من بلاغة القرآن في توجيه الأمر إلى سيدنا آدم وزوجه بالهبوط إلى الأرض

 

ورد الأمر لسيدنا آدم وزوجه بالهبوط في قوله تعالى: (وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) [البقرة: 36]. وقوله تعالى: (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا) [البقرة: 38]. وقوله: (قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) [الأعراف: 24]. وقوله: (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا) [طه: 123].

ويجدر بنا قبل تفصيل القول في ذلك أن أشير إلى أن الأمر بالهبوط قد ورد في سورة البقرة مرَّتين، وقد بينت السر في ذلك، حيث الكشف -بصورة تفصيلية- عن أثر اتباع الشيطان اللعين، وهو ما يتطلَّبه جو سرد النِّعَم في سورة البقرة والتي من أهمهما غرس روح التحذير.

ولا تكرار للأمر بالهبوط في سورة البقرة، وذلك لاختلاف المتعلق في كل منهما، فالأول يقع في حيِّز الحديث عن أثر اتباع الشيطان اللعين وأنه غاية في التردِّي وهبوط المنزلة، وذلك ألصق به بيان العداوة التي هي من شواهد هذا التردِّي وذلك الهبوط.

وأما الثاني: فلتحديد المنهج العام لخلافة الإنسان في الأرض، فالفعل الأول إذن تكويني، وأما الثاني فتكليفي -كما يقول المفسرون- وبهذا فهما مختلفان، وإن كانا معًا مما يُكَوِّنان الإطار العام لتلك الخلافة، كما أن في اجتماعهما في أول سورة مُصْحَفِيَّة تلك الروح المشار إليها، وأعني بها التحذير لاسيما والسورة تحفل بالتشريع.

ومثل هذا التركيب يطلق عليه البلاغيون مصطلح الترديد، ويعنون به: أن يأتي في الكلام لفظ متعلق بمعنى ثم يرد بعينه متعلقا بآخر.

أما عن نظم هذا الجزء من الحدث فهو استئناف بياني في حكايته الثانية له في سورة البقرة، وحكايته في سورة الأعراف وسورة طه، وذلك حيث أشار إلى قبول التوبة أو النطق بها فقط كما في سورة الأعراف تساؤلا حول مصير سيدنا آدم عليه السلام وزوجه عَقِيبَ حدث التوبة هل سيبقيان في الجنة أم سيخرجان منها إلى غيرها؟!

وبهذا الصَّدد أُذَكِّرُ أن حكايته في سورة الأعراف قد وقعت عَقِيبَ النطق بالكلمات التي تلقاها آدم عليه السلام وزوجه دون ذِكْرِ أثر النطق بها -حيث تاب الله عليهما- وذلك مُرَاعاةً للمقصود الأهم من القصة في هذه السورة، ألا وهو التَّذْكِير بعداوة الشيطان وتحذير الناس من اتِّباع وسْوَسته وإظهار ما يعقبه اتِّبَاعُه من الخُسْرَان والفساد، فهو ألزم للمقام.

وأما عن المفارقات النظمية في عبارات هذا الجزء فأذكر أوَّلًا أن في مجيء فِعْل القول مُسْنَدًا إلى ضمير العظمة في سورة البقرة تمشِّيًا وجوَّ سَرْدِ النِّعَم فيها، بخلاف سورة الأعراف وسورة طه، حيث يأخذ النظم فيها الطابع العادي إزاء هذا الفِعْل، حيث يتعلق النظم بغيره من المعاني، وهنا يأتي فعل الهبوط وتوجيه الخطاب في صورتيه (الجمع والتثنية).

أما عن وقوعه مُسْنَدًا إلى ضمير الجمع في سورة البقرة وسورة الأعراف فأقرب ما يقال بشأنه أن الخطاب لآدم وحواء وإبليس، وبالنسبة للأخير فإن الأمر يكون تنجيزيًّا، فهو قد أمر به قبل. وأما عن إسناده إلى ضمير التثنية في سورة طه؛ فلأن المراد به سيدنا آدم عليه السلام والشيطان، ثم ينسحب المعنى على الْمُتَّبِعين (زوج آدم – ذرية الشيطان) شأن النظم في هذه السورة.

