من بلاغة القرآن في ذكر موقف امرأة سيدنا نوح عليه السلام من دعوته

 

وقفت امرأة سيدنا نوح عليه السلام من زوجها موقفًا مُخْرِيًا، فكذَّبته ولم تُؤْمِن به، ولم يقف الأمر عند هذا الحدِّ بل كانت تُعَادِيه وتتَّهِمُه بالجنون، وتُخْبِرُ الكُفَّارَ بِمَنْ يتَّبع نوح عليه السلام حتى يُؤْذُوهم ليردُّوهم عن الإيمان بنوح عليه السلام وبدعوته.

وورد ذكر موقفها هذا في القرآن الكريم مُقْتَرِنًا بذكر موقف امرأة سيدنا لوط عليه السلام، وذُكرا في آية واحدة مع أنه كان بين سيدنا نوح عليه السلام وسيدنا لوط عليه السلام زمن طويل، إلا أنه لَمَّا تشابه فِعْلُهما -وهو الكُفْر- جمعهما الله في آية واحدة وفي مَثَلٍ واحد، قال تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ [التحريم: 10].

وقد وردت هذه الآية مُسْتَأنفة ومَسُوقَةٌ لإيراد حالة غريبة ليُعْرَف على ضوئها حالة غَرِيبة أخرى مُشَاكِلَةً لها في الغَرَابة، وهذه الحالة هي أن الكُفَّارَ يُعَاقَبُون على كُفْرِهم وعداوتهم للمؤمنين مُعَاقَبَةَ مِثْلِهم من غير مُحَابَاةٍ، فلا ينفعهم ما كان بينهم وبين المؤمنين من نَسَبٍ أو مُصَاهَرَةٍ، وذلك لأنَّ عداوتهم لهم وكُفْرِهم بالله ورسوله قد قَطَع كُلَّ العلائق وبتَّ كل الوصائل، وجعلهم أَبْعَد من الأجانب وأَبْعَد، حتَّى وإن كان هذا الْمُؤْمِنُ الذي يتَّصِلُ به الكافرُ نَبِيًّا من أنبياء الله، فضرب اللهُ ـ في هذه الآية هذا الْمَثَل تشبيهًا لحال هؤلاء الكفار بِحَالِ امْرَأَةِ نُوحٍ وامرأة لُوطٍ لَمَّا نَافَقَتَا وخَانَتَا الرَّسُولَيْنِ فَكَفَرَتَا، فلم يُغْن الرَّسُولان عنهما بحقِّ ما بينهما وبينهما من وصلة الزواج إغناء مَّا من عَذَابِ الله.

والمراد بهذا المثل هو القصة العجيبة إذ كيف تكفر زوج نبي ولم تنتفع بالنور والهدى الذي في بيتها؟! والغرض منه الإنذار والتحذير من سوء العاقبة، ولغرابتها تسير هذه القصة سير المثل.

والفائدة في ضرب هذا المثل: بيان أنه لا ينفعُ أحدًا إيمانُ أحد ولا طاعةُ أحد إذا كان عاصيًا لله عز وجل.

ويرى الزمخشري أن الله ـ ضرب هذين الْمَثَلَين للتعريض بأُمِّي المؤمنين السيدة حفصة بنت عمر، والسيدة عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنهما، كانت هذه الآية تعريضًا بهما لتحذيرهما على أغلظ وَجْه وأشده؛ لما وقع منهما من التظاهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كَرِهه، وأنهما لا يتَّكلا على أنهما من زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك لا يمنعهما من عقوبة الله عز وجل إن أراد ذلك، فقد عاقب الله امرأة نوح وامرأة لوط بسبب كفرهما مع أنهما كانتا زوجتين لاثنين من أنبيائه، ومع هذا لم تنفعهما هذه القرابة، ثم ذكر الزمخشري أنَّ التعريض بالسيدة حفصة رضي الله عنها وحدها هو الأرجح؛ وذلك لأن فعلهما -وهو إفشاء سِرِّ الزوج- متشابه، فامرأة لوط أفشت أخباره عليه السلام لقومها، والسيدة حفصة ك أفشت سرَّ رسول الله ق للسيدة عائشة ك. ثم بعد ذلك ضرب الله ـ المثل أيضًا بامرأة فرعون ومريم ابنة عمران ترغيبًا لهما في التمسك بالطاعة والثبات على الدين [الكشاف (4/571)].

