أثر سيبويه النحوي على نشأة البلاغة العربية


           أثر سيبويه النحوي في نشأة البلاغة العربية
المقدمة
العلوم والفنون في القرن الثاني لم تكن قد تحددت بعد أو دخلت في دور التنسيق والتصنيف، والتقسيم، ووضع المصطلحات هنا وهناك عنوانا علي كل قسم، وتمييزا له عن سائر الأقسام، وإنما كانت العلوم والفنون وقتئذ متداخلة يصب بعضها في بعض ويثري بعضها بعضا، فاللغة، والنحو، والبلاغة كلها كانت بمثابة روافد متعددة تصب في مجري واحد هو أثراء اللغة والمحافظة علي سلامتها، وابراز جمالها وسيبويه في كتابه لم يكن متناولاً لفن واحدٍ من هذه الفنون، بل كان متناولاً لها جميعا، ومنظما لها في عقد واحد، فلم يطف بخاطره أو بأذهان المعاصرين له أن يفصلوا بين هذا العلم أو ذاك،أو يضعوا مصطلحا لهذه الفنون أو تلك، ولذلك فان سيبويه في إدراكه لتداخل العلوم قد اهتدي الي ربط النحو بالمعاني، فنفث في النحو روحا مشعة لها جلالها وقيمتها حتي تطور هذا الربط إلي أقصي درجاته علي يد عبدالقاهر الجرجاني، غيرأنه وأسفاه لم يكتب لهذه الروح العمر المديد، بل أزهقت في قضبة السكاكي حين فصل بعضها عن بعض فوضع المصطلحات لم يكن يعني العلماء في القرن الثاني الهجري، وانما الذي كان يعنيهم حقا هو نبش تلك المناجم العلمية والفنية واستخراج ما في جوفها من كنوز، وازاحة الأتربة العالقة بها حتي تتلألأُ أمام العيون ويتكشف ما فيها من بريق يجذب أنظار العالم، و يسترعي انتباهم، فاستخراج الكنوز هي المهمة الأولي التي تعنيهم وليس وضع الأسماء لمحتويات هذه الكنوز ثم بعد أن يبدأ كل شيء ويستقر في موضعه فإن الزمن في خدمة العلماء، والتطور العلمي كفيل بوضع الاسم المناسب لكل نوع من هذه الأنواع ولا يحق لمنصف أن يتنكر لجهود سيبويه التي قدمها لخدمة البلاغة العربية،بدعوي أنه لم يذكر لها مصطلحات، أو لأنه لم يضع لها قوانين، كالمصطلحات والقوانين التي عرفناها فيما بعد، وأنما يحق لنا أن نقول دون ادعاء أو مبالغة ان سيبويه كان حجر الأساس في بناء البلاغة العربية بما ذكره من موضوعات تدخل في علم المعاني كالحذف والزيادة، والذكر والإضمار، والتقديم والتأخير، والاستفهام والقصر، والفصل والوصل، والمجاز العقلي، والتعريف والتنكير ومقتضي الحال، القلب، كما تعرض لصور من خروج الكلام علي مقتضي الظاهر، ولم يفته أن يتناول أسرار التراكيب وتأليف الكلمات، وصوغ العبارات، وابراز الفرق بين تعبير وآخر،أن اهتمامه لم يكن قاصرا علي أواخر الكلمات، و بيان إعرابها و بنائها وإنما تجاوز ذلك إلي نظم الجملة والجمل.
نشأة علم النحوان النحو قبل سيبويه لم تكن له صورة العلم ذي الابواب والفصول والقواعد العامة وانما كان مسائل متفرقة لا تجمعها قاعدة ولا يضمها باب جامع بل كانت ممتزجة بغيرها من مسائل اللغة والادب لتفسير القران وفهم أشعار العرب فاستطاع كتاب سيبويه أن يجمع القواعد ويرتبها ويعقد أبوابا يجمع فيها أشقاءها من المسائل النحوية فاعتبر بذلك أول كتاب لتدوين النحو وصل الينا بهذه الصورة الكاملة.
