الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف
المرسلين، وخاتم النبيين، ورحمة الله للعالمين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،
ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
السنن الربانية
بتأييد الأنبياء بالمعجزات
فمن السنن الربانية أن الله عز وجل أيَّد رُسُلَه
بمعجزات دالة على صدق رسالتهم، وهذه المعجزات التي تؤيدهم في دعوتهم كانت بأروع ما
وصلت إليه أقوامهم من علوم أو فنون، فسيدنا موسى عليه السلام حين بُعث إلى قومه
الذين اشتهروا بالسحر، وضربوا فيه بسهم وافر، فشاء الله أن تكون معجزته من قبيل
الغريب العجيب ﴿فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ
مُبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ﴾
[الأعراف: 107، 108].
وسيدنا عيسى عليه السلام حين أُرسل إلى قومه كانت لهم
شُهرة في الطب والحكمة، فشاء الله أن يجري على يد سيدنا عيسى عليه السلام إبراء
الأكمة والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله، قال تعالى: ﴿وَرَسُولًا
إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي
أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ
طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ
الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا
تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 49].
وإن كانت معجزات الأنبياء أتت حقيقة من جنس ما شاع وذاع
لأقوامهم إلا أنها امتازت بزيادة بالغة وفضيلة تقصر دونها الهمم، فعصا موسى عليه
السلام تلقف ما يأفكون، وحكمة عيسى عليه السلام فاقت جميع الحكم حين يحيي الموتى
بإذن الله.
وكذلك أيد الله عز وجل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بمعجزات
حسيَّة كثيرة، ثم كانت معجزته الكبرى وهي القرآن الكريم، فقد بعث صلى الله عليه
وسلم إلى العرب وهم قوم أهل فصاحة وبلاغة؛ لذلك جعل معجزته الكبرى من جنس ما نبغوا
فيه فجاء القرآن الكريم معجزا لهم.
والسؤال: ما الفرق بين المعجزات الحسية ومعجزة
القرآن الكريم؟
والجواب: أن المعجزات الحسية استمدت حياتها من حياة من
شاهدها، فإن مات مَنْ عاصرها فإنها تكون أثرا بعد عين.
ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء
والمرسلين وأنه لا نبي بعده فكان من الضروري أن تكون معجزته خالدة وحجة في كل زمان
ومكان.
أما القرآن الكريم فإن إعجازه يتسم بصفة الخلود. وعندما
تلا النبي صلى الله عليه وسلم على قومه آيات من القرآن الكريم أدرك طواغيت مكة ما
للقرآن من إعجاز وأيقنوا أن هذا الكلام ليس من كلام البشر في شيء بل هو كلام رب
البشر، وكيف لا وهم أرباب البيان وأساطين الفصاحة.
***
تأثر العرب بسماع القرآن
معجزة القرآن الكريم ظاهرة كل ذي حس لغوي مرهف سليقة
وطبعا. وقد قرأ الرسول صلى الله عليه وسلم على الوليد بن المغيرة بعض الآيات
القرآنية، فقال له الوليد: أعد علي فأعادها عليه. فقال له الوليد: "إِنَّ
لَهُ لَحَلَاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً، وَأَنْ أَسْفَلَهُ لَمُغْدِقٌ،
وَإِنَّ أَعْلَاهُ لَمُثْمِرٌ، وإنه يعلو ولا يُعَلى، وما هو بقول بَشَر"، ثم
انصرف إلى منزله، وقد قال هذا الكلام لأنه استمعه بملكَة العربي الشَّغُوف بكل ما
هو جميل من القَوْل، لا بملَكِة العناد والكِبْر والغطرسة، فكانت تلك شهادة حق من
الوليد بن المغيرة في لحظة صدق مع نفسه.
فقالت قريش: صبأَ الوليد لَتَصْبُوَنَّ قريش كلها، فقال
أَبو جهل: أَنا أَكفيكموه فمضى إِليه حزينًا فقال له: ما لي أَراك حزينًا؟ فقال
له: وما لي لا أَحزن وهذه قريش يجمعون لك نفقة يعينونك بها على كبر سنك، ويزعمون
أَنك زينت كلام محمد وتدخل على ابن أَبي كبشة -يعني بذلك رسول الله- وابن أَبي
قحافة -يقصد أَبا بكر- لتنال من فضل طعامهما، فغضب الوليد وتكبر وقال: أَنا أَحتاج
إِلى كِسْر محمد وصاحبه؟ فأَنتم تعرفون قدر مالي، واللات والعُزَّي ما لي حاجة
إِلى ذلك، وإِنما أَنتم تزعمون أَن محمدًا مجنون فهل رأَيتموه قط يَخْنُق، قالوا:
لا والله قال: فتزعمون أَنه كذاب فهل جربتم عليه كذبًا قط؟ قالوا: لا والله، قال:
فتزعمون أَنه كاهن فهل رأَيتموه تكهن قط، وقد رأَينا للكهنة أَسجاعًا وتَخَالُجًا
فهل رأَيتموه كذلك؟ قالوا: لا والله. وكان النبي يسمى الصادق الأَمين من كثرة
صدقة، فقالت قريش للوليد: من هو؟ ففكر في نفسه ثم نظر ثم عبس، فقال: ما هو إِلا
ساحر. أَما رأَيتموه يُفَرِّق بين الرجل وأَهله وولده ومواليه، وما الذي يقوله
إِلا سحر يأَثره عن مسيلمة وعن أَهل بابل، فارتج النادي فرحًا وتفرقوا مُعْجَبِين
بقوله مُتَعَجَّبين منه.
