ورد الحديث عن وسيلة الشيطان في الوسوسة في سورتي
الأعراف وطه، قال في الأعراف: (وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ
الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ) [الأعراف: 20].
وأول ما نلحظه عطف جملة: (وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا) على جملة: (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ)
مع أن مقتضى
الظاهر أنه تكملة جملة القول تفصيلا وبيانًا لوسوسته، فحقها -في الظاهر- الفَصْل
-كما ورد في سورة طه- لأن البيان لا يعطف على الْمُبَيَّن، إلا أنها عُطِفَت هنا
تمشيًا ومقام الضَّراوة في العداء، فالشيطان بعد أن وسوس لهما وسوسة غير قوله: (مَا نَهَاكُمَا) ثَنَّى بجملة القول، ومما يؤيد ذلك أن الشيطان -كما حكت
سورة طه- لم يُعَيِّن لآدم الشجرة المنهي عن اقترابها، وإنما ابتدأ بالوسوسة
إِجْمَالًا، فقال: (يَا آدَمُ
هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى) [طه: 120]، وذلك بغرض الاسْتِنْزَال لطاعته؛ اسْتِزْلالا لقدم آدم عليه السلام ثم
أخذ بعد ذلك في تأويل نهي الله إيَّاهما عن الأكل منها فتأتي آية الأعراف: (مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ
إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ)، فأشار إليها بعد أن صارت معروفة لهما زيادة في
إغرائهما بالمعصية بالأكل من الشجرة. وفي هذا إِشْعَارٌ بأن آدم عليه السلام وزوجه
تردَّدا في الأخذ بوسوسة الشيطان، فأخذ الشيطان يراودهما. وهكذا وُزِّعت حكاية
الوسيلة على السورتين، شأن نظم القصص القرآني في أغلبه، اكتفاء بالمقصود من مغزى
القصة لئلا يصير القصص مقصدا أصليًّا للتنزيل.
ثم تأتي جملة القول وقد أخذت طابعًا قويًّا ترجم عن
مكنون الشيطان اللعين وذلك حيث وقعت في أسلوب القصر، وطريقه النفي والاستثناء (مَا
نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ
أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ)، وهو هنا من باب قصر الموصوف على الصفة، والموصوف هو
النهي المفهوم من الفعل (ﯢ)، والصفة: هي
الخُلْد أو أن تكونا مَلَكين، فالنَّهي السابق إنما هو من أجل ألَّا تكونا مَلَكين
أو تكونا من الخالدين، أو تحققت لكما إِحْدَى الصفتين على الأقل، وكأن هذا اللعين
يُبَرْهِن على صِدْقِ نُصْحِه من خلال هذا الأسلوب البالغ في التَّودد والشفقة
والتبصير بالأمور، وهو من ملائمات رسم نظم القصة لطُرق اللَّعين في التحايل
والإغواء.
وغرض الشيطان اللعين من ذلك هو تشجيع آدم عليه السلام وزوجه
على الإقدام على المعصية وإزالة خوفهما عن طريق إساءة الظن بمراد الله تعالى من
النهي المتقدم، وذلك بأن أوهمهما أنهما متمكنان من أن يصيرا مَلَكين إذا أكلا من
الشجرة، وهذا من تدجيله وتلبيسه إذ ألفى آدم وزوجه غير مستبصرين بحقائق الأشياء،
ولا عالمين المقدار الممكن في انقلاب الأعيان وتطور الموجودات، وكانا يشاهدان
تفضيل الملائكة عند الله تعالى وزلفاهم، فأطمعهما إبليس أن يصيرا من الملائكة إذا
أكلا من الشجرة.