ولفظ ضَرَبَ استعارة تصريحية تبعيَّة، حيث استُعِيرَ الضَّرْبُ للذِّكْرِ، والتقدير: (ذَكَر اللهُ مثلًا)، وبلاغة الاستعارة هنا دلالتها على كمال العناية بقوَّة هذا المثل المذكور الشديد التأثير الشبيه تأثيره بتأثير الضَّرْبِ في المضروب، أي في قوَّة الإحساس وشِدَّته.

وأصلُ الْمَثَلِ: النَّظِيرُ والْمُشَابِهُ، يقال: (مَثَلٌ ومَثِيلٌ) كما قيل: (شَبَهٌ وشَبِيهٌ)، واخْتُصَّ الْمَثَلُ بإطلاقه على الحالة الغريبة الشَّأْنِ التي تُمَثِّلُ للنَّاسِ وتُوَضِّحُ وتُشِبِّه، وبإطلاقه على قَوْلٍ يصدر في حالة غريبة فيُحْفَظُ ويشيع بين الناس لبلاغته.

وتقديم المجرور باللام في قوله: لِلَّذِينَ كَفَرُوا على المفعول به الأول؛ للاهتمام بإيقاظ الذين كفروا، فجعل الله عز وجل حالة هاتين المرأتين عِظَةً وتنبيهًا للذين كفروا؛ ليذكرهم بأن الله لا يصرفه عن وعيده صارف فلا يحسبوا أن لهم شفعاء عند الله، ولا أن مكانهم من جوار بَيْتِه وعِمَارَة مسجده وسِقَايَة حجيجه تَصْرِف غضب الله عنهم، فإن هم أقلعوا عن هذا الحسبان أقبلوا على التدبُّر في النجاة من وعيده بالنَّظَرِ في دلائل دعوة القرآن وصدق الرسول ق فلو كان صارف يصرف الله عن غضبه لكان أولى الأشياء بذلك مكانة هاتين المرأتين من زوجيهما رسولي رب العالمين.

والتعبير بالمرأة يستعمله القرآن الكريم في المواضع التي تَفْقِدُ فيها الحياةُ الزوجِيَّةُ بعض مقوِّماتها، سواء أكان ذلك من جانب الرجل أو من جانب المرأة، ولِفَقْدِ هذه المقومات صُوَرٌ شتَّى، والتي منها أن يكون الاختلاف في الدِّين هو السبب الداعي إلى عدم اعتبار الحياة الزوجيَّة قائمة من كُلِّ الوجوه، كامرأة نوح وامرأة لوط كانتا كافرتين، وأزواجهما كانا من أنبياء الله عز وجل.

وقد رُوعِيَ الترتيب الزمني في قوله: امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ حيث تقدَّم ذكر امرأة نوح على امرأة لوط؛ لأن زمن سيدنا نوح عليه السلام كان قبل زمن سيدنا لوط عليه السلام، ونلحظ أنه مع اختلاف زمان كل واحدة منهما إلا أن الله عز وجل جمعهما في آية واحدة وفي مَثَلٍ واحد لتشَابُه فِعْلُهما وهو الكُفْر.

والتحتية في قوله: كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ استعارة عن تقاصر مكانة المرأة عن مكانة الرجل، لا التحتية في العرف واللغة وهي الجهة المعروفة بالحس في الموضع، فاستعارها وهي محسوسة لأمر معقول وهو المكانة والمنزلة. والتعبير بالتحتية يُبْرِز الهيمنة والقوة والسيطرة لزوجيهما، ومع ذلك فقد خانتاهما.

وقوله: تَحْتَ عَبْدَيْنِ كناية، ويقصد بها الدونية والتسفُّل لهاتين المرأتين في المكانة والمنزلة الخاص بحالتيهما، فهما امرأتان كافرتان مُنْحَرِفتان عن الهَدْي الإلهي، وسلوكهما يُجَسِّد عمليًّا دُونِيَّتهما؛ لأنه سلوك مُنْبَثق عن الكفر والضلال.

