كتاب مجاز القرآن لأبي عبيدة مَعْمَرُ بن الْمُثَنَّى
مجاز القرآن لأبي عبيدة معمر بن المثنى
وقد عرض أبو عبيدة في كتابه "مجاز القرآن" للكثير من المسائل البلاغيّة وخاصّة المتعلّقة منها بعلم البيان، وكشف أن الكثير من المسائل تتخفّى وراء المجاز، وأظهر أنَّ له قدم راسخة في مجال البحث البلاغي بما يؤهّل كتابه ليكون باكورة الدّرس البلاغي، ولم يستفد أبو عبيدة من تجارب سابقة في مجال البحث البلاغي وأغلب القضايا التي وردت فيه كانت من مبتكراته، ولذلك حُقّ لهذا الكتاب وهذا المصنِّف أن ينالا الحُظوة التي نالاها.
وأبو عبيدة هو مَعْمَرُ بن الْمُثَنَّى، التيمي بالولاء، تيم قريش، أو تيم بني مُرَّة، على خلاف بين العلماء، وهو على القولين معًا مولى لتيم، وهو من أئمة العلم بالأدب واللغة.
وقد اختلفوا في مولده، ولعل الأقرب إلى الصحة أنه ولد سنة 110هـ. ولم تذكر المراجع مكان ولادته ومع ذلك فهي تضمه في عداد علماء البصرة، فلعله وُلِد بها.
وبعد أن اكتمل نضجه العلمي ارتحل إلى بغداد في سنة ثمانية وثمانين ومائة حيث جالس الفضل بن الربيع وجعفر ابن يحيى وسمعا منه.
وله مؤلفات كثيرة نحو 200 مؤلف، منها: (نقائض جرير والفرزدق)، (مجاز القرآن)، (العققة والبررة)، (مآثر العرب)، (المثالب)، (فتوح أرمينية)، (ما تلحن فيه العامة)، (أيام العرب).
وتكاد تتفق كلمة المؤرخين على أن أبا عُبيدة كان من الخوارج، وأنه كان يكتُم ذلك ولا يُعلنه.
توفي أبو عبيدة بين سنتي 209 ه، و213 هـ على خلاف بين العلماء في تحديد سنة وفاته، وقد عمَّر، وقال المؤرخون بأنه لم يحضر جنازته أحد؛ لأنه كان شديد النقد لمعاصريه.
وتذكر المصادر أن السبب الداعي إلى تأليف أبي عبيدة لكتابه "مجاز القرآن" أن الفضل بن الربيع استقدم أبا عبيدة إلى بغداد سنة 188 ه، فلقي عنده إبراهيم بن إسماعيل الكاتب، وهو أحد كُتاب الوزير وجُلسائه، فسأل أبا عبيدة عن معنى قوله تعالى: ﴿طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ﴾ [الصافات: 65]، فأجابه أبو عبيدة بقوله: إنما يقع الوعد والإيعاد بما عُرِف مثله، وهذا لم يُعْرَف، وإنما كلَّم الله تعالى العرب على قَدْرِ كلامهم، أما سَمِعت قول امرئ القيس:
أَيَقْتُلُنِي والْمَشْرَفِيُّ مُضَاجِعِي ومَسْنُونَةٍ زُرْقٍ كَأَنْيَابِ أَغْوَالِ
وهم لم يروا الغول قط، ولكنهم لما كان أمر الغول يهُولُهم أَوْعَدُوا به. فاستحسن الفضلُ ذلك واستحسنه السائلُ، وعزمتُ من ذلك اليوم أن أضع كتابًا في القرآن في مثل هذا وأشباهه وما يحتاج إليه من علمه، فلما رجعت إلى البصرة عملت كتابي الذي سميته المجاز.
ومهما كان الداعي إلى تأليف هذا الكتاب فقد كان أبو عبيدة يرى أن القرآن نص عربي، وأن الذين سمعوه من الرسول صلى الله عليه وسلم ومن الصحابة رضوان الله عليهم لم يحتاجوا في فهمه إلى السؤال عن معانيه؛ لأنهم كانوا في غنى عن السؤال ما دام القرآن جاريًا على سَنن العرب في أحاديثهم ومُحاورتهم، وما دام يحمل كل خصائص الكلام العربي من زيادة وحذف وإضمار واختصار وتقديم وتأخير.
ومن هنا فسَّر القرآن وعُمدته الأولى الفقه بالعربية وأساليبها واستعمالاتها، والنفاذ إلى خصائص التعبير فيها.
ولم يقصد أبو عبيدة بلفظ "المجاز" في كتابه ما اصطلح عليه علماء البلاغة بعده بأنه ما كان ضد الحقيقة، بل أراد به مدلول الكلمة سواء أكان حقيقة أو غير حقيقة، وأبان فيه عن طريقة الوصول إلى فهم معاني القرآن باحتذاء أساليب العرب في الكلام، وسننهم في طرق الإبانة عن المعاني ووسائلها عندما تبيّنت له حاجة النَّاس إلى ذلك.
