ذكرنا في المقال السابق القسم الأول والثاني من أقسام المحسوس والمعقول من
طرفي التشبيه، ونكمل في هذا المقال الحديث عن القسم الثالث والرابع من هذه الأقسام.
3) تشبيه معقول بمحسوس
كقولنا: المنية كالسبع، والعلم كالنور، والجهل كالظلام،
ومنه قول الشاعر:
الرَّأْيُ كَاللَّيْلِ مُسْوَدٌ جوانِبُهُ واللَّيْلُ لا يَنْجَلِي إلا بِإِصْبَاح
فقد شبه الرأي في خفائه وعدم وضوحه إلا بعد ذكر البراهين
الكاشفة مضمونه، بالليل في سواده وعدم اتضاح ما فيه إلا بضوء الصبح. فالمشبه
(الرأي) وهو شيء معقول، والمشبه به (الليل المسود جوانبه)، وهو شيء محسوس يُدْرَك
بالبصر، ووجه الشبه هو الظلمة والغموض.
**
وقد ورد هذا النوع كثيرا في القرآن الكريم، وذلك لإيضاح
الأمور المعنوية وتصويرها بالصور الحسيَّة الْمُشَاهدة ليسهل استيعابها، ومنه قوله
تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ
مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ
إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ} [الرعد: 14]، تحدثت
الآية في شأن من يعبدون الأوثان وأنهم إذا دعوا آلهتهم لا يستجيبون لهم، ولا يرجع
إليهم هذا الدعاء بفائدة، فالأصنام التي يعبدها هؤلاء المشركون من غير الله لا
تجيبهم إلى شيء يطلبونه منها، إلا كإجابة الماء لشخص بسط كفيه إليه من بعيد، طالبًا
منه أن يبلغ فمه وما الماء ببالغ فم هذا الشخص الأحمق، لأن الماء لا يحس ولا يسمع
نداء من يناديه.
فالمشبه أمر معنوي والمشبه به أمر حسي.
**
ومنه قوله تعالى: {وَمَنْ
يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ
أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31]. شبَّه حال من
يُشرك بالله في أنه لا بقاء ولا استقرار له بحال مَنْ سقط من السَّماء فلا يستقر
على الأرض لحظة بل الطير تتخطَّفه والريح تهوي به إلى مكان بعيد مهلك، وهذا الشخص لا
يطمع أحد له في نجاة، بل هو هالك لا محالة.
فالمشبه أمر معنوي وهو الإشراك بالله، والمشبه به حسي
وهو من خر من السماء.
**
ومنه قوله تعالى: {قُلْ
أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ
عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ
الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى
ائْتِنَا} [الأنعام: 71]، هذه الآية تبدأ بسؤال عن عبادة الأصنام أو غيرها،
ما الذي صنعته تلك الأصنام أو غيرها لمن عبدها؟ وماذا صنعت لمن لم يعبدها؟ وهذا
أول منطق في بطلان ألوهية غير الله، وهذا حديث المؤمنين الذي يرفضون أن يعودوا إلى
عبادة غير الله لأنهم آمنوا وساروا في طريق الهدى، وليس من المنطق أن يرتدوا على
أعقابهم وأن ينقلبوا خاسرين.
وهذه الآية تُصوِّر لنا حالَ مَنْ يُشرك بالله بعد أن
كان موحِّدًا بحال من أضلته الشياطين في الصحراء وله أصحاب يدعونه إلى الهدى
ويُنَادونه ائتنا، وهو بين هذا الاستهواء من الشيطان وهذا الدعاء من أصحابه
المؤمنين حيران، لا يدري أي الفريقين يجيب.
**
ومنه قوله تعالى: {وَقَدِمْنَا
إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا}
[الفرقان: 23]، يُصَوِّر القرآن ضياع أعمال الكافرين بحيث لا يملكون لها ردًّا
بصورة الهباء المنثور، وهو: الشيء الدقيق الذي يخرج من النافذة مع ضوء الشمس شبيها
بالغبار.
شبه الله عز وجل أعمالهم الصالحة في الدنيا كالإحسان إلى
الفقراء، والإنفاق في وجوه الخير في عدم انتفاعهم بها يوم القيامة- بالهباء
المنثور، الذي تفرق وتبدد وصار لا يرجى خير من ورائه لحقارته وتفاهته.
فالمشبه أمر معنوي، والمشبه به أمر حسي. ووجه الشبه:
قِلَّته وحقارته وأنه لا يُنْتَفع به.