قد أطنب كثير من العلماء في مدح سيبويه وتقريظ كتابه بكلمات نلمح فيها الاعجاب العظيم لعمله الرائع الكبير يقول المازني من أراد أن يعمل كتابا كبيرا في النحو بعد كتاب سيبويه فليستحي مما أقدم عليه.(1)ابنُ جنّي يقول عنه: وقد حطب (جمع) بكتابه و هو ألف ورقة علما مبتكرا ووصفا متجاوزا لما يسمع ويري. (2)واذا أردنا آن نستقصي آراء العلماء في ثنائهم علي سيبويه واعجابهم بكتابه لضاق بنا المجال ويكفي أن نذكر أنهم أطلقوا اسم (الكتاب) علما اختصَّ به هذا المصنف دون بقية المصنفات الاخري فاذا أطلقت كلمة الكتاب فهم أن المراد هو كتاب سيبويه دون غيره بل ان سيبويه نفسه من فرط اعجابه بالكتاب وقيمته أسماه قرآن النحو فالسيوطي يقول عن سيبويه: هو أعلم الناس بالنحو بعد الخليل وألف كتابه الذي سماه قرآن النحو وعقد أبوابه بلفظه ولفظ الخليل.(3)
لاشك أن النحو قد تطور بعد سيبويه فزادت عليه مسائل ودخل عليه تنظيم أحسن و تبويب أقوم وتقعيد أدق لكنه مع ذلك لم يخرج عن المنهج الذي رسمه سيبويه في استنباط الاحكام واستخراج المسائل وتوضيح العلل فالاجيالُ المتعاقبة لم تغير أسسه وقواعده وان غيرت صوره وقوالبه وجعلته فضفاضا يتسع لمختلف النواحي كما نري في كتاب المقتضب للمبرد و شرح الكافية للرضي والاول من الكتب المتقدمة والثاني من الكتب المتأخرة ولذلك مضي الناس يأخذون عن الكتاب جيلاً بعد جيل وعصرا وراء عصر حتي ملأ أسماع الدنيا وشغل بقواعده التي ظلت نجوما قطبية تجذبهم وتهديهم في مؤلفاتهم ومباحثهم وقيل فرق مابينه و بين الكتب التي جاءت بعد عصره كفرق ما بين كتاب في التقوي و كتاب في القانون ذلك يجمع جزئيات يدرسها و يصنفها ويصدر أحكامها فيها والآخر يجمع كليات يصنفها و يشققها علي الجزئيات.(4)
دور النحاة في نشأة علوم البلاغة وتطويرها:النحاة هم أصحاب الفضل الاول في نشأة علم البلاغة علي الرغم من أنها كانت في البداية نظرات متناثرة هنا وهناك ضمن مباحثهم النحوية ثم أتيح لمن أعابهم أن يصوغ من هذه النظريات العابرة قواعد بلاغية ذات صبغة علمية وقد رسخ أذهان الباحثين عن نشأة البلاغة وتطورهاأن أبا عبيدة هو أول من تناول البلاغة بالحديث.
واذا كان كتاب سيبويه ترجع أهميته العظمي عند الاقدمين لما حواه من قواعد نحوية نحتاج لتعلمها علي مر العصور حفاظا علي اللغة العربية و سلامتها فانه في نظرنا يجري بجوار ذلك تحليلاً رائعا واحساسا دقيقا بفقه اللغة وأساليبها وأسرار تراكيبها فهو لا يسجل أصول النحو وقواعده فحسب وانما يلاحظ العبارات ويتأملها ويستنبط خواصها ومعانيها بما وهب من حس دقيق مرهف كما يعد الكتاب ايضا شاملاً لدراسة بعض الظواهر المنسوبة الي لهجات القبائل المختلفة وما يتعلق منها بالاصوات وبناء الكلمة وبناء الجملة وغير ذلك مما يجده الباحث في أصول اللغة واللهجات والأصوات وقد كان الباحثون تجاه سيبويه فريقين:
الفريق الاول كان من المهتمين بالدراسات البلاغية فنظر الي سيبويه من خلال كتب عبدالقاهر فحسب عندما يشير اليه في بعض المواضع من دلائل الاعجاز ويرون في هذه الاشارة أثرا من آثار سيبويه في البلاغة بصفة عامة وفي عبد القاهر بصفة خاصة دون أن يكلفوا أنفسهم عناء النظر والفحص في كتاب سيبويه واستنباط ما نثر فيه من لمحات بلاغية عابرة حينا ومركزة أحيانا فظل الكتاب لوقتنا هذا غابة مجهولة وسرا مغلقا لكثير من الدارسين الذين يتوقون لاجتلاء معانيه وكشف اللثام عما فيه من نظرات ثاقبة لها أثرها الكبير في بناء صرح البلاغة العربية، فكان لزام علي من يتصدي لهذا العلم أن يعرض لجذوره الضارية في أعماق التاريخ لكي يصبح البحث مجديا و النتائج دقيقة.