وكذلك سيدنا عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه له حالان في سماع
القرآن: حال كفر وشدة وغلظة عند سماع القرآن، وحال إيمان ورقَّة قلب حينما بلغه
نبأ إسلام أخته، فأسرع إليها وهي تقرأ القرآن فصفَعها بقسْوة حتى أَدْمَى وجهها،
فأخذتْه عاطفة الرحم، وتغلبت على عاطفة الكفر عنده، فلما سمع القرآنَ بهذه العاطفة
الحانية تأثَّر به، فآمن مِنْ فَوْره؛ لأن القرآن صادف منه قَلْبًا صافيًا، فلا بد
أَنْ يُؤثِّر فيه.
وذكر أبو عبيدة أن أعرابيا سمع رجلا يقرأ: ﴿فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ﴾ [الحجر: 94] فسجد، وقال: سجدت
لفصاحة هذا الكلام، وكان موضع التأثير في هذه الجملة هو كلمة «اصدع» في إبانتها عن
الدعوة والجهد بها والشجاعة فيها، وكلمة «بما تؤمر» في إيجازها وجمعها.
وسمع آخر رجلا يقرأ: ﴿فَلَمَّا
اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا﴾ [يوسف: 80]. قال: «أشهد أن مخلوقا
لا يقدر على مثل هذا الكلام».
***
محاربة المشركين للقرآن
وقد حرصوا على أن يحولوا بين العرب وسماع القرآن الكريم؛
لأن تدبر العربي الفصيح لكلام الذكر الحكيم يجعله متيقنا أن هذا كلام الخالق عز
وجل وهذا يعني انتصارا للإسلام، ولذا جيشوا جيوشهم لإطفاء نور الله، وقد حكى
القرآن عنهم ذلك فقال: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا
تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ}
[فصلت: 26].
فبدأوا بالجدال والمعاندة والافتراء، فعلى من الرغم من
معرفتهم بأوزان الشعر العربي، وأن نظم القرآن الكريم خارج عن هذه الأوزان.
افتروا على الله كذبا وقالوا عن القرآن إنه شعر حتى
يضفوا البشرة على كلام الله عز وجل ويجعلوه من كلام البشر، وللشعر دولة عند العرب،
وهم بزعمهم أن القرآن شعر كان لهم غرض يتمثَّل في تزهيد العرب في السماع لرسول
الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ليس بشاعر ولم يُعرف عن قول الشعر قط، فمن أراد
سماع الشعر فليذهب إلى سوق عكاظ حيث فحول الشعراء.
وقالوا عنه إنه سحر وكهانة. بل ذهبوا إلى أن آيات القرآن
أساطير الأولين ولهم في هذا غاية واحدة هي صرف العرب عن سماع القرآن.
وكان من صنيعهم أيضا أنه إذا دنا موسم الحج وقفوا عند
مداخل مكة المكرمة يقومون بتحذير الوفود من الإصغاء لنبي الله صلى الله عليه وسلم.
***
التحدي ودرجاته من الكثرة إلى القلة
ينقسم التحدي بالقرآن إلى نوعين، عام وخاص:
والتحدي العام ورد لجميع الخلائق بما فيهم الفلاسفة
والعباقرة والعلماء، وجاء لجميع البشر دون استثناء عربهم وعجمهم أبيضهم وأسودهم،
مؤمنهم وكافرهم، قال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ
الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا
يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}
[الإسراء: 88].
أما التحدي الخاص فقد ورد للعرب خاصة، وعلى الأخص منهم
لكفار قريش، وقد ورد هذا التحدي على نوعين:
1-
تحدي كلي: وهو التحدي بجميع القرآن أو بحديث مثله في بيانه وفصاحته، قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ *
فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} [الطور: 33، 34].
