التشبيهات الخاصة بالإنفاق فى القرآن الكريم

                             التشبيهات القرآنية الخاصة بالإنفاق

الإنفاق: هو بذل المال ونحوه، ويكون الإنفاق في سبيل الله: وهو بذل المال في كل ما أمر الله به في دينه من الإنفاق، سواء كان إنفاقًا في حج أو عمرة أو جهاد، أو كان إنفاقًا في صلة الرحم، أو في الصدقات، أو على العيال والأهل، أو كفالة الأيتام، أو غير ذلك.

وقد تنوعت أساليب القرآن في الحديث عن الإنفاق، من حثٍّ وترغيب فيها، أو ترهيبٍ من منعها أو إبطال الأجر الحاصل منها، وذلك لأن المال كان ولا يزال مُنية النفس، ومناط الرجاء، قال تعالى: ﴿وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا﴾ [الفجر: 20]، وليس هناك حدٌّ تشعر معه النفس بالشبع والاكتفاء من المال، كما صور ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادٍ مِنْ ذَهَبٍ، أَحَبَّ أَنَّ لَهُ وَادِيًا آخَرَ، وَلَنْ يَمْلَأَ فَاهُ إِلَّا التُّرَابُ، وَاللهُ يَتُوبُ عَلَى مَنْ تَابَ». فالتنازل عن بعض المال عن سماح يحتاج إلى ذخيرة خُلقية فذة، يندُر أن تُتاح لغير الصفوة ممَّن جمَّلهم اللهُ بالنُّبل والإيثار، والأمر بالصدقة عام لا يخصُّ هذه الصفوة المُختارة التي تبذل المال عن سماحٍ وارتياحٍ فقط، فكان ولا بد من حثٍّ زاجر للأنفس الشحيحة التي تعدُّ المالَ رُوحَها الغالية التي لا تكاد تتنازل عنه إلا أُجْبِرَت على فِراق الحياة، فلا بد من أجراس تَقْرَع القلوب، فتحيد بها عن الشُّحِّ إلى الإنفاق، وهذه الأجراس هي الأساليب البيانية المتنوعة والطرائق البلاغية المتعددة التي استُعملت في الآيات القرآنية لتُحقق الهدف المُبتغى من البذل والإنفاق في سبيل الله.

ومن هذه الأساليب البلاغية أسلوب التشبيه، وقد جاء في قوله تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 261].

في هذه الآية الكريمة تصوير لِمَا يُجْزِلُهُ الله تبارك وتعالى للمُنْفِق من الأجر، عبَّر عنه بأسلوب التشبيه التمثيلي، فمَثَلُ الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كالجهاد وغيره من وجوه البر المتنوعة كمثل حبَّةٍ من حبات القمح أو الشعير أو غير ذلك من النباتات التي تُسَنْبِلُ سنابلَ، بذرها الزَّارِعُ في أرض طَيِّبَةٍ، فأخرجت سبع سنابل، في كل سُنْبُلَةٍ مائة حبة، فكهذا يكون أجر تلك النفقات، إنها تضاعف أضعافًا كثيرة.

والمقصود بالمثل هنا هو الحالة أو الصفة، وقد أسند الإنبات إلى السنابل عن طريق المجاز العقلي، حيث أسند الإنبات إلى الحبة مع أن المنبت هو الله سبحانه وتعالى؛ لأنه هو سبب الإنبات.

واختيار التعبير بـ(سنابل) وهي على وزن فعائل، وهي إحدى صيغ جموع الكثرة، دون سُنبلات التي هي من جموع القلة، لأن المقصود بالآية الإخبار عمَّا أعده الله تعالى للمُنفق في سبيله، وما يُضاعف له من أجر إنفاقه، فناسب هذا إيراد الصيغة الدالة على الكثرة، ليُساعد هذا على تفخيم المشبه به، ومن ثَمَّ إسقاط هذا التفخيم على المشبه، وهو الأجر العظيم الذي ينتظر الْمُنْفق الْمُتَصدِّق.

واستخدام كلمة (حبة) في جانب المشبه به؛ للدلالة على ما يجب أن يكون عليه الإنفاق من الخفاء الموجب للإخلاص في العمل. وقد جاء في الحديث النبوي ضمن السبعة الذين يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلِّهِ: (وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعَلَّمَ شِمَالُهُ مَا أَنْفَقَتْ يَمِينُهُ)، قال العلماء: وذكر اليمين والشمال في هذا الحديث مبالغة في الإخفاء والاستتار بالصدقة، وضرب المثل بهما لقرب اليمين من الشمال وملازمتها لها، ومعناه: لو قدرت الشمال رَجُلًا مُتيقِّظًا لَمَا علم صدقة اليمين لمبالغته في الإخفاء.