والفريق الآخر كان من المهتمين بالدراسات النحوية فبحث كتاب سيبويه بحثا دقيقا لاستنباط ما يحلو له من قواعد في النحو و التصريف واللغة دون أن يمس آراءه البلاغية الا مسا خفيفا وبالتالي لم يضع بين أيدينا آراء سيبويه البلاغية جملة ومن أجل هذا كان بحث سيبويه حتي الان كرجل بلاغي يعد بحثا قاصرا و غير شامل وظل سيبويه كما هو مفتقر الي دراسة جادة مستفيضة تنفض عن آرائه البلاغية ما علق بها من ركام العلوم الاخري التي غلبت عليها و أخفتها عن العيون طيلة هذه القرون.
البلاغة في كتاب سيبويهتعريف المسند اليه وتنكيرهومن الألوان البلاغية المعروفة تعريف المسند اليه، هذا هو الأصل، لأنه المحكوم عليه والحكم علي المجهول لا يفيد، وهذه الحالة من أحوال المسند إليه، وتعليلها مشهورة في كتب المتأخرين ونري سيبويه لم يغفل هذا الموضع وبيان علته، و لكنه لم يقف عند ذلك، بل تعداه إلي نفسية المخاطب الذي يريد أن يفهم عن المتكلم، فإذا بقي الكلام مجهولاً عند المخاطب، أو مازال ملتبسا بغيره فهو ضرب من الألغاز والأحاجي، وسيبويه يوضح ذلك وضوحا شديدا، وفي فصاحة بيان يندر أن نجدها في ثنايا الكتاب ومتاهاته يقول في باب كان "واعلم أنه إذا وقع في هذا الباب نكرة ومعرفة فالذي تشغل به كان المعرفة، لأنه حد الكلام، لأنهما شي ء¨ واحد، وليس بمنزلة قولك ضرب رجل زيدا، لأنهما شيئان مختلفان وهما في كان بمنزلتها في الإبتداء إذا قلت عبداللّه منطلق تبتدي بالأعراف ثم تذكر الخبر، وذلك قولك كانَ زيدٌ حليما، وكانَ حليما زيدٌ، لا عليك أقدمت أم أخرت، الا أنه علي ما وصفت لك في قولك ضرب زيدا عبداللّه، فإذا قلت كانِ زيدٌ فقد ابتدأت بما هو معروف عنه، مثله عندك فإنما ينتظر أن تعرف صاحب الصفة، فهو مبدوء به في الفعل وإن كان مؤخرا في اللفظ، فان قلت كان حليما أو رجلٌ فقد بدأت بنكرة ولا يستقيم أن تخبر المخاطب عن المنكور... فالمعروف هو المبدوء به، ولا يبدا بنكرة بما يكون فيه اللبس " (5)فسيبوية يحدد لنا أن اسم كانَ وهو المبتدأ لابد أن يكون معرفة، وبالتالي لابد أن يتقدم حتي يبني المتكلم عليه الخبر، لأنه لا يصح البناء علي مجهول، واسم كان رتبته التقديم وان تأخر في وضعه من الجملة، والمخاطب تتشوف نفسه الي معرفة الوصف إذا تقدم اسم كان، أو إلي صاحب الوصف اذا تأخر فمدار الأمر أن المخاطب يريد أن يفهم وأن يعرف شيئا جديدا كان مجهولاً لديه وعلي المتكلم أن يراعي هذه الحاجة ويلبيها له، ولن يتحقق للكلام أن يكون مدخل من البلاغة، و مراعاة لمقتضي حال المخاطب إلا إذا ابتدأ بالمعرفة، و لو أنه بدا بنكرة لخرج من دائرة الحسن فضلاً عن أن يكون كلاما مستقيما. ولكن المسند إليه قد يأتي نكرة لأسباب أحصاها البلاغيون، فأحيانا ينكر للدلالة علي الوحدة، وأن المراد شخص واحد لا شخصين كقوله تعالي:"وجاء رجل من أقصي المدينة يسعي" أي رجل، وليس أكثر، وأحيانا يأتي التنكير للدلالة علي الجنس كأن تقول جاءني رجل وأنت تريد أن تنفي أن الجايي ء امراة، وقد يأتي التنكير للتعظيم،أو التحقير، ومثل له البلاغيون بالبيت المشهور لمروان بن أبي حفصة:
له حاجب عن كل شي ء يشينه
وليس له عن طالب العرف حاجب
فذكرت كلمة (حاجب) في البيت مرتين الأولي للتعظيم والثانية للتحقير، وغير ذلك من الأغراض التي يلم بها كل دارس للبلاغة، وقد رأينا عند سيبويه اهتماما بذكر أغراض التنكير، حيث أدلي فيها بدلوه، ففي الباب الذي عقده تحت عنوان (هذا باب تخير فيه عن النكرة بنكرة) يذكر فيه أغراض التنكير، وإنه يأتي للوحدة أو الجنس أو التعظيم فيقول "يقولُ الرجلُ أتاني رجلٌ يريدُ واحدا في العددِ لا اثنين، فتقول ما أتاك رجلٌ:أي امراةٌ أتتك، ويقول أتاني اليومَ رجلٌ أي في قوته ونفاذة فتقول ما أتاك رجلٌ: أي أتاك الضعفاء" (6)وواضح من هذا أن سيبويه قد طرق باب التنكير وبين بعض أعراضه، كما طرق باب التعريف، وغيره من الأبواب البلاغية.
الحذفمن يتصفح كتاب سيبويه يجده ينص في مواضع كثيرة علي ضرورة الحذف لاسباب نراها تدخل في فن البلاغة مثل التخفيف والايجاز والسعة ويبين لنا أن العرب قد جرت عادتها علي الحذف وحبذته من غير موضع ولغتها تشهد بذلك يذكر سيبويه أن الحذف لا يكون مطلقا حيث أردنا الحذف وانما يكون اذا كان المخاطبُ عالما به فيعتمد المتكلم علي بديهة السامع في فهم المحذوف.
في موضع يذكر لنا أن الحذف قد يكون لسعة الكلام والاختصار وذلك قولك متي سير عليه فيقول مقدم الحاج وخفوق النجم فانما هو زمن مقدم الحاج وحين خفوق النجم ولكنه علي سعة الكلام والاختصار(7)فسيبويه هنا يتحدث عن الحذف بصفة عامة ويبين السبب الذي ألجأ العرب اليه وأن الذي دفعهم الي ذلك أما طلب الخفة علي اللسان واما اتساع الكلام والاختصار ولابد في هذا الحذف أن يكون المحذوف معلوما لدي السامع وأنه سيفطن اليه لدلالة الكلام عليه. ويتحدث عن حروف الجر وحذفها وسبب الحذف ومن ذلك اخترت الرجال عبداللّه ومثل ذلك قوله تعالي: واختار موسي قومه سبعين رجلاً. وسميته زيدا فهذه الافعال توصل بحروف الاضافة يعني حروف الجر فتقول اخترت فلانا من الرجال وسيمته بفلان فلما حذفوا حرف الجر عمل الفعل (8)ويبين أن حذف الجار كثير في كلام العرب من ذلك قولهم أكلت بلدة كذا وكذا انما يريد أنه أكل من ذلك وهذا أكثر من أن تحصي.(9)
ويتحدث عن حذف المضاف اذا لم يلتبس علي المخاطب وكان الكلام مفهوما فهو في قول ابن داود:
أَكلُ امريء تحسبينَ امرءا
                            ونارٌ تُوقَّدُ بالليلِ نَارا

يقول فاستغنيت عن تثنيته بذكرك اياه في أول الكلام ولقلة التباسه علي المخاطب(10)ولكن عبدالقاهر يعترض علي مافهم عن سيبويه من أن الحذف مجاز اذا لا يصح أن توصف الكملة بالمجاز الا اذا نقلت عن معناها الي معني آخر والحذف لا يجري فيه نقل الكلمة من معناها ال أصلي الي معني جديد بل ان ما يحدث فيها هو تغيير الحكم الاعرابي فقط فقوله تعالي واسأل القرية أصلها واسألْ أهلَ القرية فقد كانت القرية مجرورة ثم صارت منصوبةً والقرية لم تستعمل في غير ما وضعت له.(11)
