من بلاغة النظم القرآني في آيات فرض الحج الواردة في سورة آل عمران

              من بلاغة النظم القرآني في آيات فرض الحج الواردة في سورة آل عمران

  من بلاغة النظم القرآني في آيات فرض الحج الواردة في سورة آل عمران :  الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد: فمن رحمة الله تعالى التي وسعت كل شيء أن كَتَب علينا عِبادَته والاستقامةَ على سبيله، تشريفًا في صورة التكليف، وإِنْعَامًا في هيئة الإلزام، وتربيةً وترقِيَة وعطاءً، فله الحمد وله الشكر، ومن ذلك أن كتب علينا حج بيته الحرام.

والحج هو قصد مكةَ لأداء عبادة الطواف وسائر المناسك في أشهر الحج استجابة لأمر الله وابتغاء مرضاته، وهو أحد أركان الإسلام الخمسة، وهو فرض معلوم من الدين بالضرورة.

ولأداء لحج فضل عظيم، روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنْ حَجَّ هَذَا البَيْتَ، فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» رواه البخاري وأحمد والنسائي وابن ماجه.

ونتحدث في هذا المقال عن بلاغة النظم القرآني في آيات فرض الحج الواردة في سورة آل عمران وتحليلها تحليلًا بلاغيًّا يكشف عن أسرارها ويساعدنا على تدبر القرآن الكريم.

وقد رد الحديث عن عبادة الحج وفرضه في سورة آل عمران في قوله تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ ۝ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: 96، 97]. حيث استدل العلماء بالآية الثانية من هاتين الآيتين على فرضية الحج.

وقد بدأت الآية الأولى منهما بالتوكيد بإن، واسمية الجملة، واللام الداخلة على خبرها، والتأكيد هنا لمجرد الاهتمام وليس لردِّ إنكار منكر، أو شك شاك. والكلام الوراد في هذه الآية واقع موقع التعليل للأمر الوارد في الآية السابقة عليها وهي قوله تعالى: ﴿فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾ [آل عمران: 95]؛ لأن هذا البيت المنوه بشأنه كان مقامًا لإبراهيم، ففضائل هذا البيت تحقق فضيلة شرع بانيه في مُتَعارف الناس، فهذا الاستدلال خطابي، وهو أيضًا إخبار بفضيلة الكعبة، وحُرْمتها فيما مضى من الزمان.

وأوَّلُ: اسم للسابق في فعلٍ مّا، فإذا أضيف إلى اسم جنس فهو السابق من جنس ذلك المضاف إليه في الشأن المتحدث عنه.

والبَيْتُ: بِنَاءٌ يأوي واحدًا أو جماعة، فيكون بيت سُكْنَى، وبيت صلاة، وبيت ندوة، ويكون مبنيًّا من حَجَرٍ أو من أثواب نسيج شعر أو صوف، ويكون من أدم فيُسَمَّى قُبَّة.

وحذف فاعلُ الفعل ﴿وُضِعَ﴾ للعِلْم به، وهو الله -عز وجل- مقرر الشرائع، ومنها: حج البيت الحرام. ومعنى: (وُضِعَ) أي: أُسِّسَ وأُثْبت، ومنه سمي المكان موضعًا. وأصل الوضع أنه الحط ضد الرفع، ولما كان الشيء المرفوع بعيدًا عن التناول، كان الموضوع هو قريب التناول، فأطلق الوضع لمعنى الإدناء للمُتَنَاول، والتهيئة للانتفاع.

وفي قوله: ﴿لَلَّذِي بِبَكَّةَ إيجاز بالحذف، فتقدير الكلام (لَلْبَيْتِ الَّذِي بِبَكَّة). وفي حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه إشعارٌ بنباهة ذكره وعظم شأنه فهو غني عن التعريف.

