من بلاغة القرآن في النهي عن إكراه الفتيات على البغاء

 

كان لرأس المنافقين عبد الله بن أُبَيِّ ابن سلول جاريتان من جواريه -مُسَيْكَةُ وأميمة، وقيل: مُسَيْكة ومعاذة -كان يُكرههما على الزنا لضريبة يأخذها منهما.

كان يفعل ذلك في الجاهلية، فلما جاء الإسلام، قالت إحداهما للأُخْرى: إن هذا الأمر الذي نحن فيه لا يخلو من وجهين: فإن يك خيرًا فقد استكثرنا منه، وإن يك شرًّا فقد آن لنا أن ندعه، فلما أخبرا عبد الله بهذا قال لهما: "ارجعا فازنيا"، فقالتا: "والله لا نفعل، فقد جاء الإسلام وحرم الزِّنا". فأتتا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكتا إليه أمرهما، فأنزل الله قوله تعالى: (وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [النور: 33]. وهي جزء من آية، ومناسبته لِمَا ورد قبله وهو قوله: (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) أنه لَمَّا بيَّن اللهُ عز وجل ما يلزم من تزويج العبيد والإماء وكتابتهم أتبع ذلك بالمنع من إكراه الإماء على الفجور.

وهذا الجزء من الآية الذي نزل فيه هاتين الجاريتين فيه نهي عن تجارة الجنس؛ حيث كان هذا الأمر ظاهرة منتشرة في الجاهلية، فكان الرجل الذي يملك مجموعة من الإماء ينصب لهن راية تدل عليهن، ويأتيهن الشباب ويقبض هو الثمن، ومن هؤلاء عبد الله بن أبي ابن سلول رأس النفاق.

وسبب نزول هذا الجزء وإن تمثَّل في حادثة جزئية، أو واقعة بعينها إلا أنه لا يعني أن ما تضمنه محصور فيها، وإنما هو نص على حادثة مُعيَّنة لابست بوقوعها نزول الآية، فنبَّهت إلى أشباه وأمثال ونظائر هذه الظاهرة التي كانت منتشرة.

والفتاة في اللغة: الشَّابَّةُ، والجمع فتيات، ويُكَنَّى بها عن الأَمَةِ، وفي الحديث الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ عَبْدِي وَأَمَتِي كُلُّكُمْ عَبِيدُ اللهِ، وَكُلُّ نِسَائِكُمْ إِمَاءُ اللهِ، وَلَكِنْ لِيَقُلْ غُلَامِي وَجَارِيَتِي وَفَتَايَ وَفَتَاتِي»، فهذه التسمية أكرم لهؤلاء وأرفع، فالفتى من الفتوة والقوة كأنك تقول: هذا قوتي الذي يساعدني ويعينني على مسائل الحياة، وفي التعبير بلفظ الفتاة فيه مُرَاعاة لحالتهن النفسية، وزرع ثقة تفاؤلية لهن، كما فيه تأدُّب مع الله سبحانه وتعالى بأن لا يقال: أمتي، كما أنَّ فيه إشعارًا للولي بانتمائها إليه مما يدفعه إلى صيانتها والمحافظة على عفتها، وعدم إكراهها على البغاء طلبًا للتَّكسُّب.

والبِغَاء: هو الزنى بأُجْرَة، يقال: (باغت الجارية)، إذا تعاطت الزِّنى بالأجر حِرْفَة لها. واشتقاق صيغة الْمُفَاعلة فيه للمبالغة والتكرير، وتُسَمَّى المرأة المحترفة به بغيًّا بوزن فعول بمعنى فاعل، ولذلك لا تقترن به هاء التأنيث.

وجملة: (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا) اعتراضية شرطية، وجواب الشرط محذوف دلَّ عليه ما قبله، أي: إن أردن تحصُّنًا فلا تُكْرهوهنَّ.

ولقد أثار هذا الشرط جدلا طويلا بين العلماء نشأ عن سؤال، وهو: وماذا يكون إذا لم يُرِدْنَ تحصُّنًا؟ أيجوز إكراههن في تلك الحال، فلا ينسحب عليه النهي؟

والجواب: أن الإجماع منعقد على شمول النهي في الحالين: أردن التحصن أم لم يردن، فهو قيد ليس مقصودًا في الحكم، فلا يُراد به تخصيص النهي عن الإكراه بإرادة التعفف، وإنما هو وارد على سبيل عادتهم المستمرة، حيث كانوا يكرهوهن على البغاء وهن يُردن التعفُّف، فجاء النهي مصورًا لحالهم الذي نهوا عنه. وهذا القيد فيه زيادة تقبيح وتشنيع عليهم، فإن من له أدنى مروءة لا يرضى فجور من في رعايته وكفالته، فضلا عن أمرهن به وإكراههن عليه.