وسيبويه يخبرنا بأن الفعل انما يحذف ايجازا واستغناء بما يري من دلالة الحال عليه حين تقول العرب: حدث فلان بكذا وكذا فتقول صادقا واللّهِ أو انشدك شعرا فتقول صادقا واللّه أي قال صادقا:(12)
ويري أن من الفصاحة حذف خبر إنَّ واخواتها فقال: هذا باب ما يحسن عليه السكوت في هذه الاحرف الخمسة لاضمارك ما يكون مستقرا لها وموضعا لو أظهرته وليس هذا المضمر بنفس المظهر وذلك ان مالاً وان ولدا أي ان لهم مالاً وقال الاعشي:(13)
ان مِحِلَّا وان مُرْتَحِلاً
                    وان في السفر ما مضيمَهْلَا

وهو يتحدث عن حذف الصفة وما فيها من بلاغة لا تتوافر مع وجودها وأن هذه البلاغة يستشعرها المخاطب بل القائل نفسه اذا تأملها يقول الزجاج: وحكي سيبويه سير عيه ليل وهم يريدون ليل طويل وكأن هذا انما حذفت فيه الصفة بما دل من الحاح علي موضعها وذلك أنك تحسن في كلام القائل لذلك التطويح والتطريح والتعظيم ما يقوم في مقامه قوله طويل ونحو ذلك وأنت تحسن هذا من نفسك اذا تاملته كأن تقول مقام المدح كان واللّه رجلا فتطيل الصوت أي رجلاً فاضلاً شجاعا أو كريما.(14)
وهكذا نجد سيبويه يعرض للحذف بجميع الوانه من حذف حرف الجر والاسم سواء كان مضافا او مضافا اليه والمبتدأ والخبر والصفة والموصوف وحذف الفعل سواء كان للاغراء أو التحذير أو التعجب الي غير ذلك مراعيا في هذا الحذف التخفيف علي اللسان ووجود القرينة التي نلمحها في علم المخاطب وملاحظته في هذا الحذف شيئا من الفصاحة يخلو الكلام منها اذا كان تاما لا حذف فيه وكلما ذكره سيبويه من الوان الحذف اعتبرها البلاغيون من بعده مشتملة علي الفصاحة والبلاغة.
الذكركما وجد سيبويه للحذف أسبابا بلاغية وجد أَيضا للذكر دواعي يحسن بها الكلام ومن ثم فلا يجوز الحذف بحال من الاحوال: فالفعل عنده لا يحذف اذا كان لا يخطر علي بال المخاطب بان يكون غافلاً عنه او ان الحال لا تلفت اليه او اذا كان داعي النظم يقضيه ويحتميه كأن يأتي بعد حرف يستدعي ذكره بعده مثل ان وقد فيقول: اما الفعل الذي لا يحسن أخباره فانه ان تنتهي الي رجل لم يكن في ذكر ضرب لم يخطر بباله فتقول زيدا فلابد له من أن يقول اضرب زيدا وتقول له قد ضربت زيدا او يكون موضعا يقبح أن يعري من الفعل نحو ان وقد وماأشبه ذلك(15)
الزيادةويتحدث سيبويه أيضا عن الزيادة فيذكر زيادة الحروف وأثرها في الكلام و يتعرض لشتي الحروف التي تأتي زائدة في الكلام مثل الكاف والباء ومن وما ولا وان وغير ذلك فيقول عن الكاف في قولهم: النجاءك أنها جاءت توكيدا وتخصيصا ولم تجي للاضافة لان الاسم المقرون بأل لا يضاف.(16)وانما أحيانا تأتي زائدة بمعني مثل للتشبيه والمبالغة فيقول: وان ناسا من العرب اذا اضطروا في الشعر جعلوا الكاف بمنزلة مثل يقول حميد الارقط: فصيروا مثل كعصف المأكول وقول خطام المجاشعي و صاليات ككما يؤثفين.
