البشارة بولادة سيدنا إسحاق عليه السلام

 

ورد الحديث عن بشارة الملائكة لسيدنا إبراهيم عليه السلام وزوجته سارة في موضعين:

الأول: قوله تعالى: وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ  * قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ [هود: 71-73].

المقصود بالضَّحِك حقيقته المعروفة، وقيل: المراد به التبسم وطلاقة الوجه، فيكون مجازا، وسبب ضحكها هو زوال الخوف، ولم يكن تعبيرًا عن فرحتها بتبشيرها وزوجها بالذرية؛ لأن ضحكها كان قبل تبشيرها بالذُّرِيَّة، والضحك مذكور هنا فقط، ولم يذكر في الآيات الأخرى التي قصَّت هذا الحدث.

وأُسْنِدت البشارة إلى الله عز وجل مع أنها كانت من الملائكة؛ لأن الله هو الآمر بها، ودور الملائكة اقتصر فقط على التبليغ، فهو مجاز عقلي علاقته السببية، حيث أسند التبشير إلى الملائكة والمبشر في الحقيقة هو الله تعالى. وفي هذا تلوين للأسلوب من خلال إسناد الأفعال تارة إلى الله عز وجل وتارة إلى ملائكته.

وتوجيه البشارة إليها مع أن الأصل توجيهها إلى سيدنا إبراهيم عليه السلام كما حدث في مواضع أخرى، للإيذان بأن ما بُشِّرَ به في هذه المواضع يكون منها، ولكونها عجوزًا عقيمًا حريصةً على الولد فتبشيرها يضاعف سرورها.

ثم تمضي الآيات تُبَيِّن موقفها من هذه البشارة العظيمة فتُرِينا هذه الآية بنظمها وبيانها العجيب المعجز مَشْهَدًا رائعًا وتصويرًا دقيقًا لهول المفاجأة التي أُلْقِيَت على مسامعها، حيث أخرجتها الفرحة الغامرة بهذه البشرى عن طبيعتها، وهي وإن كانت تتمنَّى الولد إلا أنها تعلم أن العادة لم تجر بأن تلد امرأة في مثل سنِّها، ومن ثم كان هذا العجب الشديد إزاء ما بُشِّرَت به من الولد.

أسلوب النداء الوارد في قولها: يَا وَيْلَتَا وأصلها: يا ويلتي بالياء، فأبدلت الفًاء؛ لأنها أخف من الياء والكسر، وأَصْلُ الويل الخِزْي، ثم شاع في كل أمر فظيع، وأصل النداء يكون لِمَنْ يعقل، وقد ينادى ما لا يعقل على سبيل الاستعارة بالكناية، حيث شُبِّه الويل بمن يعقل، ثم حذف المشبه به ورمز له بالنداء، وفي ندائه تعظيم للأمر على نفس المتكلم وعلى سامعه إن كان ثَمَّ سامع. والمعنى: يا ويلتي احضري فهذا أوان حضروك، والمراد بها هنا التَعَجُّب لا معنى الويل؛ لأنه لا يُنَاسب المقام.

والاستفهام في قوله: أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا على غير حقيقته؛ لأنها علمت بالجواب عما تسأل من خلال ما بُشِّرَت به، فلا يكون المراد من السؤال عما علمت إلا التعجُّب الْمَشُوب بالإنكار، أو التعجب المتفرع عن الإنكار، واستعمال الاستفهام في الإنكار والتعجب مجاز مرسل مُرَكَّب، والعلاقة بين ما جاء به النظم -وهو الاستفهام- وما أريد به وهو الإنكار والتعجب هو اللزوم، وذلك لأن السؤال يستلزم الجهل، والجهل يستلزم الإنكار والتعجب.

وفي التعبير باسم الإشارة تمييز له أكمل تمييز بالإشارة الحسية، ليجعل الصورة المشار إليها حاضرة أمام الأذهان بصورتها، وهو مما يعمق التعجب أيضًا، والمعنى: كيف يكون له ولد وهو كما ترى، فوصفت حاله من الشيخوخة وصفًا مرئيًّا مُشَاهدًا، وهذا أبلغ في وصفه مما لو قيل: وبعلي شيخ.