وذكر وصف العبودية ولم يقل: (تحتهما) للتعظيم، أي كانتا في عِصْمَة نبيَّين عظيمي الشأن مُتَمكِّنتين من تحصيل خير الدنيا والآخرة، وحيازة سعادتهما.

والمراد بالعبدين سيدنا نوح وسيدنا لوط عليهما السلام وإنما خُصَّا بوصف (عبدين صالحين) مع أن وصف النُّبوَّة أخصُّ من وصف الصلاح، فلم يقل تحت نبيين، تَنْوِيهًا بوصف الصلاح وإيماء إلى أن النُّبُوَّةَ صلاحٌ ليُعَظِّم بذلك شأن الصالحين.

والخيانة الواردة في قوله: فَخَانَتَاهُمَا المراد بها: الإخلال بِمَا أؤتُمِنتَا عليه من حقوق لهما، ونفاقهما وإخفاؤهما الكُفْر، وتظَاهرهما على الرَّسُولَيْن، فامرأة نوح قالت لقومه: إِنَّه مجنون، وامرأة لوط دلَّت على ضيفانه.

وسَمَّى اللهُ عز وجل فِعْلَهُما خِيَانَةً، والمراد بها خِيَانَة في الدِّينِ؛ لأنه كان الأَوْلَى بهما أن يكونا مع المؤمنين بزوجيهما لاسيما وأن الزوجة تكون أعلم الناس بأحوال زوجها وأقربُ النَّاس منه، ولكنهما آثرتا ما عليه قومهما من الكُفْرِ والضلال. والفعل (خَانَ) يُطْلَق على التَّنَقُّصِ من الشيء الْمُضَاف إليه، ولذلك يظهر معناه جليًّا حينما يُضَاف إليه، فيقال: (خَانَ الْعَهْدَ أو الْأَمَانَةَ) إذا لم يُؤَدِّها، و(خَانَ فُلَانًا) إذا غَدَر بِهِ، و(خَانَ النَّصِيحَةَ) إذا لم يُخْلِص فِيهَا. وليس المراد بالخيانة في الآية الزِّنى والفجور، قال ابن عباس: «مَا بَغَتِ امْرَأَةُ نَبِيٍّ قَطُّ». وقال الزمخشري: «ولا يجوز أن يُرَاد بالخيانة الفجور؛ لأنه سمج في الطِّبَاعِ نَقِيصَةٌ عند كُلِّ أحد، بخلاف الكُفْرِ، فإنَّ الكُفَّار لا يَسْتَسْمِجُونه بل يَسْتَحْسِنونه ويُسَمُّونَهُ حَقًّا» [الكشاف (4/572)].

وقوله: فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا الإغناء: جعل الغير غَنِيًّا، أي غير محتاج، وهو على حذف مضاف، والتقدير: لم يُغْنِيَا عنهما من عذاب الله. وتنكير (شَيْئًا) للتقليل والتحقير، أي أقَلَّ غِنًى فيكون بديلا من عقاب الله، وانتصب (شَيْئًا) على المفعولية المطلقة لـ (يُغْنِيَا)؛ لأن المعنى شَيْئًا من الغِنَى.

وقوله: وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (قِيلَ) فعل ماض مبني للمجهول، ونائب الفاعل ضمير مستتر فيه تقديره يعود على الله تعالى، ومتعلقه محذوف، والتقدير: قيل لهما في الآخرة. والفعل الماضي (قِيلَ) مضارع في المعنى، أي ويُقَال لهما، وعبَّر بالفعل الماضي لتحقُّق الوقوع.

وفيه طَيٌّ للزمان، وتحقيقٌ لما سيكون، وكأنه قد كان، وإخراج المستمع من حالة تلقي قصة عابرة إلى معايشة لحظة آنية، وإخراج القيامة من طور المنتظر إلى المنظور، فكأننا نشاهد جهنم فُتِحت أبوابها وسمعنا الملائكة يدفعونهما إلى النار قائلين: ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ.

وقوله: مَعَ الدَّاخِلِينَ لإفادة مساواتهما في العذاب لغيرهما من الكَفَرَة الخونة، وعدم انتفاعهما بشيء من حظوة زوجيهما.

***

تعليقات