ورد ذِكْرُ بيان
المنهج إلى سيدنا آدم وزوجه بعد هبوطهما إلى الأرض في سورة البقرة وسورة طه، فقال
في سورة البقرة: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ
هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)
[البقرة: 38]. وقال في سورة
طه: (فَإِمَّا
يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا
يَشْقَى) [طه: 123].
ولم يرد في
آيات سورة الأعراف التي ذكرت قصة آدم عليه السلام وحواء ذِكْرٌ لبين المنهج، ولعل
السبب في هذا أن النظم فيها لَمَّا تخلَّص من خطاب آدم عليه السلام وزوجه (قَالَ
فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ) [الأعراف: 25] إلى النداءات
التي هي هدف القصة فيها، ولم يرد ذِكْرٌ لهذا المنهج تلبية لمقامها ووفاء بغرضها
الأصل، فضلا عن أنه لا يتعلَّق بذِكْرِه غَرَض.
ومن الملاحظ في
آيتي سورة البقرة وسورة طه اتفاق نظم هاتين الآيتين في جملة: (فَإِمَّا
يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى)، وهي جملة
شرطية، والفاءُ فيها لترتيب ما بعدها على الهبوط المفهوم من الأمر به. وجواب
هذه الجملة الشرطية هي جملة الشرط التي تلتها مع جوابها، وفي سورة البقرة كان جواب
الشرط هو قوله تعالى: (فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا
هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة: 38] وذلك
كقولك: (إن جئتني فإن قدرت أحسنت إليك). والمعنى: فإما يأتينكم مِنِّي هُدًى برسول
أبعثه إليكم وكتاب أُنْزله عليكم. وجواب الشرط في سورة طه أيضًا هو جملة الشرط
التي تلتها مع جوابها، وهو قوله تعالى: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا
يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى) [طه: 123].
والتعبير في
قوله: (فَإِمَّا
يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى) بـ (إِمَّا) لتوكيد معنى الشرط، فالأداة عبارة عن (إن) ألحقت بها (ما) وهي
حرف شرط، و(ما) حرف مؤكد له، وإنما أُوثِرت (إن) مع أن إتيان الهدى مُحقَّق إشارة
إلى أن إتيان الهُدَى وإن كان محقَّقًا بدلالة إلحاق (ما) بـ (إن) كما أشرت،
وبدليل توكيد فعل الشرط إلا أن الواجب هو ترقُّب زمان مجيئه، وهذا أليق بمعنى
اليقظة التي يتطلبها مقام البقرة حيث التأسيس لمقومات الخلافة، كما أنه أليق بمقام
سورة طه حيث النسيان الذي يغلب على البشر، فالشك في (إن) إذن لزمان الفعل لا لذاته
وذلك للغرض المذكور.
وجاء الخطاب في
قوله: (يَأْتِيَنَّكُمْ) بصيغة الجمع؛ لأن المراد به: آدم عليه السلام وحواء
وذريتهما.
وجاء بصيغة
الضمير الخاص بالمتكلم المفرد في قوله تعالى: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى)، منتقلا من الضمير الموضوع للمجموع ليلفت الأنظار
وينبِّه الأسماع ويُشير إشارة قاطعة إلى أن الهدى لا يكون إلا منه ـ، وللإشعار إلى أن الخير كله منه فيما شرع لعباده وفي صراطه المستقيم.
وإضافة هذا
الهُدَى إلى ضمير الجلالة في قوله: (مِنِّي هُدًى) لتَعْظِيمِه وتأكيدِ وجوب اتِّباعه.
والمراد
بالهُدَى: الرِّسَالات التي تحيا بها القلوب وتستقيم بها أنظمة الحياة، فالتعبير
مجاز مرسل علاقته الْمُسَبَّبية حيث ذكر الْمُسَبَّب وأريد السَّبب.
وتنكير قوله: (هُدًى) يفيد العموم، فهو ضربٌ مُبْهَمٌ لا يُبْلَغ كُنْهه، ولا يُقادر قَدْره، فالمراد
به أيَّ هدًى، ولم يُعَرَّف بالألف واللام لأنه لم يُسْبَق عَهْدٌ به.
