من بلاغة القرآن في ذكر التفضُّل بالنِّعْمَة على سيدنا آدم وزوجه

 

ورد الحديث عن التفضُّل بالنِّعمة على سيدنا آدم عليه السلام وزوجه، في آيات من ثلاث سور، وهي: البقرة والأعراف وطه:

فقال في سورة البقرة: (وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ) [البقرة: 35]، وقال في سورة الأعراف: (فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأعراف: 19]. وقال في سورة طه: (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى) [طه: 118، 119].

فبعد أن تفضَّل المولى عز وجل على آدم وزوجه بإسكانهما الجنة أدخلهما في تجربة عملِيَّة للمنهج الذي سيتَّبِعاه عند نزولهما إلى الأرض، وهو الالتزام بأوامر الله ـ والابتعاد عما نهى عنه.

ونلاحظ أن الحديث عن التفضُّل جاء في سورة البقرة والأعراف بإنعام الله عز وجل عليهما بالتَّجوُّل في جنبات الجنَّة والأكل من حيث شاءا عدا الشجرة المذكورة ولم يرد ذكر التحذير من الشيطان، وهما متشابهتان إلى حد كبير مع بعض اختلاف في النظم، بينما وقع التفضُّل في سورة طه عَقِيبَ التحذير من الشيطان وغوايته، وهذا ما انفردت به آية سورة طه.

ونلاحظ أن العطف في سورة البقرة ورد بالواو: (وَكُلَا)، وفي سورة الأعراف ورد بالفاء: (فَكُلَا)، والسِّرُّ في هذا الاختلاف: أن الأمر بالسُّكْنَى لَمَّا كان بمعنى الإقامة في البقرة فإنه لم يصح إلا بالواو، لأن المعنى: اجمعا بين الإقامة فيها والأكل من كُلِّ ثمارها، ولو كان العطف بالفاء مكان الواو لوجب تأخير الأكل إلى الفراغ من الإقامة؛ لأن الفاء للتعقيب والترتيب. وأما في سورة الأعراف فالأمر فيها من السُّكْنَى التي معناها اتخاذ الموضع مَسْكَنًا؛ لأن الله تعالى أخرج إبليس من الجنة بقوله: (اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا) [الأعراف: 18]، وخاطب آدم فقال: (وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) [الأعراف: 19]، أي اتَّخِذَاها لأَنْفُسكما مسكنًا وكُلَا من حيث شئتما، وكان الفاء أولى؛ لأن اتخاذ الْمَسْكَن لا يستدعي زمانًا ممتدًا، ولا يمكن الجمع بين الاتخاذ والأكل فيه بل يقع الأكل عَقِيبَه.

ولا شك أن كلا الحكايتين قد طابقت مقام السورة التي وردت فيه، فالمقام في سورة البقرة لَمَّا كان لسَرْد النِّعَم تطلَّب الواو، وأما المقام في سورة الأعراف فلمَّا كان لإبراز جانب الرحمة في مقابل عداوة اللَّعين تطلَّب الفاء.

وأصل الفعل (كُلا) (أُأْكُلَا) بهمزتين الأولى للوصل والثانية فاء الكلمة، فَحُذِفَت الهمزة الثانية لاجتماع المثلين حذف شذوذ وأُتْبِعَت بالأولى لِفَوات الغرض، وقيل: حُذِفَا معًا لكثرة الاستعمال.

وإنما أسند الأكل إليهما -أي آدم وزوجه- صراحة؛ لأن زوجه تُشَاركه فيه أصالةً بخلاف السُّكْنَى فهي تَبَعٌ له، وفيه أيضًا إيماء بتساويهما في أُمُور التكليف، وفي النَّصِّ على تلك النعمة إيحاء بأن حياتهما لا تقوم إلا به، فَضْلًا عن أنها تمهيد للغذاء الرُّوحي في قوله بعد ذلك: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى) [البقرة: 38].

والأكل من الجنة يعني: من ثَمَرِها، بطريق اللزوم، ففيه إيجاز بالحذف، و(مِنْ) تبعيضية بتنزيل بعض ما يحتويه المكان مَنْزِلَة ذلك المكان وكأن الجنة كلها أصبحت مَحلًّا لأكلهما، وفي هذا من التكريم لهما ما فيه.

ولا يكتفي النظم في سورة البقرة بالأمر بالأكل وإنما يتبعه بوَصْفٍ لموصوف محذوف دلَّ عليه السِّياق، فقال: (وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا)، أي أَكْلًا رَغَدًا، والرغد: الْهَنِيءُ الذي لا عَنَاءَ فيه، وذلك إِمْعَانًا في تأكيد هذا الفِعْلِ وامتنانًا عليه هو وزوجته، وهذا كله من ملائمات مقام التكريم والعطاء.

