من بلاغة القرآن الكريم في حديثه عن أبي لهب
من بلاغة القرآن الكريم في حديثه عن أبي لهب :أبو لهب هو عبد العُزَّى بن عبد الْمُطَّلِب أحد أعمام الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد ناصب العداء لرسول الله صلى الله عليه وسلم فكان بئس العمِّ وبئس الجار، لم يكتف بتخاذله عن نُصْرَةِ ابن أخيه وحمايته، بل عاداه وحاربه، واجتهد في صَدِّ الناس عنه.
وسبب عداوته للنبي صلى الله عليه وسلم هي الغيرة والحسد، حيث أدرك أن دعوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ستضره كثيرًا، فقاومها، وشدَّد في الْمُقَاومة هو وامرأته.
وقد مات أبو لهب على الشِّرك بعد سبع ليال من غزوة بدر التي تخلَّف عنها، ويقال بأنه مات بقرحة نتنة أبعدت الناس عنه، ويقال مات بالطاعون.
وقد ذُكِرَ أبو لهب في القرآن الكريم
في موضع واحد في سورة خاصَّة سُمِّيت سورة المسد: ﴿تَبَّتْ
يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ *
سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي
جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ﴾ [المسد: 1 -
5].
وقد نزلت هذه السورة للردِّ على هذه
الحرب الْمُعلنة من أبي لهب وامرأته، وبيَّنت أن الله عز وجل هو الذي تولَّى أمر الدفاع
عن رسوله صلى الله عليه وسلم.
وبُنِيت سورة المسد على الأسلوب الخبريّ، فلم يكن فيها أيٌّ من الأسلوب الإنشائي الطلبي أو الإنشاء غيرِ الطلبيّ، وهذا يتلاءم مع ما تحققه السورة من الإعجاز بالإنباء بالغيبِ.
وافتُتحت السورةُ بالتَّبَابِ، وهو: الخُسْران
والهلاك، وافتتاح السورة بالتَّبَابِ مُشْعِرٌ بأنها نزلت لتوبيخٍ ووعيدٍ يُؤْذِنُ
بالذمِّ والزَّجْرِ، ففيها براعة استهلال.
بيَّن الله -عز وجل- في افتتاح السورة
مصير أبي لهب في الآخرة بأنه سيصلى نارًا ذات لهب، وقد حصل لأبي لهب وَعِيدٌ مُقْتَبَس
من كُنْيته.
بدأت السورة بقوله: ﴿تَبَّتْ
يَدَا أَبِي لَهَبٍ﴾ وهو خبر الغرض
منه الدعاء، وجاء التعبير بالفعل الماضي ﴿تَبَّتْ﴾ مع أن الحدث
لم يكن قد وقع؛ لتأكيد هلاك أبي لهب فكأنَّ هلاكه قد تحقق، والله يخبر عنه إخبارًا.
وإسنادُ التَّبِّ إلى اليدين في قوله:
﴿تَبَّتْ
يَدَا أَبِي لَهَبٍ﴾ مجاز عقلي
علاقته السببية؛ لأنَّهُمَا كان السبب في إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم. وقد
يكون مجازًا مرسلا علاقته الجزئية حيث أطلق اليد وأراد كل الجسد؛ لأنه إذا هلكت
اليد التي هي سبب الفعل فقد هلك صاحبها.
وسر التعبير عن اليد بالْمُثَنَّى أنه
لَمَّا كانت اليد محل قُدْرَة الإنسان، فإذا اختلَّت اختلَّ أمره، فكيف إذا حصل
الخلل في يديه جميعًا، مُشِيرًا بالتثنية إلى عُمُوم هلاكه بأنَّ قُوَّته لم تُغْنِ
عنه شَيْئًا، ولأن التثنية يُعَبَّر بها عن النفس.
والتكنية يكون استخدامها غالبًا للتكرمة، إلا أن أبو لهب ذُكِرَ هنا بكُنْيته؛ لاشتهاره بهذه الكنية؛ أو لأن اسمه عبد العُزَّى، فاستكره أن يذكر باسمه هذا في القرآن الكريم؛ لما فيه من الشِّرْك، أو لأنه لَمَّا كان من أهل النار ومآله في الآخرة إلى النار وهي ذات لهب ذُكِرَ بكُنْيَته ليُوَافق حاله كُنيته، فجاءت التكنية هنا في سياق الذم للتهكُّم والسخرية.
وقوله: ﴿وتَبَّ﴾ إِمَّا أن
يكون معطوفا على قبله، فيكون من عطف الدعاء على الدُّعاء، فأعيد الدعاء في الثانية
على جميعه إغلاظًا له في الشَّتم والتقريع، وتفيد بذلك تأكيدًا للجملة الأولى.
وإما أن تكون جملة ﴿وتَبَّ﴾ في موضع الحال،
والواو واو الحال، وفي هذه الحالة لا تكون دعاء، إنما هي إِخْبَارٌ بتحقيق حصول ما
دُعِيَ عليه به، وعبَّر عنه بالماضي لتحقُّقِهِ.
وقوله: ﴿مَا
أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ﴾ استئناف بياني،
وفُصِلَ بين هذه الآية والآية السابقة عليها لشبه كمال الاتصال، فهو جواب سؤال تقديره:
ألا يغنيه ماله وكسبه؟ فهو آيِسٌ من النَّجاة من هذا التباب، فلا يُغْنِي ماله ولا
كَسْبه في دَفْعِ شيء عنه في الآخرة.
