أغراض التشبيه التي تعود فائدتها على المشبه في القرآن الكريم
تعريف أغراض التشبيه:
يقصد بأغراض التشبيه:
الفائدة التي يريد المتكلم أن يُعطيها للسامع عند استخدام أسلوب التشبيه. وهذا
الأغراض منها ما تعود فائدته على المشبه، ومنها ما تعود فائدته على المشبه به.
الأغراض العائدة على المشبه:
1- بيان حال المشبه وتوضيح صفته:
ويجيء ذلك عندما تكون صفة
المشبه غير معروفة للمخاطب ويُريد المتكلم بيان هذه الصفة عن طريق التشبيه، كقولك:
مسجد ابن طولون مثل مسجد الظاهر في شكله وهندسته.
ومنه قوله تعالى:
﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً﴾ [البقرة: 22].
في هذه الآية تشبيهان:
التشبيه الأول: (جَعَلَ
لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا) المشبه: الأرض. والمشبه به: الفراش. وأداة التشبيه:
محذوفة. ووجه الشبه: الانبساط والاستقرار. ونوع التشبيه: بليغ؛ لحذف أداة التشبيه
ووجه الشبه. وغرض التشبيه: بيان حال المشبه وتزيينه.
والتشبيه الثاني:
(وَالسَّمَاءَ بِنَاءً) المشبه: السماء. والمشبه به: البناء. وأداة التشبيه:
محذوفة. ووجه الشبه: الوقاية من الأضرار النازلة. ونوع التشبيه: بليغ؛ لحذف أداة
التشبيه ووجه الشبه. وغرض التشبيه: بيان حال المشبه وتزيينه.
يذكر ربنا جل ذكره من
نِعَمه عندهم وآلائه لديهم، ليذكروا أياديه عندهم، فيُنِيبُوا إلى طاعته تعطفًا
منه بذلك عليهم، ورأفة منه بهم، ورحمة لهم من غير ما حاجة منه إلى عبادتهم. ولكن ليتم نعمته عليهم ولعلهم يهتدون.
ففي التشبيه الأول: بيان
لنعمة الله سبحانه لنا بالأرض، حيث صيرها متوسطة بين الصلابة واللطافة، فكانت
مهيأة لأن يقعدوا ويناموا عليها، فهي كالفراش المبسوط في التمكن من الاستقرار
والاضطجاع عليه. وقد ابتدأ بالأرض؛ لأنها أول ما يخطر ببال المعتبر، ثم بالسماء
لأنه بعد أن ينظر لما بين يديه ينظر إلى ما يحيط به.
أما التشبيه الثاني: فإنه
شبه السماء بالبناء المتين الذي يدفع الأضرار عن الأرض.
***
2- بيان مقدار الصفة في المشبه:
وذلك عندما تكون صفة
المشبه معلومة، والمجهول مقدارها من جهة القوة والضعف، أو الزيادة والنقصان،
كقولك: (سواد شعرها كسواد الليل).
وكقولك: (مداد مثل خافية
الغُراب)، فإن سواد الغراب معروف، والتشبيه أفاد بيان شدة سواده، والخوافي: ريشات
إذا ضمَّ الغرابُ جناحه خفيت، ويُضرب بها المثل في شدة السواد لدى الغراب.
ومنه قوله تعالى:
﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ
وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران: 133].
المشبه: عرض الجنة.
والمشبه به: عرض السماوات والأرض. وأداة التشبيه: محذوفة. ووجه الشبه: السعة
والعظمة. ونوع التشبيه: بليغ؛ لحذف أداة التشبيه ووجه الشبه. وغرض التشبيه: بيان
مقدار حال المشبه.
والمراد بهذا التشبيه وصف
سعة الجنة وبيان مقدارها، فشُبِّهَت بأوسع ما علمه الناس من خلقه وأبسطه كما أن
العرض أقصر الامتدادين، ففي ذكره دون ذكر الطول مبالغة، وزاد في المبالغة بحذف
أداة التشبيه، فكان تشبيهًا بليغًا.
***
3- تأكيد وتقرير ثبوت الصفة للمشبه:
وذلك عندما يكون كل من
الصفة والمقدار معلومين وأريد بالتشبيه تأكيد اتصاف المشبه بالصفة وتحقيقها له،
كتشبيه من لا يحصل من علمه على نتيجة بالقابض على الماء، ومنه قول ابن الرومي:
بَذَل الوعدَ للأخِلاّءِ
سَمْحًا وأبَى بَعْدَ ذاكَ
بَذْلَ العَطَاءِ
فغدَا كالخِلافِ يُورِقُ
للعَيـ نِ ويأبى
الإثمار كلَّ الإباء
يحدثنا الشاعر عن إنسان
يبذل لك الوعد في سخاء، بينما تراه يتخلف عن ركب الأوفياء، ثم ما لبث أن أراكه
عيانًا في شجرة الصفصاف، يبهرك رواؤها، بينما تراها عقيمًا لا تلد، ولا تثمر.