ويعقب الاعلم علي قول سيبويه فيقول: و جاز الجمع بين مثل والكاف جوازا حسنا لاختلاف لفظهما مع ما قصده من المبالغة والتشبيه ولو كرر المثل لم يحسن(17)و يتحدث أيضا ليس ما معني سوي ما كان قبل أن تجي الا التوكيد و من ثم جاز ذلك اذا لم ترد به أكثر من هذا.(18)
التقديم والتأخيرسيبويه في صدر كتابه يحدثنا عن التقديم والتاخير وربما كان أول من طرق سرهذا اللون البلاغي من العلماء فنحن نلحظ أن العلماء قبله كيونس بن حبيب كانوا يعرفون التقديم والتاخير ولكهنم لم يقفوا علي اسراره البلاغية أما سيبويه حين يعالج التقديم والتأخير في الكلام فانه يلفت النظر الي سر بلاغي هام تلقفه علماء النحو و البلاغة فناقشوه مؤيدين ومعارضين فأثري بهذه اللفتة الطيبة كثيرا من المباحث البلاغية فيقول في باب الفاعل الذي يتعداه فعله الي مفعول: فان قدمت المفعول وأخرت الفاعل كقولك ضرب زيدا عبداللّه وكان حد اللفظ فيه أن يكون الفاعل مقدما وهو عربي جيد كثيركأنهم انما يقدمون الذي بيانه أهم لهم و هو ببيانه أعني وان كانا جميعا يهمانهم و يعنيانهم.(19) فمن شان المفعول أن يتاخر عن الفاعل ولكنه اذا تقدم فذلك لعلة قصد اليها المتكلم وهي العناية والاهتمام بشانه واذا كان تقديم المفعول عن الفاعل للعناية و الاهتمام فان تقديم المفعول علي الفعل ياتي لهذ الغرض البلاغي نفسه يقول: وان قدمت الاسم فهو عربي جيد كما كان ذلك عربيا جيدا و ذلك قولك زيدا ضربت والعناية و الاهتمام ههنا في التقديم والتاخير سواء منك في ضرب زيدٌ عمرا وضرب عمرا زيدٌ(20). ونراه يلاحظ التقديم في ابواب كثيرة من ابواب النحو يلاحظ في باب ظن وكسي و ان وكان والظروف وغير ذلك ويضع اصابعه علي علة بلاغية لها قيمتها في فن البلاغة عند المتاخرين ففي باب ظن يقول: فان الغيت قلت عبداللّه اظن ذاهب و هذا اخال اخوك وكلما أردت الالغاء فالتاخير أقوي وكلّ عربي جيد... وانما كان التأخير أقوي لانه انما يجي بالشك بعد ما يمضي كلامه علي اليقين أو بعد ما يبتدي وهو يريد اليقين ثم يدركه الشك.(21)فالتقديم هنا ليس للعناية والاهتمام كالموضع السابق في تقديم المفعول علي الفاعل أو الفعل وانما التقديم هنا لغرض بلاغي آخر و لعامل نفسي طرأ علي المتكلم أثناء كلامه وحول يقينه الي شك فالزمه تغيير وضع الالفاظ عما كان ينبغي ان تكون عليه.
وفي حديثه عن الاستفهام نراه يستحسن أنْ يلي المسؤل عنه الهمزة فيتقدم علي الفعل يستحسن ذلك فقط ولا يجعله فاسدا اذا لم يلِ الهمزة بل يجيزله ان يتقدم أو يتاخر وان كان التقديم عنده أفضل ففي باب ام اذا كان الكلام بها بمنزلة أيهما أو أيهم و ذلك قولك أزيد عندك أو عمرو و أَزيدا لقيت ام بشرا فانت الان مدع ان عنده احدهما... واعلم انك اذا اردت هذا المعني فتقديم الاسم احسن لانك لا تساله عن اللقي وانما تساله عن أحد الاسمين لا تدري أيهما هو فبدأت بالاسم لانك تقصد قصداأنْ يبين لك اي الاسمين عنده وجعلت الاسم الاخر عديلاً للاول وصار الذي لا تسال عنه بينهما و لو قلت الغيب زيدا أم عمرا كان جائزا حسنا وانما كان تقديم الاسم ههنا أحسن ولن يجز للآخر لن يكون مؤخرا لانه قصد أحد الاسمين فبدا باحدهما.(22)
ولكن ابن جني لا ياخذ براي سيبويه في امر التقديم والتاخير وسره البلاغي من حيث العناية والاهتمام او التنبيه ويثور علي ما ارتاه سيبويه فيقول: وانما هي شي ء راه سيبويه واعتقده قولاً ولسنا نقلد سيبويه ولا غيره في هذه العلة ولا في غيرها فان الجواب عن هذا حاضر عتيد والخطب فيه ايسر.(23)فالتقديم عند ابن جني واستاذه ابي علي الفارسي ليس لعلة بلاغية من الاهتمام بشان المقدم او العناية به او التنبيه عليه ليس شي ء من ذلك اطلاقا: وذلك ان المفعول قد شاع عن العرب واطرد من مذاهبهم كثرة تقدمه علي الفاعل حتي دعا ذلك ابا علي الي ان تقديم المفعول قسم قائم برأسه كما ان تقديم الفاعل قسم ايضا قائم براسه وان كان تقديم الفاعل اكثر وقد جاء به الاستعمال مجيئا واسعا نحو قول اللّه تعالي: انما يخشي اللّه من عباده العلماء؛ والهاكم التكاثر.