و(ما) إما أن تكون نافية للإغناء، وإما
أن تكون (ما) استفهامية ويُرَاد بها المعنى المجازي الْمُتَمَثِّل في الإنكار
والتوبيخ، فهو استفهام إنكاري توبيخي.
وفي التعبير بالفعل: ﱹأَغْنَىﱸ إيجاز بالحذف،
فقد حذف مفعوله والتقدير: (ما أغنى ماله عن تعذيبه)، أو (ما أغنى ماله في القضاء
على دين الله)، والغرض البلاغي لهذا الحذف هو الاختصار والتعميم. وجاء التعبير
بالماضي لتحقيق وقوع عَدَم الإِغْنَاء وتوكيده، فهو قد تَمَّ وحصل ذلك الهلاك في
الدنيا قبل الآخرة.
والمال هنا اسم جنس، أي: جنس أمواله،
والإضافة على معنى اللام، وهي تعني أن المال في يد أبي لهب وحده، لم يملكه أحدًا،
ولم يتركه لغيره، فهو له على وجه التفرُّد والسيطرة.
والمراد بقوله: ﴿وَمَا
كَسَبَ﴾، أي: ما يملكه
من غير النعم من نقود وسلاح وعروض وطعام. ويجوز أن يُرَاد بماله: جميع ماله، وعليه
يكون عطف قوله: ﴿وَمَا
كَسَبَ﴾ من ذِكْرِ
الخاص بعد العام؛ للاهتمام به، أي: ما أغنى عنه ماله التَّالد وهو ما وَرِثَه عن
أبيه عبد الْمُطَّلب وما كسبه هو بنفسه وهو طريقه.
وهنا إيجاز بالحذف، حيث ترك المفعول
به ولم يظهره، لتذهب النفس في تصوره كل مذهب، فالمراد به الإطلاق والتنويع لكل ما
كسبه دون تعيين، فالآية شاملة لكل ما كسبه.
وقوله: ﴿سَيَصْلَى
نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ﴾ بيان لقوله: ﴿مَا
أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ﴾، أي: لا يُغْنِي عنه شيء من عذاب
جهنم. وهو أسلوب توكيد، أداته السين التي هي من مُؤَكِّدات الجملة الفعلية، أي:
أنه سيدخل النار حتمًا، واستخدام السين دون (سوف)؛ لبيان الإسراع في دخوله النار
وعدم تأخره عنها.
وعبر بالْمُضَارع في ﴿سَيَصْلَى
نَارًا﴾؛ ليُفيد استمرار
صلائه ودخوله النار وعدم خروجه منها، وأن ذلك حاصل وحتم لازم، قد كتبه الله عليه.
والتنكير في لفظ ﴿نَارًا﴾ لبيان عِظمها
وجسامتها وخطورتها وكبرها، وهي اسم جنس، أي: نيرانًا، أو التنكير للنوعية.
ووُصِفَت هذه النَّار بكونها ﴿ذَاتَ
لَهَبٍ﴾ تصويرًا وتشخيصًا
للنَّار وإيحاء بتوقُّدها وتلهُّبِهَا. ووُصِفت النَّار بذلك أيضًا لزيادة تقرير
الْمُنَاسبة بين كُنْيَته وبين عذابه، فكُنْيَته أبو لهب وعذابه نار ذات لَهَب، وفي
وصف النَّار بذلك زيادة كَشْفٍ لحقيقة النار، وهو مثل التأكيد.
ولَمَّا كان المقصود شِدَّة نكايته
بأشد ما يكون من الحرارة كما أحرق أكباد الأولياء، وكانت النَّارُ قد تكون جَمْرًا
ثم تَنْطَفِئ عن قُرْبٍ جاء قوله: ﴿ذَاتَ لَهَبٍ﴾، أي: لا تَسْكُن ولا تخمد أبدًا؛ لأن
ذلك مدلول الصحبة الْمُعَبَّر عنها بـ ﴿ذَاتَ﴾ وذلك بعد موته، والإضافة فيه
على معنى اللام، فكأنها تـَمْلِكُ اللَّهب، فهو مِلْك لها لا يُفَارقها، ومن ثمَّ
فاللهب لا يُفَارِقُ أبا لهب.
والتنكير في لفظ ﴿لَهَبٍ﴾ للتهويل، فنار
الله ولهيبها لا تخلوان من هول؛ لذلك جاء التنكير ليُؤَكِّد هذا الهول. وبين لفظ (لهب)
في قوله: ﴿تَبَّتْ
يَدَا أَبِي لَهَبٍ﴾ و(لهب) في
قوله: ﴿ذَاتَ
لَهَبٍ﴾ جناس تام.
بينت هذه الآيات أن أبا لهب الذي وقف في
وجه الدعوة الإسلامية وحاك المكائد والمؤامرات طول حياته ضد رسول الله صلى الله
عليه وسلم والإسلام والمسلمين، قد خاب سعيه، وباءت محاولاته كلها بالفشل، فما أغنى
عنه ماله، ولا ما اكتسبه هو، وما كان لأولاده الذين يفخر بهم يدٌ في نجاته، وأن
مصيره هو الهلاك والخسران.
***