فقد اشتمل البيت الأول
على صفة المشبه كاملة، وجاء بالتشبيه في البيت الثاني: ليؤكدها ويقررها، حيث شبههم
في عدم الوفاء بما بذلوه من وعود سخية بشجر الخِلَاف – وهو الصفصاف- فإن له منظر
يُغري من يراه فيطمع في ثمره فلا يجد له ثمرًا مع حُسن منظره.
ومن شواهده في القرآن
الكريم: قوله تعالى: ﴿وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ﴾
[الأعراف: 171].
المشبه: الجبل؛ حين رفعه
الله تعالى فوق رؤوس بني إسرائيل. والمشبه به: ظلة الغمام أو السقيفة. وأداة
التشبيه: كأنّ. ووجه الشبه: التظلل. ونوع التشبيه: مرسل مجمل؛ مرسل: لذكر أداة
التشبيه، ومجمل: لحذف وجه الشبه. وغرض التشبيه: تأكيد وتقرير ثبوت الصفة للمشبه.
يقول سبحانه وتعالى لنبيه
محمد صلى الله عليه وسلم: واذكر يا محمد إذ اقتلعنا الجبل، فرفعناه فوق بني
إسرائيل، كأنه ظلة غمام من الظلام، أو سقيفة وأيقنوا أنه ساقط عليهم؛ لأن الجبل لا
يثبت في الجو.
ورَفْعُ الجبل على رؤوس
اليهود لم تَجْرِ به عادة، فوضحه بما جرت به العادة وهو المظلة للتأكيد والتقرير.
وفي تشبيه الله تعالى الجبل بالظلة، دقة في الوصف، ليتخيل السامع المشهد، فيزيد
تأثره به. بالإضافة لمنع تَوَهُّم المعنى المجازي لرفع الجبل، بل رفعه سبحانه –
بقدرته – حقيقةً فوق رؤوسهم!
4- بيان إمكان وجود الصفة في المشبه وعدم استحالتها:
ويكون ذلك إذا كان المشبه
من الأمور الغريبة التي يستبعد العقل حصولها، ويجيء التشبيه لإزالة الشك في
وجودها، والاستدلال على صحتها، كما في قول المتنبي:
فإنْ فقت الملوك وأَنْتَ
مِنْهُمْ فَإنَّ المِسْكَ بَعْضُ دَمِ
الغَزَالِ
أراد أنه فاق الملوك في
الأوصاف الفاضلة إلى حد بطل معه أن يكون واحدًا منهم بل صار نوعًا آخر برأسه أشرف
من الملوك، فيتناهى بعض أفراد النوع في الفضائل إلى أن يصير كأنه ليس منها أمر
غريب يفتقر من يدعيه إلى إثبات جواز وجوده على الجملة حتى يجيء إلى إثبات وجوده في
الممدوح فقال: (فإن المسك بعض دم الغزال).
أي ولا يعد في الدماء، لأن فيه من الأوصاف الشريفة التي لا يوجد شيء منها
في الدم، وخلوه من الأوصاف التي لها كان الدم دمًا، فأبان أن لما أدعاه أصلاً في
الوجود على الجملة.
ومن شواهده في القرآن
الكريم:
قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ
أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ
قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾ [آل عمران: 40].
المشبه: أفعال الله
سبحانه وفق مشيئته. والمشبه به: قدرة الله سبحانه على خلق الجنين من شيخ وعاقر.
وأداة التشبيه: (الكاف). ووجه الشبه: القدرة المطلقة. ونوع التشبيه: مرسل مجمل؛
مرسل: لذكر أداة التشبيه، ومجمل: لحذف وجه الشبه. وغرض التشبيه: بيان إمكان
المشبه.
فسيدنا زكريا عليه السلام
قال: حين نادته الملائكة أن الله يبشرك بيحيى عليه السلام كيف يكون لي غلام وقد
بلغني الكبر، يعني من بَلَغَ من السن ما بَلَغْتُ لم يولد له، وامرأتي عاقر لا
تلد، قال كذلك الله أي هو ما وصف به نفسه أنه هين عليه أن يخلق ولدًا من الكبير الذي
قد يئس من الولد، ومن العاقر التي لا يُرجى من مثلها الولادة، كما خلقك يا زكريا
من قبل خلق الولد منك ولم تك شيئًا؛ لأنه الله الذي لا يتعذر عليه خلق شيء أراده،
ولا يمتنع عليه فعل شيء شاءه لأن قدرته القدرة التي لا يشبهها قدرة.
وقد جاءه الجواب في بساطة
ويسر، يرد الأمر إلى نصابه، ويرُدَّه إلى حقيقته التي لا عُسْرَ في فهمها، ولا
غرابة في كونها: كذلك! فالأمر مألوف مكرر مُعَاد حين يُرَدُّ إلى مشيئة الله،
وفعله الذي يتم دائمًا على هذا النحو!
ومنه أيضًا قوله تعالى:
﴿قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ
كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ
لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [آل عمران: 47].
