القسم الثالث: أقسام التشبيه باعتبار وحدة الطرفين أو
تعددهما
إذا قلنا إن الإطلاق والتقييد لهما الأثر الواضح في
تحديد المراد من التشبيه، فكذلك التعدد والإفراد في التشبيه له مدلوله، فالتعدد
يكون مطلوبا إذا كان التشبيه الواحد لا يفي بالغرض فيكون التشبيه الثاني لإتمام
المراد ويفرد إذا كان المقام يعنى شيئا واحدا.
وينقسم التشبيه باعتبار وحدة الطرفين أو تعددهما إلى خمسة أقسام:
الأول: أن يكون المشبه واحدًا والمشبه به كذلك، كقوله تعالى: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل: 5].
الْمُشَبَّه: أصحاب الفيل، والمشبه به: العصف المأكول، وكلاهما واحد فلا تعدد فيه.
وكذا قوله تعالى في وصف هالك ثمود قوم صالح: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا
كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} [القمر: 31]. فقد شبه القوم بالهشيم وكلاهما واحد
فلا تعدد فيه.. وانظر إلى دقة التعبير القرآني في استخدام الألفاظ وإلى إيحاءات
تلك الألفاظ فقد عبر عن هالك ثمود بأنهم صاروا كالهشيم وهو الشجر اليابس وهذا يكفي
في إفادة هالكهم ولكنه أضاف إلى المشبه به هذا القيد «المحتظر»، أي: الذي يعمل الحظيرة
لمواشيه من يابس الشجر فما سقط منها وداسته فهو الهشيم ولذا أفاد هذا القيد
حقارتهم وازدراءهم فهم كالهشيم الذي تطؤه الدواب وتبول عليه وتروث، ثم عبر عن هالك
أصحاب الفيل بأنهم جعلوا كالعصف وهو ورق الزرع وهذا كاف في إفادة الهالك ولكنه قيد
العصف بهذا الوصف «مأكول» أي: أكلته الدواب فهضمته، ثم رأته فضلات وبالت عليه، فهم
قد صاروا إلى حال أخرى في أجسادهم بخالف الصورة الأولى التي تصور هالك ثمود، فثمود
قد تهشموا وبقيت أوصاف أجسامهم كما هي.. التعبير القرآني قد أبرز هلاك أصحاب الفيل
في صورة أشد وأفظع من هلاك ثمود ويرجع ذلك إلى الحال الذي اقتضى هلاك كل، فثمود
عقروا الناقة وأعرضوا عن آيات ربهم، وأصحاب الفيل قد قصدوا الكعبة وأرادوا هدم
البيت واقتلاع أسسه، أرادوا إزالة أول بيت وضع للناس ولذا كان هالكهم أشد.
**
الثاني: أن يشبه شيء واحد بشيئين أو بأكثر، أو بمعنى آخر أن يتعدد المشبه به دون المشبه، ويسميه البلاغيون تشبيه الجمع؛ لأنه قد جمع للمشبه الواحد عدة أشياء جعل كل واحد منها مشبها به...من ذلك قول عمران بن حطان:
أَسَدٌ عَلَيَّ وَفِي الحُرُوبِ
نَعَامَةٌ *** تَنْفِرُ من صَفِيرِ الصَّافِرِ
فقد شبه مخاطبه بالأسد ثم بالنعامة فالمشبه واحد، والمشبه به متعدد.
وبيان جمال هذا التشبيه على النحو الآتي:
شبه الله سبحانه وتعالى الشرر المتطاير من نار جهنم يوم
القيامة ببناء عظيم وهو(القصر) أولا، وبـ(جمالة صفر) ثانيًا، وقد جاء التفصيل
والتعدد في المشبه والمشبه به؛ لاستيفاء الأقسام واستكمال الصورة؛ لأن بعض الشرر
المتطاير يكون عظيمًا كبيرا كالقصر، وبعضه لونه أصفر كالجمال الصفر، وجاء الوصف
بالصفر لأنه لون محبب في الإبل، أو لأن الصفرة أنواع والمقصود منها هنا هو ما كان
مثل صفرة الإبل، فتبين هنا أن التعدد قد أكمل الصورة، فواحد من التشبيهات لبيان
الحجم، والثاني لبيان اللون، أو لأن المراد بيان المقياس لشرر تلك النار، فقيس بما
يناسب أهل المدر (المدن) بالقصور وهي أعظم ما عندهم، وقيس بالجمال الصفر، وهي من
أضخم ما يعرف أهل الوبر (البادية) من الحيوانات، وقد يكون كل هذا مرادا وهو أحسن.