**
ومنه قوله تعالى: {مَثَلُ
الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ
فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ
الضَّلَالُ الْبَعِيدُ} [إبراهيم: 18].
والرماد: ما يتبقى من الشيء بعد احتراق أصله، كالمتبقي
من الخشب أو الحطب بعد احتراقهما. والعاصف: من العصف وهو اشتداد الريح، وقوة
هبوبها.
شبه الله عز وجل في هذه الآية ما يعمله الكافرون في
الدنيا من أعمال البر والخير مهما جلَّ وعظم، في إحباطه وذهابه، لأنه قائم على غير
أساس من الإيمان والإحسان، وكونه لغير الله وعلى غير أمره، بهذا الرماد الهش الذي
لا يصمد أمام قوى الرياح العاتية العارمة فيتلاشى في جوفها الهادر.
فالمشبه (أعمال الكافرين) أمر معنوي، والمشبه به (رماد)
أمر حسي. ووجه الشبه: عدم ظهور أثر الشيء ورجاء نفعه إذا بني على أساس
واهٍ، وأقيم على ركن ضعيف.
**
ومنه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ
كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى
إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ
وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ
مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ
بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ
لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُور} [النور: 39، 40]
حيث شبه أعمال الخير والبر من الكافرين -مثل سقاية الحاج
وإغاثة الملهوف وغير ذلك مما يعده الناس من أعمال البر -وظنهم أنها نافعة لهم
ومنجية من عقاب الآخرة فتحبط أعمالهم، وتخيب ظنونهم، وتنقشع آمالهم بسراب يراه
الظمآن في الفلاة، وهو في شدة الحاجة إليه فيحسبه ماء فيعدو نحوه، فلا يجده شيئا،
فتتحطم آماله، وتشتد حسراته، فأعمال الكفار كهذا السراب يُظن أنه الماء وليس به.
وبعد أن شبه أعمال الكافرين الضائعة بالسراب الذي ليس
بشيء، شبه مرَّة أخرى سوء أعمالهم وحقد قلوبهم بهذه الظلمات في البحر الزاخر
العميق تُغطِّيه الأمواج، ظلمة السحاب، وظلمة الأمواج، وظلمة البحر، ظلمات بعضها
فوق بعض، ولشدة الظلمة لا يستطيع المرء أن يبصر يده بينها، فقلوبهم وأعمالهم
بمنزلة هذه الظلمة الكثيفة، لا ينفذ منها شعاع من رحمة الله، ومن لم يرد الله أن
يهديه لنوره فما له من نور.
**
ومنه قوله تعالى: {مَثَلُ
الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ
اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ
كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 41]. شبه الله عز وجل
أعمال الكافرين الفاسدة لعبادتهم الأصنام التي لا تنفع ولا تضر ببيت العنكبوت الضعيف
الواهي، الذي يقيمه من نسج مهلهل، لا يثبت أمام هَبَّة من ريح، أو نسمة من هواء، فهو
تشبيه أمر معنـوي بـأمر حسي.
**
ومنه قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ
يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ} [الجمعة: 5].
شبه
الله عز وجل في هذه الآية اليهودَ الذين أوتوا التوراة وكُلِّفوا بالعمل بمحتواها،
فأعرضوا عنها، ولم ينتفعوا بها، واستنكروا نبوة محمد عليه الصلاة والسلام، وقد
أُمروا فيها بتصديقه واتباعه، شبههم بالحمار الذي يحمل على ظهره أحمالا من كُتب
العلم، لا ينتفع بها، ولا يعقل ما فيها، وليس له إلا ثقل الحمل من غير فائدة.
فحملهم
التوراة أمر معنوي المراد به القيام بما فيها، وليس حملا حسيًّا كالحمل على
العاتق، فهو من تشبيه المعنوي بالحسي.
***
4) تشبيه محسوس بمعقول
وهذا الضرب من التشبيه لم يقع في القرآن الكريم، لأن
الحس طريق إلى العقل، والمحسوس أصل المعقول، فلو شبهنا المحسوس بالمعقول لشبهنا الأصل
بالفرع، وهذا يستلزم جعل الأصل فرعًا والفرع أصلا، وهو غير جائز.
ويجيء هذا التقسيم على خلاف الأصل في باب التشبيه؛ لأنهم
يشترطون في المشبه به أن يكون أظهر وضوحًا من المشبه، فالأقرب أن يكون حسيًّا ولا
يكون عقليًّا إلا بعد تنزيله منزلة المحسوس وادِّعاء أنه فاق المحسوس في الوضوح،
مثاله: تشبيه العطر بالخُلُق الكريم في استطابة النفس. ومنه قول الشاعر:
وَبَدَا الصَّبَاحُ كَأَنَّ غُرَّتَهُ وَجْهُ الْخَلِيفَةِ حِينَ يُمْتَدَحُ
وهذا من باب المبالغة والادعاء.