وقدَّمت سارة بيان حالها على بيان على حال زوجها عليه السلام؛ لأن مُبَاينة حالها لِمَا ذُكِرَ من الولادة أَكْثَرُ، إذ رُبَّما يُولَدُ للشيوخ من الشَّوَابِّ أما العجائزُ فلا؛ ولأن البشارة متوجِّهَةٌ إليها صريحًا؛ ولأن العكس في البيان رُبَّما ُيوِهُم من أول الأمر نسبة المانع من الولادة إلى جانب إبراهيم عليه السلام وفيه ما لا يخفى من المحذور.

وقوله تعالى: إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ خبر مؤكد بإنَّ واللام لتقوية مضمونه، وهذا الخبر مع كونه مُثْبَت للتعجب مما ذكر، فهو أيضًا تعليل بطريق الاستئناف التحقيقي للتعجب والاستبعاد المستفاد من طريق الاستفهام وتأكيد له. واسم الإشارة فيه يعود إلى ما ذكر من حصول الولد من عجوز عقيم وشيخ كبير، والتعبير باسم الإشارة أبلغ مما لو قيل (إنه) بالضمير، لما في اسم الإشارة من وصف كامل محسوس، وتمييز مبني على المشاهدة، كما أن فيه استعظاما للمشار إليه وتفخيم لشأنه مما يزيد العجب.

والاستفهام في قوله: أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ استفهام إنكاري، وفيه جوابهم إيجاز بطي موطن تعجبها الحقيقي، أي أتعجبين من حصول الولد مع الملابسات المنافية له، وهو أمر الله تعالى، وفي طي ذلك وإيقاع التعجب على أمر الله زيادة إنكار لتعجبهم ولَوْمٌ لها وردٌّ عليها بأن هذا الشيء المنافي للعادة من أمر الله تعالى وشأنه وقدرته، وهو الذي يقول للشيء كن فيكون فلا ينبغي التعجب.

ثم علَّل إنكار تعجبها بقوله: رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ وهي جملة خبرية، وفي ذكر الرحمة والبركات تأكيد لإنكار التعجب الذي صاحت به سارة، كأنهم قالوا لها: لا تعجبي مما بشَّرناك به فإن الله تعالى حفَّكم يا أهل بيت النبوة بالرحمات والبركات، وخوارق العادات، والله على كل شيء قدير.

وأكَّد الخبر بإنَّ واسمية الجملة في قوله: إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ؛ لإزالة التعجب المشوب بالإنكار في قول سارة.

***

والثاني: قوله تعالى: وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ * فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ * قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ[الذاريات: 28-30].

تُصَوِّر هذه الآيات تبشير الملائكة سيدنا إبراهيم عليه السلام بالولد، وإقبال سارة على زوجها وضيوفه، وقد كانت على مقربة منهم في زاوية من زوايا البيت، وإقبالها هنا جاء مستعملا في أصل معناه.

وتنكير لفظ (غلام) أفاد التعظيم، أي غلام عظيم الشأن. ووصفه بـ (عليم) زيادة تعظيم له، وبذلك عظم بالتنكير وبالوصف.

والصَرَّة: الصَّيْحَة ورَفْعُ الصوت، من: صرَّ الجندب، وصرَّ القلم والباب، وهي في موضع النصب على الحال، أي فجاءت صارَّة.

وبين لفظي الصَّرِّ والصك تناسق صوتي بديع أبرزه اتحاد فائيهما في الصاد المستعلية المطبقة ذات الصفير، واتحاد عينهما في التضعيف، مما أدَّى إلى قوة الأسلوب وجزالته.

والتعبير بالصَّكِّ في الآية من الفرائد القرآنية التي لم ترد في القرآن الكريم إلا في هذه الآية، وآثرها لأن لها سمات عديدة لا تُوجَد فيما يقاربها، منها أن (صَكَّت) فيها تصوير واضح للحدث بحروفها، وإيقاع أصواتها، تأمل صوت الصاد وما فيه من صفير، ثم جرس الكاف المجهورة الشديدة التي زادتها الشَّدَّة التي فوقها شِدَّةً وقُوَّة، كل ذلك يحكي صَوْتَ وقع اليد على الخدِّ بعُنْف وشِدَّة، ولو قال (ضربت) أو (لطمت) لما أوحت حروفهما بذلك. ومنها أن (صكَّت) أوفى بالدلالة على المطلوب؛ لأن معناها ضَرْبُ الوَجْهِ باليد مبسوطة، وهذه عادة معروفة لدى النساء في كل عصر ومصر عندما يحدث لها حادث يُطَيِّر ألبابهن، ويفزعهن، ولو قال: (ضربت) لما أفادت هذا المعنى بدقة؛ لأن الضَّرْبَ أعمُّ يشمل الضرب باليد وأي شيء آخر يُضرب به، كما أن اللطم -وإن كان صريًحا في الضرب باليد على الوجه- إلا أنه يستخدم في سياقات الحزن والوله وعدم الرضوخ للقدر، وقد نهي عن ذلك في الأحاديث الصحيحة، فظهر أن تلك الفريدة هي الأحق بهذا الموضع، ولا يمكن لغيرها أن يحل محلها.

