سورة القدر
ما هى ليلة القدر: هي الليلة التي أنزل الله عز وجل فيها القرآن الكريم،
قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْر} [القدر: 1]، وهذه
الليلة هي أحد ليالي شهر رمضان المبارك قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي
أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185].
وقد حددت السنة النبوية المطهرة أن هذه الليلة تكون في الأيام العشر
الأخيرة منه، وفي الليالي الوترية خاصة، روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي
الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «التَمِسُوهَا في العَشْرِ
الأوَاخِرِ مِن رَمَضَانَ لَيْلَةَ القَدْرِ، في تَاسِعَةٍ تَبْقَى، في سَابِعَةٍ
تَبْقَى، في خَامِسَةٍ تَبْقَى».
وذهب أكثر العلماء إلى تحديدها بأنها ليلة السابع والعشرين من رمضان،
وذهب بعض العلماء إلى أن هذه الليلة تتنقل في الليالي الوترية، فتأتي كل عام في
ليلة مختلفة عن العام السابق. روى البخاري في فضلها عن أبي هريرة رضي الله عنه أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال عنها: «... وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ
إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».
ومعنى (ليلة القدر) أنها ليلة الشَّرَف والعِظَم، وقيل: معناه أنها
هي ليلة الحُكم، أي: التقدير، وسُميت بالقدر؛ لأن الله سبحانه وتعالى يُقدِّرُ
فيها ما يشاء من أمره إلى مثلها من السنة القابلة من أمر الموت والأجل والرزق وغير
ذلك ويُسلمه إلى مدبرات الأمور من الملائكة.
وقد ورد ذكر ليلة القدر في القرآن الكريم في سورة كاملة سميت
بالقدر، قال تعالى:
{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا
لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3)
تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ
(4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)} [القدر: 1 - 5].
بدأت آيات سورة القدر بقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي
لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1]، وهي جملة اسمية، وتستخدم الجملة الاسمية للدلالة
على الثبات في الحكم، والاستمرار في معناه على الدوام. وجاءت هذه الجملة الاسمية
مؤكدة بـ (إنَّ)، والتأكيد يراد به تقرير الحقائق، وترسيخ المفاهيم. والضمير (نا)
الدال على الفاعلين في قوله: (أنزلناه) يدل على العظمة، فالمولى عز وجل هو الذي
تولَّى إنزال القرآن الكريم في هذه الليلة.
والهاء في قوله: (أَنْزَلْنَاهُ) ضمير يعود على القرآن الكريم، وفي
الإتيان بضمير القرآن دون الاسم الظاهر إيماء إلى أنه حاضر في أذهان المسلمين لشدة
إقبالهم عليه وشهرته بينهم. وقد ورد التصريح بذكره في قوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي
أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185].
وورد في إنزاله قولان:
القول الأول حكاه الماوردي عن ابن عباس أن الله تعالى أنزل القرآن في
رمضان وفي ليلة القدر في ليلة مباركة جملة واحدة من عنده تعالى في اللوح المحفوظ
إلى السَّفرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا، فنجَّمته السفرةُ على جبريل،
ونجَّمه جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة.
والقول الثاني: أن الله تعالى ابتدأ بإنزاله في ليلة القدر، فأنزل في
تلك الليلة خمس الآيات الأول من سورة العلق ثم فتر الوحي ثم عاد إنزاله منجَّما،
ولم يكمل إنزال القرآن إلا بعد نيف وعشرين سنة.
وذكرها الله عز وجل بهذا الاسم (ليلة القدر) تشويقا لمعرفتها، فهي لم
تكن معروفة عند المسلمين بهذا الاسم، ولذلك عقب بقوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا
لَيْلَةُ الْقَدْرِ} [القدر: 2].
والتعريف في (القدر) تعريف الجنس. ولم يقل: في ليلة قدر، بالتنكير؛
لأنه قصد جعل هذا المركب بمنزلة العَلَم لتلك الليلة كالعلم بالغلبة؛ لأن تعريف
المضاف إليه باللام مع تعريف المضاف بالإضافة أوغل في جعل ذلك المركب لقبا لاجتماع
تعريفين فيه.
وقوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} [القدر: 2] أسلوب
استفهام يفيد التعظيم، فكلمة (ما أدراك ما كذا) كلمة تقال في تفخيم الشيء وتعظيمه،
والمعنى: أي شيء يعرفك ما هي ليلة القدر، أي يعسر على شيء أن يعرفك مقدارها.
وقوله: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3]، فُصِلت هذه
الجملة عن سابقتها؛ لأنها استئناف بياني، فهي جواب عن السؤال المذكور في الآية
السابقة، وجاء بهذا الأسلوب من سؤال وجواب؛ لإدخال الراحة والاستقرار في نفس
المستمع، وغرسه في حسه، وتمكين الجواب في وعيه. وأعيد ذكر اسم (ليلة القدر) مرتين
بالاسم الظاهر دون استخدام الضمير بعد ذكره بالاسم الظاهر في مطلع السورة، فهو
إظهار في موضع الإضمار، وخروج على مقتضى الظاهر، وجاء بهذا الأسلوب تشريفًا لهذه
الليلة وتعظيمًا لها وقصدًا إلى تعيينها والاهتمام بها.
