من بلاغة القرآن في ذكر تقديم مرضاة الرب على رضا النفس

         من بلاغة القرآن في ذكر تقديم مرضاة الرب على رضا النفس

قال تعالى: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [النور: 22]، وهي من الآيات التي تتصل بحادثة الإفك.

وقد نزلت هذه الآية في سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين عرف أن مسطح بن أثاثة – وهو ابن خالته وكان من فقراء المهاجرين – ممن خاض في حديث الإفك، قأقسم ألَّا ينفع مسطحًا بنافعة أبدا، فنزلت هذه الآية تذكِّر أبا بكر وكذا المؤمنين ألا يحلفوا أن يمنعوا البر عن مستحقيه إن كانوا قد أخطأوا.

وجاءت هذه الآية معطوفة على قوله: (لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) [النور: 21]؛ لبيان أن من كيد الشيطان أن يأتي بوسوسة في صورة خواطر الخير إذا علم الشيطان أن الْمُوَسْوَس إليه من الذين يتوخُّون البر والطاعة، وأنه ممن يتعذَّر عليه ترويج وسوسته إذا كانت مكشوفة. وهو من قبيل عطف الخاص على العام، وجيء به للتنبيه على عدم اتباع خطوات الشيطان ما خفي منها وما ظهر.

وجاء التعبير عن سيدنا أبي بكر رضي الله عنه بصيغة الجمع المفيدة للتعظيم في قوله: (أُولُو الْفَضْلِ)، وقوله: (أَلَا تُحِبُّونَ) للإشارة إلى عِظَم فضله، ورِفعة شأنه، وعلوِّ منزلته. قال الرازي: «فانظر إلى الشخص الذي كناه الله سبحانه مع جلاله بصيغة الجمع كيف يكون علو شأنه!» [مفاتيح الغيب (23/188)].

وفي التعبير بقوله: (مِنْكُمْ) إشارة إلى تميزه على المؤمنين بهذه الصفة التي قلَّما تقع لغيره.

والتعريف بـ (أل) في كلمتي (الفضل والسعة) للإشارة إلى أنه جمع كل الفضل وكل السعة.

وحذف المفعول الثاني للفعل (يُؤْتُوا) لإفادة التكثير والتعميم فيما يعطيه.

وفي مجيء الصفات المقتضية للإحسان بطريق العطف في قوله: (أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) تعظيم لأمرها، وإشارة إلى أن كل واحدة منها كافية في الإحسان، فكيف إذا اجتمعت؟ وفي هذا تعطيف لقلب أبي بكر رضي الله عنه على ابن خالته مسطح، ولذلك فإن أبا بكر حين سمع هذه الآية أعاد النفقة إلى مسطح، وقال: (والله لا أنزعها منه أبدا) في مقابل حلفه (والله لا أنفعه بنافعة أبدا).

ثم جاء قوله: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا) معطوفًا على ما قبله للتوسط بين الكمالين، حيث اتَّحدت الجُمَل في الإنشائية مع وجود المناسبة، فهي في النهي عن عدم الإنفاق على المسيئين والأمر بالعفو والصفح عنهم.

وحُذف مفعول الفعل (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا) هنا، وهو الجار والمجرور المقدَّر بـ (عنه)، أي عن أولي القُربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله، وذلك للاختصار، ولتعميم العفو عن هؤلاء وعن غيرهم.

وفي تغيير الأسلوب من الغيبة إلى الخطاب في قوله: (أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ) إشعار برضا الله عز وجل عنهم وإقباله عليهم؛ لأن لذة الخطاب تُنسي كل عتاب، وفيه حثٌّ لهم على قبول العفو والصفح.

و(ألا) تستعمل للعرض والتحضيض، ومعناها: طلب الشيء، لكن العَرْضَ طلب بلين، والتحضيض طلب بِحَثٍّ، وتختص (ألا) هذه بالفعلية، نحو: (أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ).

وجاء قوله: (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) معطوفًا على قوله: (أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ) زيادة في الترغيب في العفو والصَّفح، وتطمينات لنفس أبي بكر الصديق في حنثه، وتنبيهًا على الأمر بالتخلق بصفات الله عز وجل.

***

تعليقات