وجاءت هذه اللفظة نكرة للوحدة أو للتقليل، فهو حبة واحدة يضعها المرء في الأرض، كما أن ما ينفقه المنفق جنيهًا أو درهمًا، وإن كثُر فهو إذا ما قيس بعطاء الله الواسع يُعدُّ قليلا. كما أنه لا ينبغي أن يستقل أحد الإنفاق حتى ولو كان مبلغًا صغيرًا.

والتعبير بالعدد سبع في قوله: (أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ) لم يأت مُقيِّدًا لأفراد معدوده فيه، وإنما هو عدد كنائي أريد به المبالغة في الكثرة، وذلك لأن سياق الآية دال على سعة عطاء الله ومُضاعفة الأجر العظيم على العمل القليل، والعدد سبعة أسلوب عربي يؤتي به للمبالغة في الوصف لما له مزية، فالعرب يُطلقون الأعداد: السبع والسبعين والسبعمائة ولا يُريدون العدد في حصره وما يتطلبه من حصر معدوده وإنما يُريدون المبالغة في الوصف، وهو كثير منتشر في كلامهم، والقرآن الكريم نزل بلغتهم وطريقتهم وأساليبهم في الكلام فالمقصود بالعدد في الآية المبالغة في الكثرة. ولما كان هذا هو الغرض والمقصود خُتمت الآية بقوله: (وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ).

والغرض من هذا التشبيه: بيان مقدار حال المشبه، أي مقدار الثواب المُضاعف عند الله يوم القيامة.

وقد أفاد استعمال أسلوب التشبيه التمثيلي هنا إبراز كمية الأجر الممنوحة للمُنفِق في صورة حسيَّة مرئيَّة، فيتجلَّى المعنى في القلب ويتَّضح في الذِّهن، فيكون أكثر قُدرَة على تحقيق الهدف، وهو الحثُّ على البذل والإنفاق في سبيل الله، مما يجعلُ النفسَ تنشطُ لهذا العمل، وتُسارع إليه رغبة في الحصول على الأجر العظيم من الله تبارك وتعالى.

***

ومن الأمثلة القرآنية التي ضربها سبحانه للناس، تبيانًا لمواقف المنفقين للمال، وتمحيصًا للمؤمن من المنافق، قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ * وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾ [البقرة:264-266].

هذه الآيات الثلاث تضمنت أمثلة ثلاثة، تتعلق بأحوال الناس في الإنفاق:

المثال الأول: فيه تشبيه بعض المتصدقين الذين يتصدقون طلبًا للثواب، غير أنهم يُتبعون صدقاتهم بالمن والأذى، بالمنفقين المرائين، الذين ينفقون أموالهم لا يطلبون من إنفاقها إلا السمعة والمفاخرة بين الناس. فالذي ينفق ماله ابتغاء السمعة والظهور بين الناس، لا يستشعر نداوة الإيمان وبشاشته، ويكون قلبه مغشيًا بالرياء، كالحجر الذي لا خصب فيه ولا ليونة، يغطيه تراب خفيف، يحجب قسوته عن العين، كما أن الرياء يحجب قسوة القلب الخالي من الإيمان. فإذا نزل مطر غزير على هذا الحجر، ذهب بالتراب الذي عليه، فانكشفت حقيقته، وظهرت قسوته، ولم ينبت زرعه، ولم يثمر ثمره، كذلك القلب الذي أنفق ماله طلبًا للظهور بين الناس، فإن إنفاقه هذا لا يثمر خيرًا، ولا ينفعه أجرًا! ووجه التمثيل بين المانِّ والمؤذي بصدقته وبين المرائي بنفقته، أن كلا منهما قد غش نفسه، فألبسها ثوب زور، يوهم الرائي شيئًا غير ما هو في الحقيقة.

وإبطال الصدقة في الآية معناه: تقليل ما ضُعِّف من ثواب، أو بطلان الثواب كلية بعدم قبول الله تعالى لها بسبب ما أتبعها من مَنٍّ وأذى، والمَنُّ هو أن يعتدي بإحسانه على من أحسن إليه بقول فيشعره بالتفضُّل عليه، والأذى أن يتطاول عليه بسبب ما أنعم عليه.

وقد سبق ذكر تلك الصورة وضع شرط قبول الصدقات وطريق مُضاعفتها، ويكمن ذلك الشرط في البُعد عن كل ما يُنْقِصُ قدر الصدقة أو يُبطلها ومن ثَمَّ تقع المُضاعفة وتثاب بالقبول وذلك في قوله سبحانه وتعالى: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ﴾ [البقرة: 262، 263].