إن أبا عبيدة يستعمل في تفسيره للآيات هذه الكلمات: مجازه كذا، وتفسيره كذا، ومعناه كذا، وغريبه، وتقديره، وتأويله على أن معانيها، ومعنى هذا أن كلمة المجاز عنده عبارة عن الطريق التي يسلكها القرآن في تعبيراته، وهذا المعنى الذي حدَّده علماء البلاغة أعم بطبيعة الحال من المعنى الذي حدَّده علماء البلاغة لكلمة المجاز فيما بعد.
وترجع أهمية كتاب "مجاز القرآن" البلاغية إلى عدة أمور:
أولها: أن كتاب مجاز القرآن أول دراسة تصلنا تعكس مراحل تطور الدراسات البيانية لأسلوب القرآن.
ثانيها: أنه أول دراسة تتصل بلغة القرآن الكريم.
ثالثها: أن هذا الكتاب يُعد المرجع الأساسي لكثير من الدراسات اللغوية والأدبية التي تلته.
رابعها: أن هذا الكتاب يُعد شركة بين التفسير وعلم اللغة والبلاغة.
وسلك أبو عبيدة في كتابه طريقًا مُحدَّدًا لا يكاد يخرج عنه، وهو كالتالي:
1- يبدأ أولا بشرح الآية بآية أخرى ما أمكن.
2- ثم يتبعها بحديث شريف في نفس المعنى.
3- ثم يُقدم بعد ذلك الشواهد الشعرية، أو شواهد من كلام العرب الفصيح، كالخطب والأمثال، والأقوال المأثورة.
وهو في كل ما يدور حوله يحرص على أن يؤكد دائما صلة أسلوب القرآن الكريم بأساليب العرب، فيذكر في ختام كل كلام له أن (العرب تفعل كذا).
وتتبع الأفكار البلاغية التي ظهرت في كتاب (مجاز القرآن) لأبي عبيدة، والذي يُعدُّ من أهم الروافد البلاغية التي ساهمت في نشأة البلاغة، فكانت هذه الأفكار لبنة بناء لعلوم البلاغة فيما بعد.
ومن الأفكار البلاغية التي ذكرها أبو عبيدة وتتعلق بعلم المعاني: (التقديم والتأخير) وقد اكتفى أبو عبيدة بالتنبيه على موطن التقديم والتأخير فقط ولم يُعَلِّل السبب الداعي إلى التقديم أو التأخير.
وقد تنبه أبو عبيدة لظاهرة خروج الاستفهام عن معناه الحقيقي إلى معاني أخرى، من ذلك قوله: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا﴾ [البقرة: 30]، قال فيه: «جاءت على لفظ الاستفهام، والملائكة لم تستفهم ربّها، وقد قال تبارك وتعالى: ﴿إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ ولكن معناها معنى الإيجاب: أي أنك ستفعل، وقال جرير، فأوجب ولم يستفهم، لعبد الملك بن مروان:
أَلَسْتُم خَيْر من رَكِب الْمَطَايا وأندى العالمين بُطون راح
وتقول وأنت تضرب الغلام على الذنب: ألست الفاعل كذا؟ ليس باستفهام ولكن تقرير». [مجاز القرآن 1/35، 36].
وذكر أن الاستفهام في قوله تعالى: ﴿أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي﴾ [المائدة: 116] لا يراد به المعنى الحقيقي، فقال: «هذا باب تفهيم، وليس باستفهام عن جهل ليعلمه، وهو يخرج مخرج الاستفهام، وإنما يراد به النّهى عن ذلك ويتهدد به». (مجاز القرآن 1/ 183، 184).
وقد تنبَّه أبو عبيدة في كتابه لظاهرة خروج الأمر عن معناه الحقيقي إلى معانٍ أخرى، فقال في قوله تعالى: ﴿اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ﴾ [فصلت: 40]، «لم يأمرهم بعمل الكفر إنما هو توعد». (مجاز القرآن 2/ 197).
قال في قوله تعالى: ﴿رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا﴾ [سبأ: 19] «مجازه مجاز الدّعاء». (مجاز القرآن 2/ 147).
ومن الأساليب البلاغية الهامة التي نبَّه إليها أبو عبيدة (الالتفات)، وإن كان لم يُطْلِق عليه هذا الاسم الاصطلاحي، إلا أنه حدَّده تحديدًا دقيقًا، وما زالت الأمثلة التي أشار إلى الالتفات تتردَّد في كتب البلاغة إلى الآن كأمثلة للالتفات، فقال: «ومن مجاز ما جاءت مخاطبته مخاطبة الشاهد، ثم تركت وحوّلت مخاطبته هذه إلى مخاطبة الغائب، قال الله: ﴿حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ﴾ [يونس: 22]، أي: بكم، ومن مجاز ما جاء خبره عن غائب ثم خوطب الشاهد، قال: ﴿ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى﴾ [القيامة: 33، 34]». [مجاز القرآن 1/ 11].
وقد تنبيه أبو عبيدة لمفهوم الإيجاز وكان يورده أحيانًا بمصطلح الاختصار، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [النساء: 36] قال: «مختصر، تفعل العرب ذلك، فكان في التمثيل: واستوصوا بالوالدين إحسانا». (مجاز القرآن 1/ 126). فهو يشير إلى تقدير الكلام المحذوف بقوله: (واستوصوا بالوالدين إحسانا).
