من أسرار النظم القرآني في قوله: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ}
قال تعالى : {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا}.
فعطف "المقيمين" على "المؤمنون" والقاعدة أنَّ العطف يوجب الاتحاد في الحكم ، فإمَّا أن تكون مرفوعة جميعًا وإما أن تكون منصوبة جميعًا، فما السرُّ في ذلك؟
كسر الإعراب أو "القطع" ، في لغة العرب يكون لنُكَتة بلاغيَّة، فهو أسلوب شائع في كلام العرب، وقد أشار إليه أئمة النحو في كتبهم، فعلى سبيل المثال يقول ابن عقيل ، رحمه الله ، في شرحه على الألفية :
"وإن لم يكونا مفردين ، بأن كانا مركبين ، (أي : الاسم واللقب) ، نحو : عبد الله أنف الناقة ، أو مركبا ومفردا نحو : عبد الله كرز ، (والكرز : هو القصير عظيم البطن والله أعلم) ، وجب الإتباع ، فتتبع الثاني ، "أي : اللقب" ، الأول ، "أي : الاسم" في إعرابه ، ويجوز القطع إلى الرفع أو النصب ، (وهذا شاهد كلامنا) ، نحو : مررت بزيد أنفُ الناقة ، برفع أنف ، على إضمار مبتدأ ، فيكون تقدير الكلام : مررت بزيد هو أنفُ الناقة ، والنصب على إضمار فعل ، والتقدير : مررت بزيد أعني أنفَ الناقة ، والقطع في لغة العرب لا يكون إلا إلى الرفع والنصب فلا قطع إلى الجر ، فيصح أن تقول : هذا زيد أنفَ الناقة ، بالقطع إلى النصب ، ولا يجوز القطع إلى الجر ، والله أعلم. ينظر شرح ابن عقيل ، تحقيق الشيخ محمد محيي الدين 1/104
والقطع في المثال السابق للذم ، ولذلك فإن الأنسب في القطع إلى النصب أن يكون العامل المقدر دالا على الذم نحو : مررت بزيد أذم ، أو : أخص بالذم أنفَ الناقة .
وحذف المبتدأ عند القطع إلى الرفع من مواضع حذف المبتدأ وجوبا ، وإليه أشار ابن عقيل ، رحمه الله ، بقوله: "الأول ، (أي : من مواضع حذف المبتدأ وجوبا) : النعت المقطوع إلى الرفع : في مدح ، نحو : "مررت بزيد الكريمُ" أو ذم ، نحو : "مررت بزيد الخبيثُ" أو ترحم ، نحو : "مررت بزيد المسكينُ" فالمبتدأ محذوف في هذه المثل ونحوها وجوبا ، والتقدير : (هو الكريم ، وهو الخبيث ، وهو المسكين)" . اهـ ينظر شرح ابن عقيل1/209
ويقول إمام النحاة ابن هشام ، رحمه الله ، في أوضح المسالك: "ثم إن كان اللقب وما قبله مضافين ، كــ : عبد الله زين العابدين ، أو كان الأول مفردا والثاني مضافا كـــ : كزيد زين العابدين ، أو كانا العكس ، كـــ : عبد الله كرز ، أتبعت الثاني للأول : إما بدلا ، أو عطف بيان ، أو قطعته عن التبعية ، (وهو : شاهدنا في هذا الموضع) ، إما برفعه خبرا لمبتدأ محذوف ، أو بنصبه مفعولا لفعل محذوف. بتصرف من "أوضح المسالك" ، ص53 .
ففي قولك : مررت بعبد الله زين العابدين ، إما أن تتبع "زين" ، لـــ : "عبد" المجرورة ، فتجرها كبدل أو عطف بيان ، بدليل جواز إتيان الثانية محل الأولى دون أن يختل المعنى فتقول : مررت بزين العابدين ، فــ "زين العابدين" هو "عبد الله" و "عبد الله" هو "زين العابدين" .