أخبر الله تعالى في هذا الآيات أن الصدقة إذا لم تكن خالصة لله عارية من مَنٍّ وأذى فليست بصدقة؛ لأن إبطالها هو إحباط ثوابها، فيكون فيها بمنزلة مَنْ لم يتصدَّق، وكذلك سائر ما يكون سبيله وقوعه على وجه القُرْبة إلى الله تعالى فغير جائز أن يشوبه رياء ولا وجه غير القُربة.

المثال الثاني: ضرب الله المثل فيه للمخلصين في الإنفاق؛ وذلك مثل المؤمن العامر قلبه بالإيمان، ينفق ماله عن ثقة ثابتة في الخير، نابعة من الإيمان، كمثل بستان خصب عميق التربة، يقوم على ربوة، فإذا نزل عليه مطر كثير، أعطى ثمارًا وغلالًا ضعفي ما يعطي غيره. وإذا نزل عليه مطر قليل كفاه ليبقى على رونقه وجماله وبهائه.

ووجه التمثيل في هذا المثل: أن المنفق ابتغاء مرضاة الله هو في إخلاصه وسخاء نفسه وإخلاص قلبه كالجنة الجيدة التربة الملتفة الشجر العظيمة الخصب في كثرة بره وحسنه، فهو يجود بقدر سعته، فإن أصابه خير كثير أغدق ووسع في الإنفاق على ذوي الحاجات، وإن أصابه خير قليل أنفق منه بقدره، فخيره دائم، وبره لا ينقطع؛ لأن الباعث عليه ذاتي لا عرضي كأهل الرياء وأصحاب المن والإيذاء. فـ (الوابل) و(الطل) على هذا عبارة عن سعة الرزق وما دون السعة.

ولك أن تقول: إن وجه التمثيل هنا أن النية الصالحة في الإنفاق كالوابل للجنة فيها تكون النفقة نافعة للناس؛ لأن أصحابها يتحرَّون مواضعها، فيضعون نفقتهم موضع الحاجة، لا يُبْذِّرون بغير رَوِيَّة. وأن أمثال هؤلاء المخلصين لا يخيب قاصدهم؛ لأن رحمة قلوبهم لا يغور مَعِينُها، فإن لم تصبه بوابل من عطائها لم يفته طَلَّه، فهم كالجنة التي لا يخشى عليها اليُبْسَ والزوال. وهذا التمثيل يفيد أن إنفاق المؤمن قد يكون إنفاقًا كثيرًا، مثل المطر الغزير، وقد يكون إنفاقًا قليلًا، مثل المطر القليل، وفي كلٍّ خير، وهو يُعبِّر عن اهتمام المؤمن بغيره، والعمل على النهوض بأمته قدر استطاعته، وبحسب إمكاناته.

وهذا المثل مقابل للمثل الأول؛ فإذا كان قلب المرائي قاسيًا، عليه ستار من الرياء، كمثل حجر صلد عليه غشاء من التراب، فإن قلب المؤمن كالأرض الخصبة المعطاء؛ وإذا كان قلب المرائي المغطى بالرياء والنفاق، كمثل حجر أملس مُغَطَّى بالتراب، سُرعان ما تنكشف حقيقته وطبيعته، فإن قلب المؤمن خير على كل حال.

المثال الثالث: عقَّب سبحانه المثلين السابقين بمثل آخر، يتبين به حال الفريقين؛ إذ فيه تمثيل لنهاية الْمَنِّ والأذَى، وكيف يمحق الله آثار الصدقة المتبوعة بالْمَنِّ والأذى مَحْقًا في وقت لا يملك صاحِبُها قُوَّةً ولا عَوْنًا، ولا يستطيع لذلك المحق دفعًا ولا منعًا، تمثيل لهذه النهاية البائسة في صورة بُسْتَانٍ فيه من كل الزروع والثمرات، جاريًا الماء في كل أنحائه، فهل يود من كان مالكًا لمثل هذا البستان أن يخسر بُسْتَانه، خاصة بعد أن تقدَّمت به السِّنُّ، وبلغ أرذل العمر، وأخذ العجز منه كل مأخذ، وكان تحت رعايته أولاد ضعاف ونساء عجائز، لا يستطيعون سعيًا في الأرض ولا كسبًا، فهل يرغب من كانت هذه حاله أن تأتي بستانه عاصفة، تُفْنِي أخضَرَه ويابسه، وتذره قاعًا صفصفًا، أو هل هو راغب أن يحترق بستانه فيصبح نسيًا منسيًا ؟ ويصور لنا هذا المثل أنموذجًا من واقع الحياة البشرية، حيث نجد مثل هذا الشيخ الفاني الكبير في ضعف جسمه، ووهن نشاطه، وقد تكون له ذرية لا يعطفون عليه، أو قد يكونون فقراء لا يقدرون على نفعه بشيء، إن لم يكونوا عالة عليه، فكما يتحسر هذا الشيخ على حياته السابقة، كتحسر الذي أنفق ماله منًّا وأذى، أو كالذي أنفقه بقصد لفت الأنظار والأسماع؛ لأنه لم يدخر عملًا صالحًا يشفع له يوم القيامة، إذا انقطعت به أسباب الدنيا.

