من بلاغة القرآن في ذكر خصائص النبي صلى الله عليه وسلم في أحكام النكاح

 

وردت خصائص النبي صلى الله عليه وسلم في أحكام النكاح في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا * لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا) [الأحزاب: 50 - 52].

ومناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنه لَمَّا بَيَّن الله عز وجل بعضُ أحكام أنكحة المؤمنين أتبعه بذكر ما اخْتُصَّ به النبي صلى الله عليه وسلم عن سائر المؤمنين في مسائل النكاح، وهذه الآيات جاءت تستثني النبي صلى الله عليه وسلم من التحديد المذكور في قوله: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ) [النساء: 3]؛ لأنه لما نزلت آية التحديد في سورة النساء أرسل الصحابةُ رضوان الله عليهم ما زاد على هذا العدد من بين نسائهم، وقد مَنَّ اللهُ على أُمَّهات المؤمنين، وأكرمَ رسوله باستثنائه من هذه القاعدة، فلم يقض الله عليهن بمفارقة بيت النبوة بعد ما شرَّفهن بذلك.

بدأت الآيات بنداء النبي صلى الله عليه وسلم وهذا النداء في شأن خاص به صلى الله عليه وسلم وهو بيان ما أُحِلَّ له من الزوجات والسراري وما يزيد عليه وما لا يزيد مما بعضه، فهو تقرير لتشريع له سابق وبعضه تشريع له للمستقبل، ومما بعضه يتساوى فيه النبي عليه الصلاة والسلام مع الأُمَّة، وبعضه خاصٌّ به أكرمه الله بخصوصيته مما هو توسعة عليه، أو مما رُوعي في تخصيصه به عُلُوِّ درجته صلى الله عليه وسلم.

وإسناد أمر التحليل والتحريم إلى الله عز وجل فهو الذي يملك هذا الأمر، وأن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ليس له في هذا الأمر شيءٌ، فالله عز وجل هو الذي زوَّجه زينب، وهو الذي أحل له الأزواج المذكورات، وليس عليه صلى الله عليه وسلم إلا أن يمتثل لهذا الأمر، وهذا البناء الذي أكدته (إن) وبناء الخبر الفعلي على المسند إليه يحقق هذا المعنى، ويجرد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من الرغبة والفعل في هذا المقام.

ووجه هذا التشريع الخاص بالنبي صلى الله عليه وسلم أن مقامه في هذه الجماعة ربما يكون فيه شيء من الحرج لو ضُيِّق عليه في المصاهرة، وعدد الأزواج.

وجاء تقرير ما هو مشروع له قبل ذلك، فقد أيبح للرسول صلى الله عليه وسلم أصناف ثلاثة له أن يتزوج بهن:

الأول: أزاوجه اللاتي آتاهن أجورهن، وإضافة أزواج إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم تفيد أنهن الأزواج اللاتي في عصمته، فيكون الكلام إخبارًا لتقرير تشريع سابق ومسوقًا مساق الامتنان، وتمهيدًا لِما سيتلوه من التشريع الخاص بالنبي صلى الله عليه وسلم ويؤيد هذا التعبير بصيغة الماضي.

والثاني: ملك اليمين، وهو ما أعطاه الله من الفيء مثل مارية القبطية أم ابنه إبراهيم فقد أفاءها الله عليه إذ وهبها إليه المقوقس صاحب مصر، وإنما وهبها إليه هدية لمكان نبوته فكانت بمنزلة الفيء.

الثالث: نساء من قريب قرابته صلى الله عليه وسلم من جهة أبيه، وهُنَّ بنات عمِّه، وبنات عمَّاته، أو من جهة أمه، وهُنَّ بنات خاله، وبنات خالاته، بشرط الإيمان والهجرة، وهذا الشرط لم يكن مشروطًا من قبل.

فأباح الله للنبي عليه الصلاة والسلام أن يتزوج مَنْ يشاء من نساء هذا الصنف بعقد النكاح المعروف، وليس له أن يتزوج في المستقبل امرأة من غير هذا الصنف المشروط بشرط القرابة بالعمومة أو الخؤولة وشرط الهجرة، والمرأة التي لم تستوف هذا الوصف لا يجوز للرسول عليه الصلاة والسلام تزوجها

وأما تشريع ما لم يكن مشروعًا قبل ذلك، جاء في أمرين:

الأول: حلُّ نكاحه صلى الله عليه وسلم عن طريق أن تهب المرأة نفسها له، بشرط موافقته، وهو أمر خاص به صلى الله عليه وسلم لا يجوز لغيره.

