيما وأن تلك الكلمات قد وافقت منه عليه السلام ندمًا وشعورًا بالتقصير، وفي الحديث: «النَّدَمُ تَوْبَةٌ» [رواه ابن ماجه في سننه، تحقيق: شعيب الأرناؤوط (5/322)]، فلا عجب إذن أن تطوى هذه الحلقة ما دمنا في جو التكريم والعطاء، ولهذا أفادت الفاء معنى السببية مع احتفاظها بخاصية التعقيب.

وتوبة العبد: رُجُوع إلى الطاعة، وأما في حقه تعالى -ولله المثل الأعلى- فالمعنى: رجوع إلى الرِّضا وحُسْن الْمُعَاملة والقبول، وعلى هذا المعنى قالوا: تاب فلان لفلان فتاب عليه، فاختلاف مفادي هذا الفعل باختلاف الحرف الذي يتعدَّى به، وقد عدي هنا بـ (على) لتضمنه معنى التفضل والعطف.

وإنما اكتفى السياق بالنص على توبته دون زوجه لأنها تبع له، فضلا على أن الإطار العام للقصة يدور حول تكريم آدم عليه السلام وجعله خليفة في الأرض، فكان الاعتناء بذكر تقلباته هو الغرض المقصود.

ثم يأتي قوله: (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) تذييلا وتعليلا لما سبق، والتعليل – كما هو ثابت – يحتاج إلى البسط والبيان، كما يحتاج في الوقت ذاته إلى النغمة القوية حتى يثبت ويتقرَّر، ومن هنا فقد جاء في قالب الجُمَل حتى يأخذ طابع الثبوت والدوام، وجملته -كما ترى- صُدِّرَت بـ (إِنَّ)، فأفادت قوة هذا الحكم فضلا عن أثرها في التمهيد وتهيئة الأذن لما بعدها، ثم يأتي ضمير الفصل ليؤكد الضمير السابق، وفي النهاية يجيء الخبر معروفًا ليقوِّي هذا الحكم لاسيما وأن المسند في هذه الجملة هو مناط الفائدة، ولهذا جاء على صيغة المبالغة كما ترى.

ومجيء الخبر على تلك الصفة من ملائمات جوِّ التكريم والعطاء، فالله سبحانه لا يُعْجزه غفران ما كثر من الذنوب، كما لا يعجزه في الوقت ذاته غفرانه لجميع خلقه، والصيغة تقوم بهذين المعنيين معًا.

هذا، وصورة هذا التركيب تفيد القصر، أعني قصر التوبة والرحمة عليه -جل وعلا- قصر صفة على موصوف قصرًا حقيقيًّا تحقيقيًّا، وطريقه: تعريف الطريفين، وضمير الفصل مؤكد لهذا القصر، ولا شك أنه أضفى على العبارة لونا توكيديًّا لا ينكر، وبذلك وقع التذييل موقعه من النفس.

ثم إن في الجمع بين صفتي التوبة والرحمة وعد بليغ للتائب بالإحسان مع العفو والغفران، وقد قُدِّمَت صفة التوبة لظهور مناسبتها لما قبلها، ولا سيما وأن صفة الرحمة بعدها تَعْلِيلٌ لتلك التوبة، إذ إن قبوله -جل وعلا- التوبة عن عباده ضَرْبٌ من الرحمة بهم، حيث لا يعود الْمُذْنِبُ إلى ذنبه، فضلا عن أن في الرحمة بعد ذلك معنى الغفران لذلك الذَّنْب، وفي هذا من التكريم ما فيه. وهكذا يقع نظم الحدث في سورة البقرة محاطًا بجو الامتنان والتكريم.

وأما النظم في سورة الأعراف فيقتصر على صيغة الدعاء الذي ناجَيَا به ربهما (قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف: 23]، وهو استئناف بياني نشأ عن حكاية أثر الوسوسة إذ تقدير الكلام: فماذا حدث بعد أن بدت لهما سوءاتهما وعاتبهما ربهما؟ قال: (قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

والأسلوب غاية في الإنابة والخضوع، واللُّجوء إليه -سبحانه جل وعلا- فهما يستهلَّان الْمُنَاجاة بمُنَاداة المولى جلت قدرته بلفظ الرب استعطافًا لرحمته -جل وعلا- فهو الذي أنعم عليهما، وهو الذي يُحِيطُ بهما عناية وحفظًا.