***
التشبيه الوهمي
ويُلحق البلاغيون بالتشبيهات العقلية ما يعرف
الْمُشَبَّه به الوهمي، وهو ما يأتي به الشاعر من صور متوهَّمة متخيلة يخترعها
الوهم ولا وُجُود لها في الحقيقة، فلا يُمْكِن إِدْرَاك أجزاء هذه الصورة
بالحواسِّ لِعَدَم وجودها لكنها لو وُجِدت لم تدرك إلا بالحواس.
والفرق بين التشبيه الوهمي والتشبيه الخيالي (الذي يُلحق
بالحسي): أن الوهمي لا وجود لهيئته
ولا لجميع مادته، أما الخيالي فجميع مادته موجودة دون هيئته.
ومن أمثله التشبيه الوهمي قول امرئ القيس:
أَيَقْتُلُنِي
والْمَشْرَفِيُّ مُضَاجِعِي ومَسْنُونَةٍ
زُرْقٍ كَأَنْيَابِ أَغْوَالِ؟
يقول امرؤ القيس: كيف يقتلني -هو يتكلم عن صاحبته يهدده
زوجها- كيف يقتلني وبجنبي سَيْفٌ حادٌّ (منسوب إلى مشارف وهي بلاد اليمن) مُضاجعي
أي: مُلازمي، أسنانه زُرْقٌ (أي السهام المسنونة المحدودة، الزرق أي المجْلُوَّة
الصافية) تُشْبِهُ أسنان الأغوال، والأغوال جمع غول، والغول: لم ترها العرب ولم تعرف
أنيابها، فوقع المشبه به هنا مجهولا؛ لأن المقام هنا مقام تهديد ووعيد، فالعرب لم
تعرف الغول ولم ترها وإنما هدَّد به ليذهب الذِّهن في ذلك كل مذهب، ولو كان المشبه
به محدودًا معلوما لعُرِفَ وحُدِّدَ المشبه، ولكن الآن كل عقل وكل وفكر يذهب في
ذلك وفي تصوره في كل مذهب، فكان أبلغ.
فأراد الشاعر أن يصور الأَسِنَّة بصورة مُرَكَّبة مُخيفة
فاخترع لها مُشَبَّهًا بها من الوهم وهو أنياب الغُول، ومعروف أن الغول لا حقيقة
له لكنه أمر يتوهَّمه العرب ويخافونه.
ومن هذا القبيل جاء قوله تعالى: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ
تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ}
[الصافات: 64، 65]
وقد كذَّب الكفَّار بهذه الآية وقالوا: كيف ينبت الشجر
في النار، والنار تحرق الشجر؟
ولم يعلم هؤلاء المكذبون أن مَن قَدَر على خلق من يعيش
في النار ويلتذ بها – يعني سيدنا إبراهيم عليه السلام – فهو أقدر على خلق الشجر في
النار وحفظه من الإحراق.
والتشبيه في هذه الآية من قبيل الْمُتَخيَّل وذلك ردٌّ
منهم على الملاحدة حينما طعنوا في القرآن الكريم وقالوا بأن فيه تشبيهًا بما لا
يُعرف؛ إذ قاعدة التشبيه أن يكون المشبه به أعرف لدى المخاطب وأقوى دلالة على
الصفة من المشبه. وهنا شَبَّه ثَمَر تلك الشجرة بشيء مجهول للمُخَاطب؛ لأننا لم نر
الشيطان فضلا عن رُؤْيَة رأسه فكيف وقع ذلك في القرآن الكريم وهو الكتاب المعجز؟
وكان رد العلماء على ذلك أن قاسوا ما جاء في الآية على
ما هو متعارف لدى العرب من أنهم ينسبون إلى أشياء غير موجودة لديهم، ينسبون إليها
صفات مخيفة كالغول –التي لا وجود لها في حياتهم- ومع ذلك يقولون اغتالته الغول
مبالغة في هلاك إنسان ما، ومن ثم صارت عندهم مثلا لكل ما هو غاية الإهلاك والإفناء.
فكيف يكون المعنى صحيحًا عند امرئ القيس ولا يصح ذلك في
القرآن عندما شبه ثمر شجرة الزقوم في البشاعة والقبح برأس الشيطان الذي اشتهر
عندهم بأنه غاية في القُبح.
***