والتمثيل هنا أيضًا فيه تصوير لحال المؤمن المعطاء المنفق ماله ابتغاء وجه الله، فهو لا يقصد أن يذهب بأجر صدقته هباء، بل هو حريص كل الحريص على أن تكون خالصة لوجه الله تعالى، فلا يمنُّ بها على أحد، ولا يؤذي أحدًا بكلمة تجرح مشاعره، وتذهب ببركة صدقته. كما يدل هذا المثل الأخير على أن الذي يهمل طاعة الله من أجل ملاذِّ الدنيا، لا يحصل في الآخرة إلا على الحسرة والندامة. فهو يحتاج في آخرته إلى الأعمال الصالحة كحاجة صاحب الأرض إلى ثمارها وخيراتها. ولعل حسرة هذا الشيخ الفاني الذي بلغ من الكبر عتيًا تكون أعظم بعدما يئس من الشباب الذي ولى هاربًا، فلم يعد لديه إمكانية على العمل والعطاء.

تضمنت هذه الآية تشبيهًا ضمنيًّا لِمَنْ لا ينفق أمواله في سبيل الله، أو يُتْبِع إِنْفَاقَه بالْمَنِّ والأذى؛ فإن ذلك يجعل المال ممحوقًا مُحْتَرِقًا تمامًا كالثمرات التي أصابها إعصارٌ فيه نارٌ فاحترقت؛ فهو تشبيهٌ ضمني، يدعم القضية بأسلوبٍ واضح جاء لغرض تقبيح حال المشبه، والمبالغة في ذمها ومقتها، وإظهار الحسرة واليأس على صاحبها، وجاء بصيغة سُؤَال، ووجه الشبه: شدة التحسر والندامة، والشعور بخيبة أمل في وقت يرجى فيه الأمل، ويُطلب فيه النفع.

فالقرآن الكريم من خلال هذه الأمثلة الثلاثة، يريد أن يربي المسلم على مأثرة من مآثره السامية، وهي مأثرة الإنفاق في سبيل الله، ويبين له أن الرياء يبطل ثواب العمل، وأن المنَّ والأذى يحبط أجر الصدقة. فالرياء مرض من أمراض المجتمع، يدل على ضعف في الشخصية، وسوء في الخلق، وتعلق بالدنيا، وبُعد عن الآخرة. والإسلام عندما أوصى بالصدقة، إنما أوصى بها تزكية لنفس المتصدق، وتزكية لماله أيضًا، وحرصًا على تكافل المجتمع، وبناء مجتمع معافى من الحسد والبغضاء، وبعيد عن التناحر والتشاحن.

***

وهذه الآيات وما ذُكر فيها من شرط معنوي من التقسيم البديع الذي شمل كل أنواع الْمُقَسَّم، حيث إن الْمُنْفِقَ في سبيل الله إنما يكون على أحد ثلاثة أوجه:

الأول: أن يُريد وجه الله تعالى ويرجو ثوابه، فهذا لا يرجو من المُنْفَق عليه شيئًا ولا ينظر من أحواله في حال سوى أن يُراعي استحقاقه، وهو المستحق بالأجر والمضاعفة المذكورة في قوله تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 261].

والثاني: أن يُريد أن من الْمُنْفَق عليه جزاء بوجهٍ من الوجوه، فهذا لم يرد على وجه الله بل نظر إلى هذه الحال من المُنْفَق عليه، وهذا هو الذي متى أخلف ظنه مَنَّ بإنفاقه وآذى، وهو المعْنِيُّ بقوله: ﴿كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [البقرة: 264].

والثالث: أن يُنْفق مُضطرًّا دافعٍ غُرمٍ للمُنْفق عليه، فهذا قد نظر في حال ليست لوجه الله، وهذا هو الذي متى تُوبِع وأُحْرِجَ بِوَجْهٍ من وُجُوه الإحراج آذَى، وهو المَعْنَيُّ بقوله: ﴿قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ﴾ [البقرة: 263].

وقد جاء أسلوب التقسيم هنا في صورة المقابلات المتعددة ليفسح الطريق أمام المخاطب ليدرك بفطرته سبل الرشاد، وفيه لفت النظر إلى المعنى المراد والتأكيد عليه بالتقسيم المبني على اجتماع الشيء وضده، لتجلِّية الحقائق وإبراز معانيها.


تعليقات