ومن الإعجاز أن يتلاءم لفظ المنادى هنا وحكاية نداء المولى لهما حين اقترفا المعصية (وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ) [الأعراف: 22]، فهذا من وجوه التماسك.

وقولهما: (ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا) مجاز مرسل، حقيقته: أذنبنا وأخطأنا، وعلاقته المسببية، لأن ظلمهما أنفسهما مُسَبَّبٌ عن ذنبيهما وإطاعة الشيطان، وإنما آثراه على الحقيقة اعترافًا منهما بعِظَم ما فعلا مِنْ مخالفة مَنْ تجب طاعته، وطاعة مَنْ تجب مخالفته؛ ولأنهما في مقام التندُّم والتضرُّع وطلب العفو والاعتراف بعِظَمِ الذنب فهو أنسب لطلب العفو من كريم مفضال.

وبهذا الاعتراف يكونان قد مهَّدَا لطلبهما المغفرة والرحمة، ولذا أوقعا طلبهما في أسلوب الشَّرْطِ الدَّال على عِظَم تعلقهما بما يطلبان؛ إذ إن العاقبة ستكون وخيمة إن لم يتحقق لهما مطلبهما (وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

ويؤيد هذا تأكيد جواب الشرط باللام الْمُوَطِّئة للقسم، ثم بوقوع الفعل مُؤَكَّدًا بنون التوكيد الثقيلة، فضلا عما يُفِيده التعبير بقولهما: (مِنَ الْخَاسِرِينَ) من إثبات المعنى وتقريره، إذ معناه: لنكونن من الذين ثبت في الذِّهْن واستقرَّ في الواقع أنهم خاسرون حتى عُرِفُوا بتلك الصفة، وقد أغنى جواب الشرط عن ذِكْرِ جواب القسم.

والمغفرة وإن كانت نوعًا من الرحمة، إلا أنهما عقبَّا بالرَّحْمَةِ حتى تتم عليهما نعمة المولى سبحانه، وهو من ملائمات جَوِّ الاستغفار، وواضح أن سر الوصل بين الجملتين (تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا) إنما هو التوسط بين الكمالين.

وهكذا حملت الآية -وهي أول ابتهال بشري- كل معاني التضرُّع واللجوء وسط هذا النظم البالغ في الدقة والإعجاز.

وتأتي آية سورة طه، وهي قوله: (ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى) [طه: 122]، ويلحظ أنها احتوت الجزء الثالث (قبول التوبة) وهذا ما يتطلبه مقامها، حيث إبراز جوانب الرعاية، والتي من أعظمها اصطفاء النفس وتقريبها من الحضرة الربانية، والاجتباء: هو الاصطفاء والاختيار.

أما عن عطفها بأداة التراخي (ثُمَّ) فهي لرَفْعِ رتبة سيدنا آدم عليه السلام من العِصْيَان والغواية إلى الاجتباء والهداية، وكأني بآدم عليه السلام يُرْفَع من تلك الدرجة الدنيا والتي نزل إليها بمعصيته المبنيَّة على نسيان التحذير إلى درجة أعلى منها، وتلك من ظواهر الرحمة التي يتطلبها مقام السورة، حيث تصور الرعاية.

ومما يؤيد ما ذكرته عطف قبول التوبة على ما قبلها بالفاء التي تدل على التعقيب فهي تُصَوِّر سرعة توبة المولى عليه، وكأنه بعد انتشاله واصطفائه وقعت التوبة مباشرة.

كما أن من ظواهر تلك الرحمة عطف الهداية على قبول التوبة، فهذا ألزم للثبات على التوبة والتشبث بأسباب العصمة، وتلك من معاني الرعاية أيضًا.

***

تعليقات