2-
تحدي جزئي: وهو التحدي بأقل من ذلك وهو عشر سور، قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ
مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا
أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ
مُسْلِمُونَ} [هود: 13، 14]. ثم تحداهم بأقل القليل وهو الإتيان بسورة من
مثله، قال تعالى: تعالى: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ
أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ
وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَمْ
يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ
اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس: 37،
38]. وقال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا
نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا
شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ
تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ
وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 23، 24].
***
الحكمة
من هذا التحدي
1-
حتى يشهد التاريخ في كل عصر بعجز العرب الفصحاء عن الإتيان بسورة من مثله،
فقد كانوا مظنة محاولة ذلك، حتى لا يأتي من بعدهم فيزعمون أنهم كانوا قادرين على
الإتيان بمثله وأنه غير معجز.
2-
الطريقة التي أعجز بها هؤلاء كانت السبب في حفظ العربية واستخراج علومها.
***
زمن التحدي
زمن التحدي هو زمن الرسالة المباركة، فآيات التحدي
مذكورة في السور المكية وهي القصص والإسراء ويونس وهود والطور، والسور المدنية وهي
سورة البقرة. وقد انتهى الأمر في عصر النبوة بعجزهم، ولم يذكر لنا التاريخ أن
خطيبا أو شاعرا رام محاكاة القرآن الكريم مع وجود التحدي، وهم قوم معروفون بإجابة
المتحدي والنزال.
وأيضا لو حاكى أحدهم القرآن لوجد من المشركين من يكابر
فيه وينصره ويقول: القرآن قد طلب التحدي وقد أجاب فلان فعارض، ولكن كل ذلك لم
يحدث.
واختلف في زمن التحدي على رأيين: هل مختص بعصر الرسالة
أم هو ممتد عبر الدهور، وأرى أنه ممتد عبر الدهور.
***
جهة الإعجاز التي تحداهم بها
وفي القرآن الكريم الكثير من أوجه الإعجاز الأخرى
كالإعجاز التشريعي، والإخبار بالأمور الغيبية سواء المستقبلية منها أو الماضية،
لكن الإعجاز الذي وقع به التحدي هو نظم القرآن وما يتصل به من البلاغة والبيان، وهو
ما يسمى الإعجاز البياني فهم أساطين البيان ولذا جاء تحديهم بالبيان الذي برعوا
فيه، فقد كان العرب في زمن مبعث النبي صلى الله عليه وسلم إما شاعًرا وإما خطيبا
وإما ناقدًا، وإما ذو سليقة عربية مرهفة يدرك بها شأو البيان.
لقد فاجأهم القرآن الكريم بنمط من القول المعجز لا عهد
لهم به، فهو وإن تألّف من كلماتهم وحروف لغتهم فإنه ينصبّ في قالب متفرّد يدركون
حلاوته ويحسّون روعته دون أن يستطيعوا محاكاته.
فهو يتميز بأسلوب يُبْهِرُ عقول البشر من حيث البلاغة
والفصاحة، ورغم أنّه يتكوَّن من نفس أحرف كلام البشر، إلا أنه يمتاز بأسلوبه الذي
لا يستطيع أن يُضَاهيه أي مخلوق على وجه البسيطة، ويبقى نفس الأسلوب رغم مرور
العديد من القرون ورغم بساطة ألفاظه من جهة، وتنوعها من جهة، إلّا أنّها جاءت ذات
عمق دلالي يصلح لكل زمان ومكان، وهذا الأسلوب يجري على نسق بديع خارج عن المعروف
والمألوف من نظام جميع كلام العرب.
وتراكيب القرآن الكريم أعطته سمتًا فريدًا بينت لهم أن
هذه التراكيب فوق طاقة البشر، وأن نظم القرآن الكريم قد وقع موقعًا في البلاغة
العربية يخرج عن مقدور الإنس والجن معًا، وأن بلاغة مثل بلاغة العرب دون بلاغته،
وفصاحة العرب دون فصاحته.
وهذا النبيّ الذي نزل عليه الوحي، يأتي بالقول المبين في
حديثه وخطبه، ولكنّ أسلوبه في الحديث والخطب يبتعد ابتعادا شاسعا عن أسلوب الوحي
المنزل. فدلّ ذلك دلالة قاطعة على أن القرآن نمط إلهي ليس في طوق البشر محاذاته.
ولو جاز لأحد من بلغاء البشر أن يأتي بمثله لكان رسول الله وهو أفصح العرب قاطبة
أحقّ أن يكون هذا الذي يستطيع! أمّا أن يوجد هذا الفرق الشاسع بين أسلوب القرآن
وأسلوب الحديث النبوي فهو الدليل القاطع على أن القرآن من عند الله.
***
وأقسام علم البلاغة هى :علم المعاني
وعلم البيان وعلم البديع، ويقع التشبيه في علم البيان، وسنبدأ في سلسلة المقالات
القادمة إن شاء الله الحديث عن التشبيهات القرآنية.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل
***