وورد الوصف بالرَّغد في آية سورة البقرة دون آية سورة الأعراف، لأن المقام في سورة البقرة لسرد النعم، ولا شك أن في النص على هذه الحالة توكيدًا لمعنى التفضيل، أما في سورة الأعراف فالمقام مختلف.

وعلَّل ابن الزبير الغرناطي ورود قوله: (رَغَدًا) في سورة البقرة وعدم ورودها في سورة الأعراف بقوله: «إن ورود الرغد في سورة البقرة؛ لأن معنى (مِنْ) فيها للتبعيض، وقد يفهم من هذا المعنى إرادة التقليل وهو غير مُرَاد، وإنما مَصْرِف التبعيض إلى المأكول منه، فإنَّ ما اشتملت عليه الجنة من ذلك إذا أكلت منه ذُرِيَّة آدم بأجمعها فإنما تأكل بعضًا -إذ فيها من كل مُتَنَعَّم به ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر- فاجتمع هنا أن البعضيَّة مُرَادَةٌ بالنظر إلى ما انطوت عليه الجنة وإباحة التوسعة في أكلها مقصودة، وليس ثَمَّ ما تحرَّز به، فقال تعالى: (رَغَدًا) ليحصل معنى التوسعة. وأما عن سقوط (رَغَدًا) في الأعراف فلوجود ما يُحْرِزُ –أي يُحَصِّل- ذلك المعنى من التوسعة وذلك في قوله: (مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا) لإباحة ما في أماكنها، ومن الْمُحَال أن يُبَاح لهما الأكل من حيث شاءا منها على اتِّساع المساحة وكثرة المآكل، ثم يُحْجَر عليهما التوسُّعُ في الأكل والترغُّد فيه، وهذا متناقض» [ملاك التأويل (1/188، 189)].

وما ذكره ابن الزبير هو ما سماه البلاغيون الاحتراس، ويُسمِّيه بعضهم: التكميل، وهو: أن يؤتى في الكلام الْمُوهِم خلاف المقصود بما يدفع الإيهام ويُزِيله. فورود قوله: (رَغَدًا) في آية سورة البقرة دفع لهذا الإيهام.

ثم استطرد ابن الزبير بذِكْر ما يمكن أن يُعْتَرَض به عليه وردَّهُ أيضًا، فقال: «فإن قيل: قد وقع في سورة البقرة أيضًا قوله: (حَيْثُ شِئْتُمَا) وتلك تَوْسِعَةٌ في الأماكن. قُلْتٌ: ليس موقع: (حَيْثُ شِئْتُمَا) موقع: (مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا)؛ لأن (مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا) يُحْرِزُ ويُعْطِي إباحة الأكل من ثمر كُلِّ مَوْضِعٍ فيها. أما (حيث) إذا لم يكن معها (مِنْ) فإنها تُعْطِي بأظهر الاحتمالين إباحة الأكل في كُلِّ موضع لا من ثمر كُلِّ موضع، فقد يقال لشخص: (كُلْ هذا العنقود حيث شئت من هذا البُسْتَان)، فإنما أُبِيحَ له أكل عنقود مُعَيَّن مخصوص حيث شاء من أماكن ذلك البستان، ولم يتعرَّض بهذه العبارة لإباحة أكل ما في كُلِّ موضع منه إلا باحتمال ضعيف. أمَّا إذا قيل له: (كُلْ من حيث شِئْتَ من مواضع هذا البستان)، فقد أُبِيحَ له الأكل من كل ما في مواضعه وحصلت التوسعة في المأكل ولم يحصل ذلك عند سقوط (من) على ما تقدم آنفًا، وقد وضح افتراق الموضعين، وتعيَّن ورود (رَغَدًا) في البقرة إذ ليس ثَمَّ ما يُحْرِزُه، دون الأعراف لوجود ما يحرزه. والله أعلم» [ملاك التأويل (1/189)].

وحيث في قوله: (حَيْثُ شِئْتُمَا) ظَرْفُ مَكَانٍ، واستُخْدِمت في الآية للمكان الْمُبْهَم، والمعنى: كُلَا من أيِّ مكان من الجنة، وَفُسِّرت بالعُموم لقرينة المقام.

أما ما ورد في سورة طه بخصوص التفضُّل بالنِّعْمَة وهو قوله تعالى: (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى) [طه: 118، 119]. فالمقام فيه يختلف عن المقام الوارد في سورة البقرة وسورة الأعراف، فقد وقع التفضُّل في سورة طه عَقِيبَ التحذير من الشيطان وغوايته، وقد كانت هذه الآيات تعليلًا للشَّقَاء الْمُتَرتِّب على الخروج من الجنَّة والمنهي عنه، وتوكيدًا في الوقت ذاته لِمَفَادِ التحذير، فإذا خرج من الجنة فلن يجد إلا الجوع والعري والظمأ والشقاء.