وقوله: (أَوْ
تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ) فعطف على (أَنْ
تَكُونَا مَلَكَيْنِ) وأصل (أو) الدلالة على التردُّد بين أحد الشيئين أو الأشياء، سواء كان مع
تجويز حصول المتعاطفات كلها، فتكون للإباحة بعد الطلب كقولنا: جالس زيدًا أو
عَمْرًا، أو للشَّكِّ، نحو: جاء زيد أو عمرو، أو كان مع منع البعض عند تجويز البعض
فتكون للتخيير نحو: تزوج فاطمة أو أختها. وما معنا يتمشى والاحتمالين فـ (أو) يمكن
أن تكون مانعة خلو فيكون أحد الاحتمالين، كما يمكن أن تجوز المتعاطفين بدليل قوله
في سورة طه: (هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ
الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى) [طه: 120].
هذا ولم يكن سيدنا آدم عليه السلام قد علم حينئذ أن
الخلود متعذر وأن الموت والحشر والبعث مكتوب على الناس، وإنما تلقاه من الوحي في
آخر أحداث القصة، حيث قال تعالى بعد أمر الهبوط: (... وَلَكُمْ
فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ﭫ
قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا
تُخْرَجُونَ) [الأعراف: 24، 25].
ثم يمضي النظم في تصوير قُوَّةِ تحايله بقوله (وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ) [الأعراف: 21]، وهو معطوف على جملة: (مَا
نَهَاكُمَا). ووجه
القُوَّةِ في ذلك استخدام صيغة المفاعلة في الفِعْلِ؛ لأنه اجتهد فيه اجتهاد المقسم،
فمن يُبَارِي أحدًا في فِعْلٍ يَجِدُّ فيه.
ولذا فإن الْمُقَاسَمة وهي وقوع قَسَمٌ من الجانبين
تُخَرَّج على أن الشيطان اللعين حين أقسم بما أقسم به قابل آدم عليه السلام وحواء
هذا القَسَم بقَبُول، فاعتد بقبول كُلِّ منهما كأنَّه قَسَمٌ كذلك على التنفيذ،
وهو من باب أسماه ابن أبي الأصبع الْمُشَاكَلة، وهي غير المشاكلة البديعية عند
جمهور البلاغيين، ومثله قوله تعالى: (وَوَاعَدْنَا
مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ) [الأعراف: 142] حيث نزل التزام موسى بالوفاء والحضور منزلة الوعد منه فعبر عنها في صيغة
المفاعلة.
كما أن من ظواهر القوة تأكيد قَسَمه بـ (إنَّ) في قوله: (إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ)، وفي هذا التأكيد دليل على تحايله البالغ إزاء ما يشعر
به من شَكِّ آدم وزوجه في نُصْحِه لهما، وما رأى عليهما من علامات التردُّد في
صدقه، وإنما شكَّا في نصحه لهما لأنهما وجدا ما يأمرهما به مخالفا لما أمرهما الله
به، وهما يعلمان عِلْمًا حاصلا بالفطرة مدى إرادة المولى سبحانه بهما الخير.
وهكذا تكون حكاية وسيلة الشيطان في الوسوسة في سورة
الأعراف جاءت مطابقة لمقتضى حالها، سواء في معانيها الكلية أو خصائص النظم التي
اكنتفت تلك المعاني.
وأما الحكاية في سورة طه فأخذت شكلا آخر، فهي أولا تلحظ
جانب آدم عليه السلام وذلك تمشيًا وغرضها المشار إليه سابقًا، حيث رعاية الأنبياء،
فكان التركيز عليه.
ومن لوازم تلك الرعاية أن تصادف إغواءً قويًّا يتطلبها
بحيث تكون في مواجهته، وما احتواه نظم حكاية الوسيلة هنا بدأ بقوله: (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَاآدَمُ هَلْ
أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى) [طه: 120]، ففاء العطف في قوله: (فَوَسْوَسَ) تدل على التعقيب التي يصور إسراع قيام الشيطان اللعين
بفعلته الشائنة، كما أن تعدية الفعل هنا بـ (إلى) تلحظ انتهاء الوسوسة إلى آدم
وبلوغها إيَّاهُ، ومثله قوله: حدَّث إليه وأسرَّ إليه، فالفعل مُضَمَّن معنى
الانتهاء. والمقصود الأهم بالنسبة للشيطان هو آدم عليه السلام وهذا ما يهدف إليه.
