التشبيه المرسل فى القرآن الكريم

 التشبيه المرسل فى القرآن الكريم

***

ومنه قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59].

المشبه: خَلْق عيسى عليه السلام، والمشبه به: خَلْق آدم عليه السلام، أداة التشبيه هنا الكاف. و (مَثَل) هنا بمعنى صفة. ووجه الشبه: خلقهما الله عز وجل من تراب – أصلاً – ومن غير أب، ثم قال لكل منهما: كن فكان، وهو خَلْقٌ خارج عن العادة. وغرض التشبيه: بيان إمكان المشبه.

فإن قيل: كيف شبه به وقد وجد هو من غير أب، ووجد آدم من غير أب وأم؟

قيل: هو مثيله في إحدى الطرفين، فلا يمنع اختصاصه دونه بالطرف الآخر من تشبيهه به؛ لأن المماثلة مشاركة في بعض الأوصاف.

ولأنه شُبِّه به في أنه وُجِد وجودًا خارجًا عن العادة المستمرة وهما في ذلك نظيران.

ولأن الوجود من غير أب وأم أغرب وأخرق للعادة من الوجود بغير أب؛ فشُبِّه الغريب بالأغرب؛ ليكون أقطع للخصم وأحسم لمادة شُبْهَته إذا نظر فيما هو أغرب مما استغربه؛ لأن المشبه به ينبغي أن يكون أقوى حالاً من المشبه في وجه الشبه.

فلهذا شبهه الله بخلق آدم الذي هو أعجب من خلق المسيح. فإذا كان سبحانه قادرًا على أن يخلقه من تراب، والتراب ليس من جنس بدن الإنسان، أفلا يقدر على أن يخلقه من امرأة، هي من جنس بدن الإنسان؟!

فالذي خلق آدم من غير أب قادر على أن يخلق عيسى بطريق الأولى والأحرى، وإن صح ادعاء البنوة والإلهية في المسيح فادعاؤها في آدم من باب أولى وأحرى، ومعلوم بالاتفاق أن ذلك باطل فدعواه في عيسى أشد بطلانًا وأظهر فسادًا.

***

ومنه قوله تعالى: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ} [الأنفال: 6].

المشبه: مجادلة الصحابة رضوان الله عليهم في الحق، وهو القتالالمشبه به: حال مَن يُساق إلى الموت وهو ينظر. أداة التشبيه: كأنّ. وجه الشبه: الخوف والفزع، نتيجة السَّوْقِ بالقوة إلى القتل، مع مُشَاهَدة أسباب القتل.

وسبب مجادلة الصحابة: أنهم حين توجَّه بهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى بدر للقاء المشركين، فقالوا لم نخرج للقاء العدو وإنما خرجنا لأخذ العير، وما كـانت هذه المرتبـة من الخوف والجزع، إلا لقلة عددهم، وعدم تأهبهم.

وهذا التشبيه يُبين لنا حال النفس البشرية أمام الخطر المباشر، مما يجعلنا لا نغفل طاقة النفس البشرية وذبذباتها عند المواجهة.

***

ومنه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [يونس: 27].

المشبه: وجوه الكفار وما يعلوها من الذلة والمهانة. المشبه به: قطع الليل المظلم حالكة السواد. أداة التشبيه: كأن. وجه الشبه: سواد الظلام الحالك في الليل وكذلك في ظلمات المعاصي والكفر.

صوَّر الحق سبحانه وتعالى في هذا التشبيه صورة كاملة الوضوح للظلام الحسي والنفسي الذي يغشي تلك الوجوه الكافرة والتي باءت بالكرة الخاسرة، الوجوه التي ركبتها الذِّلة من كل مكان وأحاطت بها.

صوَّر التشبيه الليل الحالك وكأنه قد قُطِّع إلى قطع فُرِّقت ثم أُلقيت على وجوه القوم، إنها ساحة رعب يلفها الظلام وتملأها الرهبة إذا نظرت فيها رأيت وجوه القوم الحائرة الحاسرة وقد ألبست بظلام من ذلك الليل البهيم.

***

ومنه قوله تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 104]

المشبه: طي السماء. المشبه به: طي السجل للكتب. أداة التشبيه: الكاف. وجه الشبه: اللف وجمع الطرفين.

صور الله عز وجل لنا صورة تقريبية لكيفية طيه سبحانه للسماء يوم القيامة فشبه ذلك بكيفية طي صاحب الصحف لأوراقه بجمع أطرافها بعضها إلى بعض. والحقيقة المهمة التي ينبغي أن تعلم من هذا التشبيه ومن غيره من التشبيهات القرآنية الكريمة أنها كلها لتقريب الصورة لذهن السامع وذلك بتشبيه بعض الأمور الغيبية العظيمة التي لم يرها الإنسان، أو لا يستطيع عقله القاصر أن يدرك كنهها ببعض الأمور المحسوسة المعروفة لديه وإلا فهو تشبيه مع الفارق. والطي الوارد هنا يشبه طي الأوراق كما أخبر الله عنه وهو أمر دال على قدرته سبحانه وتعالى.

***

ومنه قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت: 10].

المشبه: فتنة الناس. المشبه به: عذاب الله. أداة التشبيه: الكاف. وجه الشبه: الخوف.

