من بلاغة القرآن في ذكر آداب دخول بيوت النبي صلى الله عليه وسلم

 

ذكر الله عز وجل الآداب التي ينبغي على المؤمنين التحلِّي بها عند دخولهم بيوت النبي صلى الله عليه وسلم حتى تصبح العلاقة بينهم وبينه صلى الله عليه وسلم على أحسن ما يكون توقيرًا وإعظامًا، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا * إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا * لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا) [الأحزاب: 53 - 55].

وسبب نزول هذه الآية وهو أنه لَمَّا تزوج الرسول صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش رضي الله عنها صنع وليمة ودعا إليها الناس، فصدرت من بعض المسلمين تصرفات غير لائقة في حقه صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآيات تُوَجِّه وتقرر مجموعة من الآداب التي ينبغي على المؤمنين أن يتحلُّوا بها، ومنها عدم دخول بيوت النبي صلى الله عليه وسلم إلا بإذن، وإذا كانت الدعوة لطعام ونحوه فعليهم الانصراف بمجرد تناولهم الطعام، وعدم الْمُكث في بيته للسَّمر والاستئناس بالحديث، وحُرمة إيذائه، وحُرمة نكاح أزواجه من بعده، وهذه الآداب التي عبَّرت عنها هذه الآية كان المقام فيها مقام التأديب والتعليم.

بدأت الآية بنداء المؤمنين وهذا النداء فيه تشريف لهم، ثم أعقبه بالنهي وهذا النهي يُفيد التحريم، ومجيء النهي بعد النداء فيه دلالةٌ على كمال العناية بهذا الأمر، من حيث كان النداء تنبيهًا، وإيقاظًا، وتهيئةً للعقل والحس؛ حتى يتلقّى هذا النهي تلقّيًا واعيًا.

والاستثناء في قوله: (إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ) استثناء من عموم الأحوال التي يقتضيها الدخول المنهي عنه، أي: إلا حال أن يؤذن لكم، فهنا أسلوب قصر حقيقي طريقه النهي والاستثناء، وجيء بهذا الأسلوب لتأكيد للنهي عن دخول بيوت النبي صلى الله عليه وسلم إلا من أجل الدعوة إلى الطعام.

وقوله تعالى: (غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ)، أي: منتظرين نضجه واستواءه، أو وقت إدراكه، إشارة إلى ما كان يفعله بعض القوم من تحيُّن وقت الطعام عند الرسول صلى الله عليه وسلم فيدخلون ويأكلون ولا يخرجون، فيتأذَّى بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم.

وكُنِيَ بالانتظار عن مبادرة الحضور قبل إبان الأكل. ونكتة هذه الكناية تشويه السبق بالحضور بجعله نهما وجشعا وإن كانوا قد يحضرون لغير ذلك، وبهذا تعلم أن ليس النهي متوجها إلى صريح الانتظار.

ولَمَّا كانت بداية الآية تقرر حُرْمة دخول بيت النبي صلى الله عليه وسلم جاء الشرط لغرض التقييد والتخصيص؛ ليُخصص ذلك جواز ذلك بالدعوة (وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا)، فإذا وجدت الدعوة جاز الدخول. وأداة الشرط (إذا) التي تفيد تحقق وقوعه، كما أن فعل الشرط أتى ماضيًا في اللفظ مستقبلا في المعنى، أما الجواب فكان طلبيًّا يتلاءم مع مقام التوجيه والإرشاد.

وليس ذكر الدعوة إلى طعام التي وردت في الآية تقييدًا لإباحة دخول بيوت النبي صلى الله عليه وسلم بحيث لا يدخلها إلا المدعو إلى طعام، ولكنه كان مثالًا للدعوة، وتخصيصه بالذكر لما جرى في القضية التي هي سبب النزول، ويلحق به كل دعوة تكون من النبي صلى الله عليه وسلم وكل إذن منه بالدخول إلى بيته لغير قصد أن يطعم معه، كما كان يقع ذلك كثيرا.

وموقع الاستدراك لرفع توهم أن التأخر عن إبان الطعام أفضل فأرشد الناس إلى أن تأخر الحضور عن إبان الطعام لا ينبغي بل التأخر ليس من الأدب؛ لأنه يجعل صاحب الطعام في انتظار، وكذلك البقاء بعد انقضاء الطعام فإنه تجاوز لحد الدعوة؛ لأن الدعوة لحضور شيء تقتضي مفارقة المكان عند انتهائه؛ لأن تقيد الدعوة بالغرض المخصوص يتضمن تحديدها بانتهاء ما دُعِي لأجله، وكذلك الشأن في كل دخول لغرض من مشاورة أو محادثة أو سمر أو نحو ذلك، وكل ذلك يتحدد بالعُرْفِ وما لا يثقل على صاحب المحل، فإن كان محل لا يختص به أحد كدار الشورى والنادي فلا تحديد فيه.

والأمر في قوله: (فَادْخُلُوا) للندب؛ لأن إجابة الدعوة إلى الوليمة سُنَّة، وعطفت جملة الشرط بالفاء فأفادت التعقيب بلا مهلة.

ولَمَّا كان الإذن بالدخول وتناول الطعام قد يستلزم الْمُكْث جاء الشرط ليُقَرِّر النهي عن ذلك (فَإِذَا طَعِمْتُمْ). وأداة الشرط (إذا) التي تفيد تحقق وقوعه، كما أن فعل الشرط أتى ماضيًا في اللفظ مستقبلا في المعنى، أما الجواب فكان طلبيًّا يتلاءم مع مقام التوجيه والإرشاد. وعطفت أيضًا جملة الشرط بالفاء فأفادت التعقيب بلا مهلة.