وهنا ينشأ سؤال آخر، إذا لم يكن هذا الشرط مقصود إذن فما هي دلالته؟ وما سر اعتراضه بين الفعل المنهي (تُكْرِهُوا) وعِلَّته (لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)؟

وأجاب الإمام ابن كثير عن هذا السؤال بـأنه «خرج مخرج الغالب، فلا مفهوم له»، وذكر الفخر الرازي هذا الجواب أيضًا بعبارة أكثر تفصيلا، فقال: «غالب الحال أن الإكراه لا يحصل إلا عند إرادة التحصُّن، والكلام الوارد على سبيل الغالب لا يكون له مفهوم الخطاب» [مفاتيح الغيب (23/221)]. وذهب الإمام أبو السعود إلى أن الآية نزلت في واقعة معينة كان فيها إكراه الفتيات على الزنى وهن كن يردن التحصن والتعفف [إرشاد العقل السليم (6/173)].

وذكر السعد التفتازاني هذا السؤال وأجاب عنه بقوله: «فإن قيل: تعليق النهي عن الإكراه بإرادتهن التحصن يقتضي جواز الإكراه عند انتفائها أجيب بوجوه، الأول: لا نُسَلِّم أن التعليق بالشرط يقتضي انتفاء المعلق عند انتفائه والاستدلال بأن انتفاء الشرط يوجب انتفاء المشروط؛ لأنه عبارة عما يتوقف عليه وجود الشيء في غاية السقوط؛ لأنه غلط من اشتراك اللفظ إذ لا نُسَلِّم أن الشرط النحوي هو ما يتوقف عليه وجود الشيء بل هو المذكور بعد (إن) وأخواته معلقا عليه حصول مضمون جملة أي حكم بأنه يحصل مضمون تلك الجملة عند حصوله وكلاهما منقول عن معناهما اللغوي، يقال: شرط عليه كذا، إذا جعله علامة، ألا يرى أن قولنا: إن كان هذا إنسانا فهو حيوان، شرط وجزاء، مع أن كونه حيوانا لا يتوقف على كونه إنسانًا ولا ينتفي بانتفائه بل الأمر بالعكس؛ لأن الشرط النحوي في الغالب ملزوم والجزاء لازم. الثاني: أنه لا خلاف في أن التعليق بالشرط إنما يقتضي انتفاء الحكم عند انتفائه إذا لم يظهر للشرط فائدة أخرى، ويجوز أن تكون فائدته في الآية الْمُبَالغة في النهي عن الإكراه يعني إنَّهن إذا أردن العِفَّة فالمولى أحقُّ بإرادتها؛ أو لأن الآية نزلت فيمن يُردن التحصن ويُكْرههن المولى على الزنا. الثالث: بأن لا تكرهوا معناه يحرم الإكراه أو أطلب منكم الكف عن الإكراه، وعند عدم إرادة التحصن تنتفي حرمة الإكراه، أو طلب الكف عن الإكراه ضرورة انتفاء الإكراه حينئذ؛ لأنه إنما يكون على فعل يريد الفاعل نقيضه فعند عدم إرادتهن الامتناع عن الزنا لا يتحقق الإكراه عليه. الرابع: إنا سلمنا أن الآية تدل على انتفاء حرمة الإكراه بحسب الظاهر نظرًا إلى مفهوم المخالفة لكن الإجماع القاطع عارضه، والظاهر يُدْفَعُ بالقاطع» [المطول (ص: 163، 164)].

وأعقب النهي عن إكراه الإماء على البغاء بالتحذير الشديد لمن يرتكبون هذا العمل الشنيع، وهو قوله تعالى: (وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، وهذا كلام مستأنف سيق لتقرير النهي وتأكيد وجوب العمل به ببيان نجاة الْمُكْرَهات من العقوبة ووقع العقوبة على الْمُكْرِهين؛ لأنهن في حالة الإكراه على البغاء يفقدن شرط الاختيار، فلا يتحمَّلن ذنب هذه الجريمة

وفي النهاية فهذا الجزء الوارد في هذه الآية نزل في جاريتين من جواري رأس المنافقين عبد الله بن أبي ابن سلول وأمثاله الذين يتاجرون في عرض إمائهن، فوقف الإسلام له ولأمثاله بالمرصاد، وقضى على ما كان سائدا في عهد الجاهلية من الانحراف والفساد، وفي هذا الجزء من الآية يفضح اللهُ فيه عز وجل عبد الله بن أُبَيِّ ابن سلول مدبر حادثة الإفك، فقد ضُبِطَ مُتَلَبِّسًا بجريمة التجارة بالجنس فقد كان يقوم بإكراه إمائه على البغاء ابتغاء ما يعود عليه من أموال، وهنَّ كُنَّ يردن العفاف، ولعل هذه الفضيحة لرأس المنافقين تكون من باب انتقام الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم.

***

تعليقات