ومجموع تلك الأمور والتي ضمنها المولى ـ لآدم في الجنة، وهي: عدم الجوع والعري والظمأ والشقاء، ومضادها وهي الشبع والكساء والرِّي والنعيم، مما يُكَوِّن الضروريَّات الأساسية للإنسان في حياته العامة.

ونلحظ ذِكْر تلك النِّعَم الأربع بلفظ النَّفي لنقائضها (الجوع – العُرْي – الظمأ –الضَّحْو) وذلك لِطَرْق سمعه بأسامي أصناف الشقاوة التي حذَّرَهُ منها حتى يتحَامَى السَّبب الْمُوقِع فيها كراهة لها، وفي التعبير بالمضارع لهذه الأفعال لاستحضار هذه الصورة أمام آدم عليه السلام لتكون مانعة له من العصيان، وهو أليق بمقام التحذير.

كما نلحظ أن كل نظيرين منهما لم يُجْمَعا معًا، بل ذكر الجوعَ مع العُرْي، والظَّمَأ مع الضَّحْوِ، وذلك من أسرار المعاني وهو الوصل الخفي، ففيه قطع النظير عن النظير، وهو ما يسميه علماء البلاغة بالتَّوْهِيم، فقد كان مُقتضَى الظاهر أن يُقَال: (إِنَّ لك أَلَّا تجوع فيها ولا تَظْمَأ، وأنَّك لا تُعَرَّى فيها ولا تَضْحَى) فالجوع يُلائِمُ العطش، والعُرْي يُلائِم الضَّحْو، وإنما عدل عن هذه المناسبة الظاهرة إلى مُنَاسبةٍ أَتَمَّ منها، وهي: أن الجوع خُلُّو الباطن والعُرْيَ خُلُّو الظاهر، فكأنه قيل: لا يخلو باطنك وظاهرك عما يهمهما، كما جمع بين الظمأ المورث لحرارة الباطن والبروز للشمس المورثة لحرارة الظاهر، وكأنه قيل: لا يُؤْلِمُكَ حرارة الباطن والظاهر، والغرض من ذلك تَعْدِيدُ هذه النِّعَم، فإنه لو قَرَنَ كُلَّ نِعْمَةٍ بما يُشَاكِلُها لتُوهِّم أن الْمَقْرُونَيْنِ نِعْمَةٌ واحدة. وهذا أليق بمقام التعليل والتوكيد المشار إليهما قبلا، كما أنه أليقُ بمعنى الترغيب في البقاء، لا سيما والنِّعَم أربعة مستقِلَّة –كما حكى القرآن- وذلك لأنه لا يجوز والنظم على هذا الوجه عَدُّ الاكتساء مع الشَّبع نِعْمَةً واحدة، كما لا يجوز عَدُّ الإيواء مع الرِّيِّ نِعْمَةً واحدة، وذلك للتباين الواضح بين كل قَرِينَيْنِ، فهذا مما يُحَفِّزُ على البقاء في الجنة، وبذا فإنه يُقَوِّي من مفاد معنى التحذير، كما لا يخفى.

وقَدَّم الجوع؛ لأنه يتقدَّمُ على الظَّمَأ كتقديم الأكل على الشَّرَاب، فضلا عن أن احتياج الإنسان إليه أكثر من غيره، ولذا صدَّر به قائمة النِّعَم، ثم تأتي نِعْمَةُ الْمَلْبَس والحاجة إليها تلي حاجة الإنسان إلى الطعام ولذا أُخِّرَت، أما الرِّيُّ والمأوى فهما مطلبان يحسُّ بهما ذلك الإنسان الذي ملأ بطنه من الطعام وستر عورته عن العيان، والرِّيُّ لا شك أكثر إلحاحًا من المأوى ولذا قُدِّمَ، وتلك قمة الإعجاز في تنسيق نظم القرآن الكريم وترتيبه.

فإن قيل: لِمَ ذكر التَّضَحِّي وهو عُرْيٌ في المعنى وقد أغنى عنه ذِكْرُ العُرْي؟ أجيب بأن في ذِكْرِ التَّضَحِّي فائدة كبيرة وهي وصف الجنة بأنها لا شمس فيها، كما قال سبحانه: (لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا) [الإنسان: 13]، فإن التَّضَحِّي عُرْيٌ مخصوص بشروط، وذلك بالبروز للشَّمْسِ وقت الضُّحَى، ولذلك سُمِّيَ تضحيًّا، والانتقال من الأعمِّ إلى الأخصِّ من فنون البلاغة؛ لاختصاص الأخصِّ بما لا يوجد في الأعم.

***

 


إرسال تعليق


أحدث أقدم
document.querySelector('.button').addEventListener('click', function() { alert('مرحبًا في طريق التعلم!'); });