والثاني: أن الله عز وجل فوَّض إليه صلى الله عليه وسلم أمر الواهبات أنفسهن إليه في الإيواء والإرجاء، وكذلك أمر القَسْم بين زوجاته، فقال تعالى: (تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا)، فرفع الله عز وجل الحرج عنه صلى الله عليه وسلم وترك له الخيار في أمر الواهبات من حيث قبول من يشاء، أو إرجاء قبولها، وله أن يؤويها إليه بعد هذا الإرجاء، وكذلك في حياته مع نسائه، فله أن يؤوي إلى فراشه من يشاء، وأن يرجئ من يشاء، فوسَّع الله على نبيه صلى الله عليه وسلم بأن أباح له أن يسقط حق بعض نسائه في المبيت معهن فصار حق المبيت حقًّا له لا لهن بخلاف بقية المسلمين.

وقوله تعالى: (لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا) [الأحزاب: 52]، قصر الله عز وجل بهذه الآية رسولَه صلى الله عليه وسلم على أزواجه التسع اللائي كُنَّ في عصمته صلى الله عليه وسلم في هذا الوقت، وحرَّم عليه الزواج من امرأة أخرى حتى لو أعجبه حُسنها، كما حرم عليه أن يطلق إحداهن ليتزوج غيرها ممن أعجبنه، ثم استثنى السراري من هذا الحُكْم بقوله: (إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ)، فهذا الحكم خاص بالحرائر فقط. وهذه الآية من باب التكريم لنساء النبي صلى الله عليه وسلم فهن قد اخترن الله ورسوله؛ لذلك حرَّم الله على رسوله النساء سواهن، ونهاه عن تطليقهن، وعن استبدالهن بغيرهن؛ شُكْرًا لهن على حُسن صنيعهنَّ.

وبناء (بَعْدُ) على الضَّمِّ يوضح أنه قُطِعَ عن الإضافة، ويقتضي مضافًا إليه محذوفًا، وفي تعيين المضاف إليه احتمالان، الأول: من بعد التسع اللائي في عصمته صلى الله عليه وسلم، والثاني: المراد من بعد اليوم، أي: يبدأ التحريم من يوم نزول هذه الآية. وربما القول بأن المراد من بعد التسع هو الأقرب، ولذلك ليكون لقوله: (وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ) محل يرد فيه؛ لأننا لو قلنا: لا يحلُّ لك النساء من بعد اختيار الله ورسوله، أو من بعد اليوم، لكان ذلك قاضيًا بتحريم التبديل أيضًا؛ لأن المرأة التي هي بل واحدة منهن داخلة ضمن النساء اللاتي يحللن له، وإذا كان المراد التِّسع، فقد يتوهم جواز أن يستبدل بهن، فجاء قوله: (وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ) لنفي هذا التوهم، والله أعلم بمراده.

وقوله تعالى: (وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ) وارد مورد الإلهاب والإثارة، حتى تندفع النفس نحو أمر الله، فالله سبحانه وتعالى يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لن يتزوج بعد ذلك، وأنه لم يكن يتعلق بحسن النساء تعلُّقًا يُبيح لنفسه أن يخالف أمر ربه في قوله: (لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ)، وفي هذا الإلهاب إشارة إلى بشرية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وأنه أحد المربوبين لله عز وجل.

ثم استثنى السراري من هذا الحُكْم بقوله: (إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ)، فهذا الحكم خاص بالحرائر فقط.

ولَمَّا أمر تعالى في هذه الآيات بأشياء ونهى عن أشياء وحدَّ حدودًا حذَّر من التهاون بشيء منها ولو بنوع تأويل بقوله تعالى: (وَكَانَ اللَّهُ) أي: الذي لا شيء أعظم منه وهو المحيط بجميع صفات الكمال (عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا) أي: حافظًا عالِمًا بكل شيء قادرًا عليه، فتحفَّظوا أمركم ولا تتخطوا ما حدَّ لكم، وهذا من أشد الأشياء وعيدًا.

***

تعليقات