ورد الحديث عن هدف الشيطان من الوسوسة إلى سيدنا آدم
عليه السلام وزوجه في سورة الأعراف فهي السورة الوحيدة التي انفردت بالنص عليه، وذلك
في قوله: (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ
لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا) [الأعراف: 20]، وفي انفرادها بذلك مطابقة لمقتضى الحال فيها حيث تختص من بين سائر السور
التي ذكرت فيها قصة آدم وزوجه والشيطان بالكشف عن نوايا اللعين الخبيثة وطرقه في
الإضلال كتأسيس لتوجيهات تتعلق بمفاد القصة والعبرة منها، ويدل على ذلك تخصيص
القرآن لثلاث من تلك التوجيهات تتجه إلى أمر اللباس والتحذير مما وقع فيه آدم
وزوجه إ، ولا عجب فالعري من أقوى وسائل الإضلال والإغواء، وكيف لا؟ وهو أول ما وقع
من ألوان المعاصي في حياة البشر، ولذا فإننا نجده اليوم قد اتخذوه سِلاحًا نَافِذًا
للإضلال.
ولما كان ما ذكرته هو هدف القصة الأصيل في هذه السورة
فقد وقع نظم هذا الجزء من الحدث حاملا لمعاني الإصرار على العداء بل وصورة هذا
العداء المقيت.
والفاء في قوله: (فَوَسْوَسَ) للتعقيب، وهي تصور إسراع الشيطان الرجيم في القيام
بمهمَّته، وذلك حتى ينتقم لنفسه في أقرب وقت.
والفعل (وَسْوَس) فِعْلٌ لازم، وهو حكايةُ صَوْتٍ كولولة
الثَّكلى، وإذا عُدِّي هذا الفعل بـ (إلى) ضُمِّن معنى الإنهاء، وإذا عُدِّي باللام
بعده نحو (وسوس له) فهي للبيان.
والوَسْوَسة مَصْدَرٌ، وهو: حَدِيثُ النَّفْسِ، فهو
الصَّوْتُ الْخَفِيُّ الْمَكرور، كالهمهمة. قال الرَّاغب: «هي الخَطْرَةُ الرَّدِيئة،
وأصلها من الوَسْوَاس وهو صوت الحُلِي والهمس الخفي» [المفردات (ص: 869)].
واللام في (لَهُمَا) تفيد التعليل، يقال: (وسوس له) أي فعله لأَجْلِه، والشيطان إنما يَهْدِفُ
إلى إغواء آدم وزوجه حسدًا لهما على ما يُقِيمان فيه من النَّعِيم، بحيث يُخْرجهما
منه كما خرج هو بسبب معصيته.
ونلاحظ أنه عدَّى الفعل (وسوس) في سورة الأعراف باللام
فقال: (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ) [الأعراف: 20]، وعدَّاهُ في سورة طه بـ (إلى) فقال: (فَوَسْوَسَ
لَهُمَا الشَّيْطَانُ) [طه: 120] وهذا الاختلاف كان سببه دواعي السياق وأغراض النظم مما
تطلب ذلك، وإليك سياق الآيتين، ففي سورة الأعراف: (وَيَا آدَمُ
اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا
تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَوَسْوَسَ لَهُمَا
الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ
مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا
مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا
لَمِنَ النَّاصِحِينَ) [الأعراف: 19-21]، ففي هذا السِّياق لا نجد تحذيرًا صريحًا من آدم من
إغراء إبليس، مما جعل الشيطان يتسلَّل إلى أذن آدم مُدَّعيًا النُّصح له والحرص
عليه، وهو ما يستدعي اللام الْمُشعِرة باختصاصه بهذا النُّصح، وهو ما تأكدَّ في
قَسَمِه (إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ
النَّاصِحِينَ).
أما آية سورة طه فقد وردت في هذا السياق وهو قوله: (فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ
وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى * إِنَّ لَكَ
أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا
تَضْحَى * فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى
شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى) [طه: 117- 120] فقد جاءت بعد أن حذَّر الله تعالى آدم تحذيرًا صريحًا بعدم الاستماع إلى
إبليس وكشف له عن عداوته له ولزوجته، ولما ينتويه من إخراجهما من الجنة فلم يعد
هناك مبرر لدخول إبليس على آدم في صورة الناصح المخلص، كما لم يعد هناك مبرر
لاستماع آدم له، ومن ثَمَّ فقد جاءت (إلى) مُوحِيَة بأن الشيطان قد احتال بوسائل
خدَّاعة لإيصال وسوسته إلى آدم ونجح في الوصول إلى هدفه، والسياق أيضًا هو السبب
في أن الوسوسة جُعِلت في آية الأعراف لآدم عليه السلام وزوجته، وقصرت الوسوسة على
آدم فقط في سورة طه.
فتعلقت الوسوسة في سورة الأعراف صراحة بالاثنين (آدم
وزوجته) وذلك تمشيًا مع ما تهدف إليه القصة من تصوير العداء للجنس البشري رجلا كان
أو امرأة، بخلاف ما جاء في سورة طه حيث تعلقت الوسوسة به فقط فيها فقال: (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ
أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى) [طه: 120]، وهو أثر من آثار مراعاة جانب آدم عليه السلام.
ويأتي قوله: (لِيُبْدِيَ
لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا) حاملا غرض هذا الشيطان اللعين من وسوسته، فاللام
تعليلية، وهذا ما يؤكد اعتبار اللام في قوله (لهما) للعلة الباعثة.
والإبداء: الظهور، وقد أعقبه النظم بقوله (لهما) ثانية
إمعانًا في إبراز طوية الشيطان وما احتوته من حنق وغيظ ظهر طفحهما جليًّا كما نرى،
وهو من ملائمات جوِّ القصة في سورة الأعراف.
وقوله: (وُورِيَ) أي سُتْرِ عنهما وأُخْفِيَ، و(سَوْآتِهِمَا) جَمْعُ سَوْأَة، وهي كناية عن العَوْرَة، سُمِّيَتْ بذلك؛ لأن كَشْفَهَا
يسُوء صاحبُهَا. وقد وردت هذه الكناية في قوله تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا
أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا
لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا
تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا
يُؤْمِنُونَ) [الأعراف: 27]. فالله سبحانه وتعالى في هذه الآية يُذكِّر عباده
بنِعْمَةٍ من نعمه التي غمرهم بها، ألا وهي النعمة التي تناسب ما وقع فيه آدم من
كشف العورة التي أوقعه فيها إبليس عليه لعنة الله، إنها نعمة اللباس وستر العورة.
***