ولفظ (بكة) لغة في مكة بإبدال الميم باء، وسميت مكَّة؛ لأنها قليلة الماء، تقول العرب: (ملك الفصيل ضِرْعَ أُمّه وأَمَكَّهُ) إذا امتصَّ ما فيه من اللبن. وسُميت بذلك؛ لأنها تمكُّ الذنوب، أي: تمحوها وتزيلها. أما (بكة) فقد سُمِّيت بذلك؛ لأنها تبكُّ أعناق الجبابرة، أي: تُذلهم وتُهْلِكهم. وقيل: من (بَكَّه) إذا زحمه، سميت بذلك لازدحام الناس فيها.

وعُدِلَ عن تعريف البيت باسمه العلم بالغلبة، وهو (الكعبة)، إلى تعريفه بالموصولية بأنه ﴿لَلَّذِي بِبَكَّةَ﴾؛ لأن هذه الصلة صارت أشهر في تعينه عند السامعين، إذ ليس في مكة يومئذ بيت للعبادة غيره، بخلاف اسم الكعبة: فقد أُطْلِق اسم الكعبة على القليس الذي بناه الحبشة في صنعاء لدين النصرانية ولقبوه الكعبة اليمانية. والمقصود إثبات سبق الكعبة في الوجود قبل بيوت أخر من نوعها. وظاهر الآية أن الكعبة أول البيوت المبنية في الأرض؛ لذا كان الاختيار الأفصح (بكة) لأهمية هذا المكان ولخصوصية ما يتعلق به من أحكام، واختيار هذا اللفظ عند ذكر كونه أول بيت من إعجاز القرآن الكريم.

وقوله: ﴿وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾ وصف البيت بالمصدر (هدًى) مبالغة؛ لأنه سبب الهُدَى، وجعله هدى للعالمين كلهم؛ لأن شهرته وتسامع الناس به يحملهم على التساؤل عن سبب وضعه، وأنه وُضع لتوحيد الحي الذي لا يموت، وتطهير النفوس من الشرك، فيهتدي بذلك المهتدي.

وقوله: ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ﴾ تقدم متعلق الخبر (فيه) وحقه التأخير، وقد أفاد هذا التقديم الحصر والتوكيد.

وقوله: ﴿مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾ تفصيل بعد إجمال، فقد ذكرت الآيات أوَّلًا مُجْمَلة في قوله: ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ﴾، فأثارت انتباه السامع، فتساءل: ما هي هذه الآيات البينات؟، فجاء الجواب: ﴿مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾. ورفع (مَقَامُ) على أنه خبر لضمير محذوف يعود على للذي ببكة، أي هو مقام إبراهيم، أي البيت الذي ببكة، والمراد به: الحجر الذي فيه أثر قدمي إبراهيم- عليه السلام- في الصخرة التي ارتقى عليها ليرفع جُدْرَان الكعبة.

والحق سبحانه وتعالى ذكر أن هذا البيت اشتمل على آيات بينات، ولكنه سبحانه لم يذكر إلا آية واحدة وهي مقام سيدنا إبراهيم عليه السلام وطوى ذكر غيره من الآيات إمَّا لكونها معلومة مشهورة، فيجعل المستمع يُعمل فكره في استنتاجها، هذا على احتمال أن في الكلام حذف، وقد لا يكون فيه حذف، ويكون تبيين الجمع -وهو: ﴿آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ﴾ -بالمفرد -وهو: ﴿مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾ -لأن هذا المفرد في قُوَّةِ جماعة من الآيات؛ لأن أثر القدم في الصخرة الصماء آية، وغوصه فيها إلى الكعبين آية، وإلانة بعض الصخر دون بعض آية، وبقاء ذلك الأثر مع تلاشي آثار كثيرة في طيلة القرون آية أيضًا.

وقوله: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ خبر أريد به الإنشاء، فهو خبر مستعمل في الأمر بتأمين داخله من أن يصاب بأذى، وتقدير الكلام: فأمنوه، وإيراد الأمر بصيغة الخبر يزيده توكيدا، فكأنه واقع يخبر عنه، لا أمر يطلب إنشاؤه.

وقوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾ أفاد تقديم الجـار والمجـرور "الله" التّوكيـد والحصر والتّخصيص، فالحج فريضة عظيمة الله تعالى جعلها دائمة في أعناق النّاس ما استطاعوا إليه سبيلا، فالحج حق واجب في رقاب الناس لا ينفكون عن أدائه والخروج من عهدته. وإيثار صيغة الخبر وإبرازها في صورة الجملة الاسمية الدالة على الثبات والدوام على وجه يُفيد كذلك أنه حقّ الله تعالى فـي رقاب العباد وفرض واجب لا يسقط على الإطلاق.

واللام في قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾ للاستحقاق، فله وحده -عز وجل- تكون العبادة سواء أكانت بدنية، كالصلاة، أم مالية كالزكاة، أم مُركَّبة من كليهما كالحج.

وقوله: ﴿عَلَى النَّاسِ﴾ (الناس): هنا لفظ عام أريد به خاص وهم المؤمنون، وهذا لمن يقول بأن الكفار غير مخاطبين بفروع الشريعة، فيكون مجازا، إذ أطلق الكل وأراد البعض، بخلاف من قال بأن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة وبما لا تصح إلا به من أصول الدين، فالعموم عنده محفوظ لم يدخله تخصيص.

وقوله: ﴿حِجُّ الْبَيْتِ﴾ من إضافة الفعل إلى المفعول، والمقصود زيارته زيارة عظيمة مقدسة دون أذى لقاصـديه أو القائمين عليه، وقد عبَّر هنا بالبيت لأنّه فيه الزيارة، وعادة العرب زيارة معاهد الأحباب وأطلالهم وأماكنهم.

وقوله: ﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ لتقييد حال الوجوب، بيان لمجمل الأمر، فإنه قد ورد عامًّا، ثم خص ببدل بعض من كل، فحصل بيان عمومه، وفي هذا من الامتنان على العباد ما فيه؛ لأن الأمر قد طرق سمعهم أول الأمر: عامًّا، ثم حصل التخفيف باشتراط القدرة، فهدأت نفوس الفقراء والمرضى ممن لا يقدرون على امتثاله، بعد اضطراب، بخلاف ما لو ورد الأمر خاصًّا من أول الأمر، فإن العباد لن يستشعروا مِنَّة الله، عز وجل، عليهم، بالتخفيف عن غير القادر ببدنه أو ماله.

والسبيل هنا مجاز فيما يتمكَّن به الْمُكَلَّف من الحج، فالسبيل هو القُدْرَة، والناس على قدر طاقتهم وسيرهم وجلدهم.

وقوله: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ المراد بـ (مَنْ كَفَر) أي: مَنْ لم يحج مع الاستطاعة، والإخبار عنه بالكُفْر هنا تغليظٌ لأمر ترك الحج، والمراد كُفْر النعمة. ويجوز أيضًا أن يراد تشويه صُنْعه بأنه كصنيع مَنْ لا يؤمن بالله ورسله وفضيلة حَرَمه.

وفي قوله: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ احتراس، لئلا يتوهم أحد أن الله -عز وجل- قد فرض الحج افتقارًا إلى مؤديه، فالله -عز وجل- هو الغني عن خلقه، ومَنْ سواه مُفْتَقِرٌ إليه إيجادًا وإعدادًا وإمدادا بعطاء الربوبية العام وعطاء الألوهية الخاص الذي امتن به على عباده الموحدين، ولا منة أعظم من منة الإسلام.

***

وفي الختام ندعو الله عز وجل أن يرزقنا الله وإياكم حج بيته الحرام والمشاعر المقدسة، وزيارة نبينا عليه الصلاة والسلام، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وسلم تسليما كثيرًا طيبا مباركا فيه.

***

تعليقات