وأما القطع : فقد سبقت الإشارة إليه في كلام ابن عقيل ، رحمه الله ، فالرفع بتقدير مبتدأ محذوف تقديره : هو ، والنصب بتقدير فعل محذوف : أعني ، والله أعلم .
وعليه يحمل قولك : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، برفع ونصب "الرجيم" ، فتقدير الرفع : أعوذ بالله من الشيطان هو الرجيمُ ، وتقدير النصب : أعوذ بالله من الشيطان أذم الرجيمَ ، من الذم ، فالفعل المقدر يجب أن يكون مناسبا للسياق ، والسياق هنا سياق ذم ، والله أعلم .
ومنه أيضا :قوله تعالى : {رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} ، بقطع : "أهلَ" إلى النصب مدحا لدلالة السياق على ذلك ، فيكون تقدير الكلام : أعني أهلَ البيت ، أو أخص بالمدح أهلَ البيت.
وقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "نحن معاشرَ الأنبياء لا نورث ، ما تركنا صدقة"
فالنصب على الاختصاص ، فيؤول الكلام إلى : نحن أخص بالذكر : معاشرَ الأنبياء ...
وقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "إنا آلَ محمد لا تحل لنا الصدقة" فالنصب على الاختصاص أيضا ، فيؤول الكلام إلى : نحن أخص بالذكر : آلَ محمد .....................
ففي كل ما سبق بيان لجواز القطع في لغة العرب من جهة: الصناعة النحوية.
فيقال في الآية محل البحث:
وقع القطع في السياق مرتين : {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ}
فالسياق ابتداء جارٍ على الرفع : "الراسخون" و "المؤمنون" ، ثم قطع إلى النصب على الاختصاص في : "والمقيمين" ، ثم قطع إلى الرفع مرة أخرى ليرجع السياق إلى ما كان عليه ، بتقدير مبتدأ محذوف لـــ : "المؤتون" ، فيكون تقدير الكلام : وأخص بالذكر المقيمين الصلاة ، ثم يقطع إلى الرفع بتقدير : وهم المؤتون الزكاة .
وأما من جهة الصناعة البلاغية: فإن الكسر أو القطع في الإعراب ، يلفت نظر السامع إلى معنى جديد في الكلام ، فهو بمثابة جرس إنذار يسترعي انتباه القارئ لنكتة في هذا الموضع من السياق ، إما أن تكون مدحا أو ذما أو تحذيرا أو ............... إلخ .
فمن أمثلة الذم:
قوله تعالى : {وامرأته حمالةَ الحطب} بنصب حمالةَ ، فتقدير الكلام : وامرأته أعني حمالةَ الحطب ، أو : وامرأته أذم حمالةَ الحطب ، والله أعلم .
ومن أمثلة التحذير:
قوله تعالى : {فقال لهم رسول الله ناقةَ الله وسقياها} ، بنصب "ناقةَ" ، فسياق الكلام ، للوهلة الأولى ، يرجح رفع : "ناقة" ، لأنها صدر جملة مقول القول ، ولكنها نصبت هنا على التحذير ، كما أشار إلى ذلك القرطبي ، رحمه الله ، فتقدير الكلام : احذروا ناقةَ الله ، أو : احذروا أن تمسوا ناقةَ الله بسوء ، والله أعلم .
ومن أمثلة المدح :
الآية التي بين أيدينا ، فتقدير الكلام : لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وأخص بالذكر أو أمدح المقيمين الصلاة .......... ، والله أعلم .
وحديث كعب بن عجرة ، رضي الله عنه ، عند الطبراني ، رحمه الله ، في "المعجم الكبير" ، وفيه : "نَحْنُ مَعَاشِرَ الأَنْصَارِ آمَنَّا بِهِ، وَاتَّبَعْنَاهُ، وَقَاتَلْنَا مَعَهُ" ، فالنصب على الاختصاص مدحا .