والمفارقة
النظمية البَيِّنة بين قوله تعالى: (فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ) [البقرة: 38] وقوله: (فَمَنِ
اتَّبَعَ هُدَايَ) [طه: 123]، حيث ورد لفظ
(تَبِعَ) في سورة البقرة بدون همزة وبتخفيف الباء، لكنَّه ورد في سورة طه بالهمزة
وتشديد الباء، وذكر العلماء السر في هذا الاختلاف، فيرى البقاعي أن المقام في سورة
طه مقام تحذير ونسيان فشدَّد الفعل حثًّا على النشاط والجدِّ، وقد سبقه مباشرة: (بَعْضُكُمْ
لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) [البقرة: 36] والمقام يتطلب
أدنى اتِّباع وأقله. وقد جاء جواب الشرط في الْمَوضعين مناسبًا لدلالة الفعل فهو
في طه: (فَلَا
يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى) [طه: 123]، وفي البقرة: (فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)
[البقرة: 38] بنفي الضلال
والشقاء في الأول، والخوف والحزن في الثاني.
ويرى ابن جماعة
أن التشديد في سورة طه للتصريح بمعصية آدم، وقد سبقه الاتِّباع مشددًا في نفس
السورة، ويقصد به قوله تعالى: (يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ) [طه: 108]. وذكر صاحب
ملاك التأويل أن صيغة التخفيف في سورة البقرة حيث لم يتقدم في حكاية إغواء إبليس لآدم
ذكر وسوسة الشيطان والاحتيال عليه. وصيغة التشديد في سورة طه حيث تقدم ذكر وسوسة
اللعين وسَعَةُ مكره واحتياله. فكان المخفف بجوار ما لا تَعَمُّل فيه، والْمُشَدَّد
بجوار ما فيه ذلك. [ملاك التأويل (ص: 190- 194)].
وكل هذه
التوجيهات تبدو وجيهة لا ريب وما منها إلا وهو لائق بالمقام. والنكات -كما يقولون-
لا تتزاحم، فلتكن كلها مرادة للحكيم سبحانه خاصة وأن ليس بينها تدافع.
ثم ختمت آية
سورة البقرة بقوله تعالى: (فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)
[البقرة: 38] والمرادُ: بيانُ
دوامِ انتفائِهما، والمقصود بالخوف هو: الفزع في المستقبل، والحزن ضد السرور، مأخوذ
من الحَزَن -وهو ما غلظ من الأرض- فكأنه ما غلظ من الهمِّ، ولا يكون إلا في الأمر
الماضي، وقيل: الحزن والخوف كلاهما في المستقبل لكن الخوف استشعار لفقد مطلوب،
والحزن استشعار غَمٍّ لِفَوْت محبوب. والمعنى في الآية: فلا خوف عليهم فيما بين
أيديهم من الآخرة ولا هم يحزنون على ما فاتهم من الدنيا.
والتنكير في قوله: (خَوْفٌ)
يفيد العموم فالمراد به نفي جنس الخوف أيّ خوف. وقدَّم
انتفاء الخوف على انتفاء الحزن؛ لأن انتفاء الخوف فيما هو آت أكثر من انتفاء الحزن
على ما فات. ويلاحظ هنا تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي مسبوقًا بحرف النفي
للتقوية والتوكيد.
وخُتِمَت آية
سورة طه بقوله تعالى: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى) [طه:
123]. فقوله: (فَلَا يَضِلُّ) معناه: أنه إذا اتبع الهدى الوارد من الله على لسان رسله سَلِم من أن
يعتريه شيء من ضلال، وهذا مأخوذ من دلالة الفعل في حيِّز النفي على العموم كعموم
النكرة في سياق النفي، أي فلا يعتريه ضلال في الدنيا. والشقاء المنفي في قوله (وَلَا
يَشْقَى) هو شقاء
الآخرة؛ لأنه إذا سَلِم من الضلال في الدنيا سَلِم من الشقاء في الآخرة، وفي هذه
الآية وصاية الله آدم وذريته باتباع رسل الله والوحي الإلهي، وبذلك يعلم أن طلب
الهدى مركوز في الجبِلَّة البشرية.
وبعدُ فهذه هي الحلقة الأخيرة من قصة سيدنا آدم عليه
السلام حيث يهبط هو وزوجه إلى مقرِّ الخلافة وهي الأرض، ومعهما الشيطان اللعين
ليُبَاشر كُلٌّ عمله، فآدم وزوجه يربطهما المنهج الذي شرعه المولى سبحانه وتعالى لهما
ولذريتهما، وأما الشيطان اللعين وذُرِيَّته فيعملون جاهدين على صَدِّ هؤلاء البشر
عن هذا المنهج، ومن هنا كانت العداوة المتأصلة صراع دائم بين الحق والباطل، وذلك
حتى يأذن الله بانتهاء الحياة على وجه الأرض.
***