يكشف هذا التشبيه عن حال أولئك المنافقين الذين آمنوا بألسنتهم ولم يدخل الإيمان في قلوبهم فهم يترقبون متربصين، ينتظرون ماذا تخبئ لهم الأيام من أخبار وما قد يتعرضون له من أخطار، فإذا ما تعرضوا لأذى من المشركين أو أصابتهم مصيبة، فتنتهم عن دينهم، فأنهم سرعان ما ينكصون على أعقابهم ويتخلون عن إسلامهم، ويتنصلون من مبادئهم، فيداهنون الكافرين ليظفروا بعرضٍ من الدنيا قليل فباعوا دينهم واشتروا دنياهم، باعوا جنة عرضها السماوات والأرض واشتروا السلامة في الدنيا، فقدموا منهج السلامة على سلامة المنهج.

***

ومنه قوله تعالى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]

المشبه: الجفان (وهي: القصاع التي يُجتمع عليها للأكل منها). المشبه به: الجوابي (وهي: الحياض التي يجمع فيها الماء). أداة التشبيه: الكاف. وجه الشبه: العظم والضخامة.

والغرض من هذا التشبيه هو: بيان نعمته العظيمة التي أعطاها لسليمان عليه السلام وهي تسخير الجن له للعمل بين يديه بما يشاء، حيث كان الجن يعملون له هذه القصاع على هذا المقدار من العظمة لتسع العدد الكثير.

***

ومنه قوله تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34]

المشبه: الذي بينك وبينه عداوة بعد أن تحسن إليه. والمشبه به: الولي الحميم. وأداة التشبيه: كأن. ووجه الشبه: المحبة والمصافاة.

والغرض من التشبيه: الترغيب في مقابلة السيئة بالحسنة، وبيان لأثرها، والوجه محصور في المحبة والمصافاة، والمودة والمؤاخاة؛ إذ لا ينقلب من كان عدوا ليس له قرابة بوجه ما، أن يكون ممن تربطك به قرابة بل المعنى أنه ينقلب في تصرفاته وأفعاله فتكون أفعاله كأفعال القريب الشفيق.

ولما كان الناس في قرابتهم مختلفون قربا وبعدا، ومحبة وموالاة، كان انقلاب أفعال من كانت بينك وبينه عداوة مختلفة من حيث الأثر المترتب على كبر العداوة، ونوع الإحسان المبذول إليه.

ويؤكد هذا جعل الحميم القريب مشبها به، للدلالة على أن الوجه فيه أقوى ممن

انقلبت عداوته إلى موالاة، وبغضه إلى حب.

ومجيء التشبيه بأداته (كأن) الدالة على تأكيد المعنى، للدلالة على أن الإحسان إلى مَنْ كان بينك وبينه عداوة له أثر مباشر في تقليل عداوته، وانقلابها إلى حسن تعامل.

***

ومنه قوله تعالى: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} [الدخان: 43 - 46].

في هذه الآيات تشبيهان:

التشبيه الأول: المشبه: طعام الأثيم وهو ثمر شجرة الزقوم عند أكله. المشبه به: المهل. أداة التشبيه: الكاف. وجه الشبه: الاسوداد وما ينشأ عنه من بشاعة الطعم، والألم والغصص الحاصلة بشربه.

أما التشبيه الثاني: المشبه: طعام الأثيم وهو ثمر شجرة الزقوم بعد أكله. المشبه به: غلي الحميم. أداة التشبيه: الكاف. وجه الشبه: الحرارة والألم والفساد الحاصل بأكله.

المشبه في التشبيهين واحد، وشُبِّه بشيئين مختلفين باعتبار حالين:

ففي التشبيه الأول نجد أنه شبه بالمهل وذلك من جهة الاسوداد، وما ينتج عن ذلك من بشاعة الطعم والغصص والألم الحاصل به.

وفي التشبيه الثاني: نجد أنه شبه بغلي الحميم وذلك بعد أكله؛ فهو يعقب حرارة وغليانا شديدين في البطون كما يغلي الماء الحميم الذي اشتد غليانه وانتهت حرارته، فيجدون ألمه بعد أكله ويُحدث من الضرر والفساد في البطن ما يحدثه الماء الحميم.

ولما كان المقصود من الطعام في الدنيا الانتفاع به ولو كان غير مستساغ الطعم والمذاق، نبه سبحانه على أن طعام الأثيم لا يحصل به ذلك، وكذلك لما كان تشبيه الطعام بالمهل لا يراد منه أن العذاب به أي بالطعام ينتهي بانتهاء أكله كما تنتهي بشاعة طعم المهل والغصص والآلام الحاصلة بشربه، ذكر سبحانه التشبيه الثاني ليدل على استمرار العذاب بهذا الطعام حتى بعد أكله.

وشجرة الزقوم بشع المنظر والطعم فمنظره كرؤوس الشياطين، وطعمه كالمهل، وهو يغلي في البطون، فيحصل العذاب به من عدة جهات: المنظر وحين الأكل وبعده.

***

ويتبع في المقال القادم ذكر باقي شواهد التشبيه المرسل في القرآن الكريم

تعليقات