وفي قوله تعالى: ﴿قالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ﴾ [الذاريات: 29] «مختصر، أي: أنا عجوز عقيم». (مجاز القرآن 2/ 227).
وقد تنبَّه أبو عبيدة لمفهوم المجاز العقلي وهو: "إسناد الفعل أو ما في معناه إلى ملابس له غير ما هو له بتأول"، لكنه لم يذكره بهذا المصطلح، فقال في قوله تعالى: ﴿وَالنَّهارَ مُبْصِرًا﴾ [يونس: 67] «له مجازان أحدهما: أن العرب وضعوا أشياء من كلامهم في موضع الفاعل، والمعنى: أنه مفعول؛ لأنه ظرف يفعل فيه غيره لأن النهار لا يبصر ولكنه يبصر فيه الذي ينظر، وفى القرآن: ﴿فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ﴾ [الحاقة: 21] وإنما يرضى بها الذي يعيش فيها، قال جرير:
لقد لمتنا يا أمّ غيلان في السّرى ونمت وما ليل المطيّ بنائم
والليل لا ينام وإنما ينام فيه». مجاز القرآن (1/ 279)
ونجد أبو عبيدة تنبَّه إلى التشبيه وذكره بأكثر من مصطلح منها (التشبيه، التمثيل، ما أشبه، المُثل)، فقال في قوله تعالى: ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ﴾ [النور: 45]، «فهذا من التشبيه؛ لأن المشي لا يكون على البطن إنما يكون لِمَن له قوائم، فإذا خلطوا ما له قوائم بما لا قوائم له جاز ذلك كما يقولون: (أكلت خبزًا ولبنًا)، ولا يقال: (أكلت لبنًا)، ولكن يقال: (أكلت الخبز)». (مجاز القرآن 2/ 68).
وقد تعرض لمفهوم الاستعارة من خلال تفسيره إلا أنه لم يذكر هذا المصطلح، فقال في قوله تعالى: ﴿وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ﴾ [لقمان: 18]» مجازه: ولا تقلب وجهك ولا تعرض بوجهك في ناحية من الكبر، ومنه الصعر الذي يأخذ الإبل في رؤوسها حتى يلفت أعناقها عن رؤوسها، قال عمرو بن حنىّ التّغلبيّ:
وكنا إذا الجبار صعّر خدّه أقمنا له من ميله فتقوّما
والصّعر: داء يأخذ البعير في عنقه أو رأسه فيشبّه به الرجل الذي يتكبر على الناس» (مجاز القرآن 2/ 127).
ففي هذه الآية استعارة مكنية، شبه المتكبر بالبعير، حُذف المشبه به وأُتي بشيء من لوازمه وهو (تصعر).
وتنبه أيضًا لمفهوم المجاز المرسل، فقال: «ومن مجاز ما حذف وفيه مضمر قال: ﴿وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها﴾ [يوسف: 82]، فهذا محذوف فيه ضمير مجازه: وسل أهل القرية، ومن في العير». (مجاز القرآن 1/ 8).
وفي قوله تعالى: ﴿فَلْيَدْعُ نادِيَهُ﴾ [العلق: 17] قال: «أهل مجلسه». (مجاز القرآن 2/ 304).
ومن المصطلحات التي استخدمها أبو عبيدة في كتابه واضطرب مدلولها عنده مصطلح (الكناية) الذي استخدمه بأكثر من مدلول، فهو تارة يستخدمه بمعنى الضمير النحوي، وهذا أكثر مدلولات مصطلح الكناية دورانا في هذا الكتاب، وتارة أخرى يطلقه على ما يُقابل الاسم الظاهر.
وهو حين ينص على هذا العنصر الكنائي إنما يقصد به معنى الخفاء أو الإضمار، واستعماله للكلمة في الدلالة على فن من فنون الأسلوب تمامًا كما استعملها البلاغيون للدلالة على الاصطلاح البلاغي المعروف من مثل قوله في تفسير قوله تعالى: ﴿نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: 223] قال: «كناية، وتشبيه». [(مجاز القرآن 1/ 73)]. نجده هنا خلط بين مصطلح الكناية ومصطلح التشبيه ولم يفرق بينهما.
وفي قوله تعالى: ﴿أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ﴾ [النساء: 43] قال: «كناية عن إظهار لفظ قضاء الحاجة في البطن». [(مجاز القرآن 1/ 155)].
وفي الختام نقول إن كتاب مجاز القرآن اشتمل على العديد من الموضوعات البلاغية التي قصد منها أبو عبيدة إبراز أهم القيم الجمالية في القرآن المجيد التي قد تكون دليلا على الإعجاز، وقد حاول أبو عبيدة أن يكشف عن بعض ما جاء من ذلك في أسلوب القرآن، مع مقارنته بما جاء في الأدب العربي، ويُعدُّ هذا الكتاب أول خطوة في الدراسات البلاغية التي أُلِّفت حول القرآن الكريم.
***