ولذا يتبيَّن وجه التفرقة بين قوله تعالى: (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ) في سورة الأعراف، وقوله: (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ) في سورة طه، فالأول باعتبار أن الوسوسة كانت لأجلهما،
وهو معنى تُؤَسِّس له القصة في سورة الأعراف، حيث ضراوة العداء للْجِنْس البشري،
وأمَّا في سورة طه فنلاحظ أنه يعتمد سيدنا آدم عليه السلام كمُبَلغ إليه، فأفرده
بالخطاب دون إشراك حوَّاء معه لأنه محطُّ الإغراء والأصل فيه، وحوَّاء تابعة له
لما له عليها من قوامة، فضلا عن أن التعدية بـ (إلى) تُشْعِرُ بقدوم مقول هو قوله:
(قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى
شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى) بخلاف ما ورد في سورة الأعراف: حيث تشعر اللام فيها
بالعِليَّة (لِيُبْدِيَ
لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا)، ولذا فُصِلَت جملة القول عن سابقتها؛ لأنها بمنزلة عطف
البيان. وفي ندائه عليه السلام دعوة للتوجه إليه، وهي من لوازم الإغواء.
والاستفهام في قوله: (هَلْ
أَدُلُّكَ) المراد به
العَرْض، أي الطَّلَبُ برفق، وذلك بعلاقة اللزوم، إذ يلزم الشيطان اللعين حتى يغوي
آدم عليه السلام ألا يسأله وإنما يعرض عليه في أسلوب ترفُّقٍ جَذْبًا وإيقاعًا له
في المعصية، وهذا من دلائل التحايل في الإغواء. وقد رجح الأستاذ الدكتور: عبد
العظيم المطعني أن الغرض من الاستفهام هنا هو الإغراء والتزيين، لا مجرد العرض فقط
[الاستفهام
البلاغي للقرآن الكريم (2/330)].
والشجرة في آية سورة طه الذي عبر عنها بقوله: (شَجَرَةِ الْخُلْدِ)، فهي الشجرة الْمُشَار إليها في سورتي البقرة والأعراف
بقوله: (وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ)، والدلالة: هي الإرشاد إلى شيء مطلوب غير ظاهر لطالبه،
والدلالة على الشجرة لقَصْد الأكل من ثَمَرِهَا، وسمَّاها الشيطان اللعين هنا (شَجَرَةِ الْخُلْدِ) تشويقًا إلى تعيينها حتى يُقْبِلُ عليها آدم عليه
السلام وتلك من أدوات التحايل في الإغواء، فإضافة (شجرة) إلى (الخُلْدِ) من إضافة
السَّبب إلى الْمُسَبِّب على إرادة الْمُبَالغة في الإغراء والخداع.
والْمُلْك: التَّحَرُّر من حُكْمِ الغير، وهذا يُوهِم
سيدنا آدم عليه السلام أنه سيصير المالك للجنَّةِ والْمُتَصرِّف فيها غير مأمور
لآمر. وأتى لفظ (وَمُلْكٍ) في الآية مُنَكًّرًا للدَّلالة على تفخيمه وتعظيمه
بدلالة المقام الوارد فيه.
وقوله: (يَبْلَى) بمعنى: يَفْنَى، أو يصير باليًا خَلَقًا، والبِلَى مجاز
في الانتهاء، تشبيهًا للمُلْكِ بالثَّوْبِ؛ لأنه إذا بَلِي فقد انتهى لبسه، ففيه استعارة
مكنية.
وهذه الاستعارة من أدوات التحايل أيضا، ففي النص على
الديمومة مزيد ترغيب وتأكيد لمقولة الشيطان اللعين، وهذا ما يتطلبه جو القصة.
***