ومنه قوله تعالى: {كَأَنَّهُنَّ
الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 58]. فالمشبه: (الحور العين)، وهو
مفرد، والمشبه به: (الياقوت والمرجان)، متعدد، شبه سبحانه وتعالى الحور العين يوم
القيامة بالياقوت والمرجان، لأنهما يجمعان صفة الشفافية وكثرة الألوان وبجانب ذلك
هما من أنفس المجوهرات وهذه الصفات تتوجب الحفظ والصون لهما، فخرجنا من هذا التشبيه
بالصفاء، وكثرة الألوان، والنفاسة، وضرورة الحفظ.
**
الثالث: أن يشبه شيئين أو أكثر بشيء واحد بمعنى أن يتعدد المشبه دون المشبه به ويسميه البلاغيون: تشبيه التسوية؛ لأنه قد سوى بين عدة مشبهات في مشبه به واحد.
كقول القائل:
آراؤكُمْ ووجوهُكُمْ وسيوفُكُمْ في الحادثات إذا دَجَوْنَ
نُجُومُ
فالمشبه متعدد وهو الآراء والوجوه والسيوف والمشبه به واحد وهو النجوم.
**
الرابع: أن يتعدد كل من المشبه والمشبه به ويقرن كل مشبه بالمشبه به في الذكر ويسمى بالمفروق لأنه قد فرق بين المشبهات والأمور المشبه بها ويسمى أيضا بغير الملفوف لأن المشبهات قد فرق بينهما فلم تلف وكذلك الأمور المشبه بها قد فرق بينها بالمشبهات فليست ملفوفة، ومن ذلك قول المرقش الأكبر:
النَّشْرُ مِسْكٌ والوجُوهُ دَنَا
نِيرُ وَأَطْرَافُ الأَكُفِّ عَنَمْ
فقد تعددت التشبيهات في البيت وقرن كل مشبه بالمشبه به.
النشر مسكٌ، أي: الرائجة الطيبة منهن كرائحة المسك، وقوله: دنانير، أي:
كالدنانير، (النشر مسك) مشبه ومشبه به، و (الوجوه دنانير) و (أطراف الأكفِّ
عَنَمْ)، هذه ثلاث تشبيهات، جمَع وفَرَّق، دنانير، أي: كالدنانير من
الذهب في الاستدارة والاستنارة مع مخالطة الصفرة، لأنها مما يستحسن في ألوان النساء، والأطراف:
الأصابع، والعَنَمْ: شجرٌ أحمر لين الأغصان محمر تشبه بأغصانه أصابع الجواري
المخضبة، فقد شبه النشر بالمسك، والوجوه بالدنانير، وأطراف الأكف بالعنم، جاعلاً كل مشبهٍ مع مقابله، وهذا يسمى مفروقًا، أي:
أتبع كل مشبهٍ ما شبه به من غير فصلٍ بينهما بمشبه آخر، وسمي بالمفروق؛ لأنه فرَق
بين المشبهات والمشبهات بها بالمشبهات.
**
الخامس: أن يتعدد كل من المشبه والمشبه به وتكون المشبهات مجتمعة في طرف والأمور المشبه بها في طرف آخر ويسمى الملفوف أو المقرون؛ لأن المشبهات قد اقترنت ولُفَّت في طرف وكذلك الأمور المشبه بها، من ذلك قول امرئ القيس:
كَأَنَّ قُلُوبَ الطَّيْرِ رَطْبًا
وَيَابِسًا
لَدَى وَكْرِهَا الْعُنَّابُ وَالْحَشَفُ الْبَالِي
فجاء أوّلاً بِمشَبَّهَيْن هما: القلوب الرطبة، والقلوب
اليابسة من قلوب الطير. وجاء بعد ذلك لكلّ منهما بمشبَّه بِه منفصل عن الآخر، هما: الْعُنَّابُ:
وهو ثمر أَحْمَر لشجرة تُسَمَّى العناب أيضاً، وقد شبَّه به القلوب الرَّطْبَة. والحشَفُ
البالي: وهو يابسُ التَمْرِ الذي ذهب ماؤه وكُلُّ خير فيه، وقد شَبَّه به القلوب
اليابسة من قلوب الطير.
***