فهذه القضية الكبري التي يتناولها علماء النحو والبلاغة واللغة ومازلنا نقرا عنها حتي يومنا هذا في كتب النحو والنقد والبلاغة، هي في اساسها من صنع سيبويه فهو اول من اشار اليها وطرق بابها ولاشك ان هذا فضل ينسب اليه بالفخار ويجعله رائدا مجيدا من الرواد الذين اسهموا بنصيب وافر في تأسيس علم البلاغة.
خروج علي غير مقتضي الظاهرونقصد من التعبير بإخراج الكلام علي غير مقتضي الظاهر، أن يكون ظاهر الحال يقتضيه علي صورة خاصة فيؤتي به علي غير هذه الصورة لأمر يعتبره المتكلم(24) كالتعبير بلفظ الماضي عن المستقبل وعكسه، والقلب، ووضع الظاهر موضع الضمير وعكسه، واستعمال الطلب في موضع الخبر، والخبر في موضع الطلب، وغير ذلك مما يتجاوز أصل معناه ويمتد إلي معني جديد.
و سيبيويه يتحدث عن عبارات لغوية تدخل في الدراسات البلاغية، لخروجها علي غير مقتضي الظاهر مثل القلب، ووضع المفرد مضوع المثني، أو الجمع، ووضع الجمع،واستعمال اللفظ الموضع لغير العاقل في موضع العاقل، وغير ذلك مما يتحتم الإشارة إليه.
وقد تحدث علماء البلاغة عن النداء وخروجه عن أصله؛ وهذا سيبويه قد سبقهم للحديث عنه فيقول (هذا باب مايكون النداء فيه مضافا إلي المنادي بحرف الإضافة) وذلك في الاستعانة والتعجب كقول مهلهل:
يا لبكر انشروا لي كليبا
                          يا لبكر أين الفرار

فاستغاث بهم لأن ينشروا له كليبا، وهذا منه وعيد وتهديد، وأما قوله يا لبكر أين الفرار، فانما استغاث بهم أي: لم تفرون استطالة عليهم ووعيدا(25)فالنداء في البيت لم يستعمل في معناه وإنما خرج للاستغاثه، وما تتضمنه من وعيد وتهديد ولا شك أن حمل النداء هنا علي الاستغاثة عن سيبويه ظاهر الفساد، لأن الشاعر لا يستغيث بمن يهدده، و قد حمله النحاة علي الاستهزاء فقال:"إنما يدعوهم ليهزأ بهم ألا تراه قال انشروا لي كليبا"(26)وسواء كان النداء هنا للاستهزاء أو للاستغاثة فانه قد خرج عن اصل وضعه وقد نبه سيبويه علي هذا.
وسيبويه يذكر حروف النداء الخمسة: يا، وأيا، وهيا، وأي، والألف، والأخيرة لنداء القريب، والأربعة الأول لنداء البعيد، أو الإنسان المعرض عنهم أو النائم المستثقل أو الشيء المتراخي فيقول "وقد يجوز لك أن تستعمل هذه الخمسة إذا كان صاحبك قريبا مقبلاً عليك توكيدا(27)فالأدوات الموضوعة لنداء البعيد يجيز سيبويه استعمالها لنداء القريب لغرض بلاغي هو التوكيد.