وقولها: عَجُوزٌ خبر مبتدأ محذوف، ففيه إيجاز بالحذف، والتقدير: (أنا عجوز عقيم)، وفي حذفه إشعار بضجرها وضِيق صدرها من شِدَّةِ ما ألَـمَّ بها، وما أُخْبِرَت به من أمر عجيب يتنافى مع حالها، والمسند إليه يُحْذَفُ لضيق المقام، وتَجِدُ لهذا مَذَاقًا حَسَنًا في سياق الضَّجَرِ والشِّدَّة حين ينزع الْمُتَكَلِّمُ إلى الإشارات اللمَّاحة لفرط ما يجد، فيلجأ إلى الإيجاز لثقل الكلام عليه.

وآثر التعبير القرآني بلفظ الرب لما فيه من العناية والتربية والرأفة، وإضافة ضميرها إلى الربِّ عز وجل تعظيم لشأنها، وإشعار بما يخصها به من الخيرات والبركات.

وختمت الآية بالتذييل: إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ هذه الجملة تعقيب للجملة السابقة تشمل معناها وذلك للتوكيد والتقوية، وجاء التذييل مُؤَكَّدًا بإِنَّ والجملة الاسمية وضمير الفصل. وعُرِّف المسند باللام ليُفِيدَ القصر، أي قصر الحكمة والعلم عليه ـ دون سواه قَصْرًا حقيقيًّا تحقيقيًّا وهو من قصر الصفة على الموصوف، وسر المجيء بالتوكيد هنا هو أن يقطع عليها تعجبها، فالذي قال بهذا هو الحكيم العليم، الحكيم بما يفعله وفق حِكْمَةٍ يَعْلَمُ كُنْهَها.

ونلاحظ أنه قد وردت البشرى في سورة هود للسيدة سارة، أما في سورة الذاريات فكانت البشارة لسيدنا إبراهيم عليه السلام، وذلك لأن البشارة كانت لهما معًا، فقد تكون خاصة في وقت واحد فهي بشارتان باعتبار الْمُبَشَّرِ، وقد تكون حصلت في وقتين، بشروه بانفراد، ثم جاءت امرأته فبشروها.

ولعل السر في مجيء البشارة على هذه الطريقة المتنوعة؛ لأن آيات هذه القصة بدأت بذكر مجيء الرسل بالبشرى إلى سيدنا إبراهيم عليه السلام فلم يكن من المناسب أن يكرر تبشير الملائكة له في هذا الموضع القريب من سابقه، أما آيات سورة الذاريات فلم يذكر في بدايتها مجيء الرسل إليه بالبشرى، لذلك طمأنوه وأزالوا خوفه بأقرب الأشياء إلى نفسه وأحبها وهي تبشيره بالغلام.

والبُشْرَى في سورة هود كانت بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب، أما في سورة الذاريات فكانت البشرى بالولد فقط وهو إسحاق عليه السلام.

ومن الملاحظ أيضًا أن ما ورد بخصوص البشارة بولادة سيدنا إسحاق عليه السلام جاء في سورة هود بصورة تفصيلية، أما ما جاء في سورة الذاريات فكان مجملا، والسر في ذلك أن البشارة لما كانت للسيدة سارة في سورة هود صراحة، فبيَّن أثرها عليها، وذكر حوار الملائكة معها مُفصَّلًا، أما في سورة الذاريات فلم تقع البُشْرَى لها صراحة، وإنما صُرِّح بها لسيدنا إبراهيم عليه السلام فذلك أجمل موقفها وأوجز في ذكر ما يخصها، ولم يذكره اكتفاء بالتفصيل الوارد في سورة هود.

***

تعليقات