المشبه: ولادة عيسى عليه
السلام من غير أب. والمشبه به: خلق الله سبحانه لما يشاء. وأداة التشبيه: (الكاف)،
ووجه الشبه: قضاء الله سبحانه للأمر بقول كن فيكون، ونوع التشبيه: مرسل مفصل؛
مرسل: لذكر أداة التشبيه، ومفصل: لذكر وجه الشبه، وغرض التشبيه: بيان إمكان
المشبه.
قالت السيدة مريم -بعد
بشارة الملائكة لها بالولد -من أي وجه يكون لي ولد؟ قالت ذلك تعجبًا؛ إذ لم تكن
جرت العادة بأن يولد ولد بلا أب. (قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ
إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) يعني هكذا يخلق الله
منك ولدًا لك من غير أن يمسَّك بشر فيجعله آية للناس وعبرة، فإنه يخلق ما يشاء
ويصنع ما يُريد؛ لأنه لا يتعذَّر عليه خلق شيء أراد خلقه، إنما هو أن يأمر إذا
أراد شيئًا فيقول له كن فيكون.
***
ويشترط البلاغيون لتحقيق
هذه الأغراض الأربعة: بيان حال المشبه وتوضيح صفته، وبيان مقدار الصفة في المشبه،
وتأكيد وتقرير ثبوت الصفة للمشبه، وبيان إمكان وجود الصفة في المشبه وعدم استحالتها،
أن يكون وجه الشبه في المشبه به أقوى وأتم وأقوى منه في جانب المشبه، وأن يكون وجه
الشبه في المشبه به أكثر شُهرةً ومعرفة عند الناس، كالشجاعة عندما تكون وجه شبه
بين الرجل الشجاع والأسد، فإن هذه الصفة في الأسد، وهو (المشبه به)، أقوى وأكمل
عمَّا في الرَّجُل.
***
5- تزيين المشبه وتجميله:
وذلك عند مدحه والترغيب
فيه فيصوره المتكلم في صورة شيء أجمع الناس على حُسنه وجماله، ومن ذلك قول النابغة
يمدح النعمان:
فَإِنَّك شَمْسُ والملوك
كواكب إذا طلعت لم يبد منهن كوكب
شبه النعمان بالشمس وشبه
الملوك بالكواكب، والمراد بيان عظم حال النعمان وصغر حال الملوك الآخرين إذا قيسوا
به، فالغرض هنا تزيين المشبه.
ومن شواهده في القرآن
الكريم: قوله تعالى: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ
مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ
أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ
فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [البقرة: 265].
فالغرض البلاغي في الآية
تزيين المشبه؛ للترغيب في الإنفاق في سبيل الله، أي: مثل نفقه الذين ينفقون في
سبيل الله كمثل بُستان كائن بمكان مرتفع مأمون، فإن أشجاره تكون أحسن منظرًا،
وأزكى ثمرًا، فإذا جاء الوابل لم يذهب بالتربة بل أحياها وأخصبها ونمَّاها، فكذلك نفقتهم
في سبيل الله تكون زائدة مضاعفة.
***
6- تقبيح المشبه وتشويهه:
يقبح المشبه ويظهر في
صورة مُنَفِّرة تتقزز منه النفس؛ ليتخيله المخاطب كذلك فيرغب عنه، ومن ذلك قول
الشاعر:
وإنَ شَدَا
فَصَوْتُهُ صَوتُ دَجَاجٍ يُمْسَكُ
فقد شوَّه صوته وسخر به.
ومنه قوله تعالى:
﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي
يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾ [البقرة: 275].
والغرض من التشبيه في
الآية: تقبيح المشبه؛ للتنفير من الربا، أي: يخبر الله عن أكل الربا، وسوء مآلهم
وشدة منقلبهم، فيُبعث أكلة الربا يوم القيامة من قبورهم حيارى سكارى مضطربين أشبه
بالمجانين، فيعرفهم أهل الموقف بأنهم أكلة الربا في الدنيا؛ وصورهم بهذه الصورة
القبيحة حتى يكون رادعًا للمرابين في الدنيا، فتهون عليهم أموال الدنيا أمام أهوال
يوم القيامة.
***
7- استطراف المشبه:
وذلك بأن يكون المشبه به
مما يندر خطوره بالبال؛ لكونه لا وجود له في الواقع، أو للبُعْد بين المشبه المشبه
به في الجنس، فيظهر المشبه عندئذٍ في صورة الشيء العجيب الذي يثير في النفس كوامن
الاستحسان والإعجاب.
من ذلك تشبيه (فحم فيه
جَمر مُتَّقد ببحر من الْمِسْك موَّجه الذَّهب)، فوجه الشبه الهيئة الحاصلة من
وجود شيء مضطرب مائل إلى الحمرة في وسط شيء أسود.
ومن ذلك أيضا: تشبيه محمر
الشقيق بأعلام من ياقوت منشورة على رماح من زبرجد، وتشبيه النجوم في أديم السماء
بدرر نثرن على بساط أزرق؛ ففي هذه التشبيهات نجد المشبه به من المركبات الخيالية
التي يندر خطورها بالذهن؛ ولذا برز المشبه في صورة عجيبة ممتنعة تثير في النفس
كوامن الاستحسان، والإعجاب، والاستطراف.
***