والأمر في قوله: (فَانْتَشِرُوا) للوجوب؛ لأن دخول المنزل بغير إذن حرام، وإنما جاز بمقتضى الدعوة للأكل فهو إذن مُقَيَّدٌ المعنى بالغرض المأذون لأجله، فإذا انقضى السبب المبيح للدخول عاد تحريم الدخول إلى أصله. والتعبير بالانتشار دون الخروج أبلغ في موضعه؛ لأن الانتشار يعني التفرُّق، فما أن يفرغ الواحد منهم من طعامه حتى يُبادر إلى الخروج دون انتظار الآخرين، وهذا أرفق بالنبي صلى الله عليه وسلم لئلا يحصل التزاحم في بيته.

وبعد هذه التوجيهات جاء الجملة الخبرية وهي قوله: (إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ)؛ لبيان العلة فيما أصدره الله عز وجل من أحكام تتعلق بنبيه صلى الله عليه وسلم فلقد كان تطفل بعض المؤمنين بتحيُّن وقت الطعام عنده صلى الله عليه وسلم ومُكثهم في بيته للسمر والاستئناس أمرًا في غاية المشقة والحرج عليه ق؛ ولأن هذا الأمر لا يتعلق بحقوق الله تعالى بل بحقوقه عليه الصلاة والسلام فقد كان يحتملهم صابرًا لحيائه، ومن ثم تولى المولى عز وجل تأديب المؤمنين ورفع الحرج عنه بإنزال هذه الآية، ولذلك قال فيها: (وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ)؛ لأن إخراج هؤلاء الثقلاء من بيته حق له صلى الله عليه وسلم ولا حياء فيه.

ولانتفاء شعور هؤلاء الثقلاء بما يسببونه من حرج له صلى الله عليه وسلم خوطبوا بالخبر الإنكاري: (إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ)، وهذا من تنزيل غير المنكر منزلة المنكر؛ لكونهم لم يُدركوا أن في أفعالهم أذى له صلى الله عليه وسلم والمؤكدات التي اشتمل عليها الخبر هي: إنَّ، واسمية الجملة، واسم الإشارة، وإقحام (كان) التي تفيد تحقيق الخبر.

وقوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) معطوف على قوله: (لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ)، فهي زيادة بيان للنهي عن دخول البيوت النبوية وتحديد لمقدار الضرورة التي تدعو إلى دخولها أو الوقوف بأبوابها.

وقد أباح الله تعالى سؤالهن فيما تدعو إليه الحاجة كالفُتيا وغيرها؛ لأن الحاجة ماسَّة إلى سؤالهن لكونهن في بيت النبي صلى الله عليه وسلم الذي ينزل فيه الوحي ومنه مصدر التشريع، غير أنه قيَّد ذلك بشرط الحجاب فقال: (فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ)، ثم أردف هذا الأمر بالخبر وهو قوله: (ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) بيانًا للعلة، ولَمَّا كانت أمهات المؤمنين وصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم فوق موضع الظن والريبة، فإن مجيء هذا الخبر فيه إيماء إلى عمومه للأمة صيانة للمجتمع الإسلامي عن الدنس والريب.

ثم يُقَرِّر اللهُ عز وجل حُرْمةَ إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم ونكاح أزواجه من بعده (وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا)، فاستخدمت أشدُّ صيغ التحريم (ما كان لكم) فلفظه النفي ومعناه الحظر والمنع.

ولأن المقام فيه وعيد وتحذير فقد بُولِغ في بيان عظم جرم من تعدَّى حرمات الله بقوله تعالى: (إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا)، ففيه بيان لشناعة مَنْ يقدم على إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم في نفسه وأهل بيته. وقد اشتملت هذه الجملة على جملة من المؤكدات، وهي: (إنَّ، واسمية الجملة، واسم الإشارة، وتكرار الإسناد – حيث تكرر المسند إليه (ذَلِكُمْ) مرة ظاهرًا وأخرى مضمرًا، وتقديم المتعلق (عِنْدَ اللَّهِ))، وهذه المؤكدات – علاوة على إضافة الظرف إلى لفظ الجلالة وتنكير (عَظِيمًا)– مما يدل على تعظيم الله لرسوله وإيجاب حُرْمته حيًّا وميتًا، هذه المنزلة التي تجعله سبحانه وتعالى يتولى الدفاع عنه، حتى تطمئن نفسه فلا يُشغل الرسول صلى الله عليه وسلم بحياته الخاصة ويتفرغ للدعوة.

وقوله تعالى: (إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) كلام جامع، وهو تحريض وتحذير منبئ عن وعد ووعيد، فإن ما قبله قد حوى أمرًا ونهيًا، وإذ كان الامتثال متفاوتًا في الظاهر والباطن وبخاصة في النوايا والمضمرات كان المقام مناسبًا لتنبيههم وتذكيرهم بأن الله مُطَّلِعٌ على كل حال من أحوالهم في ذلك وعلى كل شيء.

وقوله تعالى: (لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا)، استئناف لبيان من لا يجب عليهن الاحتجاب عنه، روي أنه لَمَّا نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب: يا رسول الله، أو نحن أيضا نكلمهن من وراء الحجاب؟ فنزلت، أي: لا إثم عليهن في ألا يحتجبن من هؤلاء، فهو تخصيص من عموم الأمر بالحجاب الذي اقتضاه قوله: (فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) [الأحزاب: 53].

***

تعليقات