قال الزمخشري في الكشاف: "و{وَالمقيمين} نصب على المدح لبيان فضل الصلاة، وهو باب واسع ، وقد كسره سيبويه على أمثلة وشواهد ، ولا يلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحناً في خط المصحف، وربما التفت إليه من لم ينظر في الكتاب ولم يعرف مذاهب العرب وما لهم في النصب على الاختصاص من الافتنان ، وغبي عليه أنّ السابقين الأوّلين الذين مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كانوا أبعد همة في الغيرة على الإسلام وذبّ المطاعن عنه ، من أن يتركوا في كتاب الله ثلمة ليسدّها من بعدهم وخرقاً يرفوه من يلحق بهم . وقيل : هو عطف على { بِمآ أُنزَلَ إِلَيْكَ } أي يؤمنون بالكتاب وبالمقيمين الصلاة وهم الأنبياء . وفي مصحف عبد الله : «والمقيمون»، بالواو . وهي قراءة مالك بن دينار ، والجحدري ، وعيسى الثقفي" . اهـ
القراءات الواردة في الآية
في الآية قراءتان الأولى بالنصب "والمقيمين"وفيها ستة أقوال، والثانية بالرفع "والمقيمون" وفيها سبعة أوجه:
الأول: أنه منصوبٌ على القطع، وهو مذهب البصريين ،لأدلة سماعية مأثورة عن العرب منها:
ويأوي إلى نسوة عطـــــل *** وشعثـًا مراضيعَ مثل السعالى
ووافقهم في ذلك الفراء والنحاس والزجاج والزمخشري وابن هشام وأبو حيان، وهذا القول هو المرجح عند كثير من المحدثين. واللطيفة في النصب على المدح لبيان عظم شأن الصلاة.
أما الكوفيون فقد تأولوا الآية ، وذهبوا إلى منع جواز نصب "والمقيمين" على المدح ، لأنهم لا يجيزون النصب على المدح قبل تمام الكلام ؛ والخبر في الآية عندهم أتى متأخرا عن الكلمة المقصودة.
الثاني: أن يكونَ معطوفاً على "ما" في "بما أُنْزِل"، وإليه ذهب الكسائي وتبعه السيرافي ، وأيده الطبري ، فيكون التقدير :"والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ، وبالمقيمين الصلاة" وهم الأنبياء أو الملائكة أو المذهب والدين، على اختلاف بين المفسرين القائلين بهذا التأويل، أو الناقلين له . واختار هذا القول أيضا مكي بن أبي طالب ، وابن هشام .
الثالث: أن يكونَ معطوفاً على الكاف في "من قبلك"، والتقدير : (وما أنزل من قبلك ومن قبل المقيمين الصلاة) . وممن ذكره وأجازه القرطبي ، ومكي بن أبي طالب.
الرابع: أن يكونَ معطوفاً على الضمير في "منهم"، فيكون التقدير : (ولكن الراسخون في العلم منهم ومن المقيمين الصلاة) ، وممن أجاز هذا الوجه مكي بن أبي طالب.
الخامس: أن يكون معطوفاً على الكاف في "إليك"، والتقدير: (والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك .......... وإلى المقيمين الصلاة) وهم الأنبياء، وممن أجازه العكبري ، والقرطبي.
السادس: تضمين "لكن" بالنسبة إليها لفظ "إلا"، فتعمل عملها في النصب . ويكون أن المعنى أن "المقيمين الصلاة" مستثنون ممن أعد الله لهم العذاب الأليم المذكورين في الآية السابقة ، وذكره البقاعي ، وأجازه على بُعد.
ويظهر أن المذهب الراجح هو النصب على المدح ، وقال به جمهور البصريين، ووافقهم جماعة من الكوفيين لما يلي :
1- السماع من العرب.
2- لا دليل على منع النصب على المدح قبل تمام الكلام.
3- احتمال أن يكون الخبر في الآية هو جملة "يؤمنون" وعليه فالكلام تام، ولا وجه للاعتراض.
وصلى الله علي سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
تنبيه: ليس لي في هذا البحث إلا التجميع والتهذيب من مقالات منشورة فأحببت أن أنظمها في بحث واحد حتى تكمل الفائدة