وقوله: {خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} أسلوب التفضيل، فأصلها (أخير) بوزن أفعل، أيْ
ليلة القدر أخير، وأكثر فضلا من ليالي ألف شهر ليست فيها ليلة قدر، وتفضيلها
بالخير على ألف شهر إنما هو بتضعيف فضل ما يحصل فيها من الأعمال الصالحة واستجابة
الدعاء ووفرة ثواب الصدقات والبركة للأمة فيها.
وقوله: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ
كُلِّ أَمْرٍ} [القدر: 4]، جاءت هذه الآية مفصولة عما قبلها؛ لكمال الاتصال، فهي
بدل اشتمال مما قبلها. وأصل (تَنَزَّلُ) تتنزل فحذفت إحدى التاءين اختصارا،
والتَّنَزُّل: بالتشديد دليل على الكثرة؛ فالزيادة في المبنى تدل على الزيادة في
المعنى. والتعبير بالفعل المضارع (تَنَزَّلُ) مؤذن بأن هذا التنزل متكرر في
المستقبل بعد نزول هذه السورة. والمراد بالروح فيها هو جبريل عليه السلام، وأفراد
ذكره مع أنه من الملائكة من باب ذكر الخاص بعد العام تنبيهًا لمكانته وعلوِّ شأنه.
وقوله: (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) معناه أن هذا التنزل كرامة أكرم الله بها المسلمين بأن أنزل لهم في
تلك الليلة جماعات من ملائكته وفيهم أشرفهم، وكان نزول جبريل في تلك الليلة ليعود
عليها من الفضل مثل الذي حصل في مماثلتها الأولى ليلة نزوله بالوحي في غار حراء.
وقوله: (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) متعلق بـ (تَنَزَّل) إما بمعنى السببية، أي يتنزلون بسبب إذن ربهم
لهم في النزول فالإذن بمعنى المصدر، وإما بمعنى المصاحبة أي مصاحبين لما أذن به
ربهم، فالإذن بمعنى المأذون به من إطلاق المصدر على المفعول.
وقوله: {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 5]، السلام:
مصدر أو اسم مصدر معناه السلامة، ويطلق السلام على التحية والمدحة، وفسر السلام
بالخير، والمعنيان حاصلان في هذه الآية. والتنكير في قوله: (سَلَامٌ) يفيد
التعظيم. وتقديم المسند وهو الخبر (سَلَامٌ) على المسند إليه وهو المبتدأ (هِيَ)؛
لإفادة الاختصاص، أي: ما هي إلا سلام. والقصر ادعائي؛ لعدم الاعتداد بما يحصل فيها
لغير الصائمين القائمين.
وقوله: (حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) غاية لما قبله من قوله: (تَنَزَّلُ
الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ
هِيَ). والمقصود من الغاية إفادة أن جميع أحيان تلك الليلة معمورة بنزول الملائكة
والسلامة، فالغاية هنا مؤكدة لمدلول ليلة القدر، لأن الليلة قد تطلق على بعض
أجزائها. وذكر نهايتها بطلوع الفجر؛ ليحرص الناس على كثرة العمل فيها قبل
انتهائها. وجيء بحرف (حتى) لإدخال الغاية؛ لبيان أن ليلة القدر تمتد بعد مطلع
الفجر بحيث إن صلاة الفجر تعتبر واقعة في تلك الليلة؛ لئلا يتوهم أن نهايتها
كنهاية الفطر بآخر جزء من الليل، وهذا توسعة من الله في امتداد الليلة إلى ما بعد
طلوع الفجر.
***
والسؤال الذي يطرح نفسه: هل الحديث في السورة عن ليلة القدر خاص
بالليلة التي أنزل فيها القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم فقط، أم أن فضل هذه
الليلة يتعدى إلى الليالي الموافقة لها في كل رمضان فتكون لها مثل هذا الفضل؟
والجواب: أن فضل هذه الليلة يتعدى إلى الليالي الموافقة لها في كل
رمضان في كل عام فيكون لها مثل هذا الفضل؛ لأن ليلة القدر الأولى التي ابتدئ فيها
نزول القرآن قد انقضت قبل أن يشعر بها أحد عدا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إذ
كان قد تحنَّث فيها، وأُنزل عليه أول القرآن الكريم وهي آيات من سورة العلق، ثم
رجع صلى الله عليه وسلم إلى أهله في صبيحتها.
ولولا إرادة الله عز وجل التعريف بفضل الليالي الموافقة لهذه الليلة
في كل السنوات التي جاءت بعدها لاقتصر على بيان فضل تلك الليلة الأولى فقط، ولما
كانت هناك حاجة إلى تنزُّل الملائكة في الليالي الموافقة لها، ولا إلى تعيين
منتهاها، ولا حثَّ النبي صلى الله عليه وسلم على التماسها في العشر الأواخر من كل
رمضان في كل عام.
فثبت بهذا أن الله جعل لنظير تلك الليلة من كل سنة فضلا عظيما؛ لكثرة
ثواب العبادة فيها في كل رمضان كرامة لذكرى نزول القرآن وابتداء رسالة أفضل الرسل
صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة.
تحليل سورة القدر بلاغيا
***
شكرا جزيلا
ردحذف