وقد صاحب الهبوط إلى الأرض حالتان، الأولى: العداوة الدائمة بين الفريقين الْمُعَبَّر عنها بقوله تعالى: (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) [البقرة: 36، الأعراف: 24، طه: 123]، والثانية: الاستقرار في الأرض حتى يأذن الله بانتهاء أجل الدنيا الْمُعَبَّر عنها بقوله تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) [البقرة: 36، الأعراف: 24].

فنلحظ أن الحالة الأولى ورد ذكرها في السور الثلاث التي ذكرت هذه الحادثة من القصة، وذلك لأن مفادها معنى أصيل هو خلاصة التجربة الإنسانية الأولى، فلا بد من النصِّ عليها في جميع السور الْمُشْتَمِلة على هذه الحادثة، وذلك بغرض تذكير بني آدم بعَدَاوة الشيطان.

ومعنى قوله تعالى: (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) أي مُتَعَادِيَان، يُعَاديهما إبليس ويُعَادِيَانه، والمراد بالبعض: البعض الْمُخَالف في الجنس، فأحد البعضين هو آدم وزوجه إ، والبعض الآخر هو إبليس، وإذ قد كانت هذه العداوة تكوينِيَّة بين أصلي الجنسين فهي موروثة في نسليهما.

ولما كان هذا معنى أصيلا فقد وقع مُؤَكَّدًا، فمتعلق الخبر (لبعض) يتقدم عليه ثم تأتي اللام في قوله (لبعض) لتُقَوِّي معنى القصد، وهو من مُسْتَلْزَمَات تجسيد هذا العداء.

وإفراد لفظة (العدو) إما مُرَاعاةً للفظة (البعض)، وإما لأن وزانها وزان المصدر كالمقبول.

وأما الحالة الثانية وهي قوله تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) فمما اختصت به سورتي البقرة والأعراف دون سورة طه، ولعل السر في ذلك يرجع إلى ما أسَّسه النظم قبلا في كلا السورتين، فهو في سورة البقرة يهتم بالخلافة بل وينص على أن مقرَّها الأرض، كما أنه في سورة الأعراف يُمَهِّد للقصة بذكر الأرض كذلك في قوله تعالى: (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ) [الأعراف: 10]، وذلك بغرض التوطئة لغرس المبادئ السامية من خلال التذكير بآلاء الله ونعمة والتي منها التمكين في الأرض، وتلك من وجوه التماسك في نظم القرآن.

والْمُسَتَقَرُّ: موضع الاستقرار، وقد جاء مُفَصّلا عَقِيبَ الجملة في سورة الأعراف بقوله: (قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ) [الأعراف: 25].

وأما المتاع فهو: نيل الملذَّات والمرغوبات غير الدائمة، وهو كناية طريفة عن الحياة، فهي كناية عن موصوف، وإنما عبَّر عنها بالمتاع؛ لأن النَّفس ترغَبُهَا ولا تودُّ فراقها، ونلحظ ما تثيره هذه الكناية من التشويق إلى العودة إلى الجنة مرة ثانية، وهو معنى يتطلَّبه مقام سورة البقرة حيث ترسيخ مقومات الخلافة، كما يتطلبه مقام سورة الأعراف حيث غرس روح التمرد على وساوس الشيطان اللعين بغية التنعم بما نعم به أبوانا قبل الهبوط.

هذا وقد عطف قوله: (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) على قوله: (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) للتوسط بين الكمالين.

وفُصِلَت جملة: (قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ) [الأعراف: 25] عن سابقتها، فأقرب ما يقال في ذلك أنه لَمَّا كانت الأولى مُقَيَّدة بقيد هو كونها جوابًا عن سُؤَالٍ مُقَدَّر ولم يرد إعطاء هذا القيد للثانية، حيث إن الأولى هي الجواب وليس للثانية دور فيه، فلذلك فُصِلَت عنها. كما أنه يمكن أن يقال فيه أيضًا بأن الفصل للاهتمام بالخبر، حيث تغيَّر الخطاب، فالأول لآدم وزوجه والشيطان، والثاني لآدم وزوجه فقط.

***

تعليقات