القلبفالقلب نوع من الإخارج علي غير مقتضي الظاهر، وهو عند السكاكي يورث الكلام ملاحة ويصل به إلي كمال البلاغة(28)و السكاكي الذي استقرت علوم البلاغة علي يديه، وأخذ كل لون من ألوانها مكانه المعين في أقسام البلاغة من معان و بيان و بديع يعتبر القلب داخلاً في علم المعاني، غير أن القلب الذي انتهي إليه السكاكي ووصفه بانّهُ يورث الكلام ملاحة، ويرتقي به مدارج البلاغة، لم يكن ينظر إليه المتقدمون بعين الاعتبار حتي انهم اذا قرأوا مثالاًله القران أولوه عن ظاهره، لأنهم لا يجدون فيه نوعا من الحسن أو الخلابة. فسيبويه يرد القلب إذا ورد في الكلام، ويصفه بالرداءة، والبعد عن الجودة، وتأويل هذا النوع هو ما يكون به صحة الكلام وحسنه يقول: "وأما قوله ادخل فوه الحجرَ، فهذا جري علي سعة الكلام، و الجيد أدخلَ فاهُ الحجرَ، كما قال أدخلتُ في رأسي القلنسوةَ، و الجيد أدخلتُ في القلنسوةِ رأسي... قال الشاعر:(29)
تري الثور فيها مدخل الظّل رأسه
                           وسائره بادٍ الي الشمسِ أجمع

فقد كان الوجه ان يقول مدخل رأسه
                             الظل،لأن الرأس هوالداخل في الظل

و الظل هو موضع الدخول، فهذا النوع من التعبير قد جري علي الاتساع و القلب عند سيبويه، غير أنه قبيح و لا يتصف بالجودة، فاذا عرضنا هذا اللون من التعبير علي أهل البصر بالكلام و النقد، فاننا نراهم مختلفين في قيمته الفنية، و أثره البلاغي. فالقاضي الجرجاني يخبرنا أن القلب كثير في شعر العرب و لايعقب بشي ء بعد ذلك.(30) و معني هذا أنه يحبذه و لايرده، فالقول بأنه كثير في شعر العرب دليل علي سلامته و صحته و حسنه، لأن الشعراء يتوخون في شعرهم الحسن و الاجادة. ولو كان يحمله علي الضرورة الشعرية لعبر عن ذلك، ولكنه اقتصر علي الأخبار بأنه كثير في شعر العرب. و الآمدي له رأي مختلف تماما عن رأي الجرجاني فهو يرفض القلب نهائيا، و لا يأخذ به في صورة من صوره، بل يؤوله اذا وجده في القرآن، و يخطئه اذا وجده في الشعر «لأن القلب انما جاء في كلام العرب علي السهو، و التأخر لايرخص له بالقلب، لانه يحتذي علي أمثلهم، و يقتدي بهم، و ليس ينبغي له أن يتبعهم فيما سهوا فيه. فانه قيل ان القلب قد جاء في القرآن، و لايجوز أن يقال ان ذلك علي سبيل السهو و الضرورة، لأن كلام اللّه ٍ تعالي عن ذلك و ما يضربونه من أمثلة يتبين فيها القلب في القرآن يؤولها الآمدي جميعا و يعتبرها صحيحة مستقيمة لا قلب فيها فمثلاً قوله تعالي «ما ان مفاتحة لتنوء بالعصبة أولي القوة» (القصص / 76) يقولون ان فيها قلبا، لأن المعني و انما العصبة تنوء بالمفاتيح، أو تنهض بثقلها، فينفي الآمدي وجود القلب في الآية فيقول: انما أراد، اللّه تعالي ما ان مفاتحه لتنوء بالعصبة أي تميلها من ثقلها، و هكذا يجري الآمدي علي التأويل في كل الآيات القرآنية التي يستدلون بها علي صحة القلب، غير أن الآمدي يضطر الي قول القلب اذا كان المعني المقلوب و غير المقلوب متقاربين مثل قول الحطيئة:
فلما خشيتُ الهُون و العير ممسك
علي رغمه ما امسك الحبل حافرهُ


قالوا و كان الوجه أن يقول: ما أمسك الحافر حبله و كلاهما متقاربان، لأن الحبل اذا امسك الحافر أيضا شغل الحبل ثم يقول: «و هذا أي التأويل كله سائغ حسن، ولكن القلب القبيح لا يجوز في الشعر و لا في القرآن. و هو ما جاء في كلامهم علي سبيل الغلط. و أخيرا يبين الآمدي سبب رفضه للقلب و اعتباره من ألوان البلاغة، بأنه لايجد فيه فائدة و انما يلجأ اليه الشعراء للضرورة ليس الا، و يتعجب من رأي المبرد في القلب فيقول: «و قال المبرد: القلب جائز للاختصار اذا لم يدخل الكلام لبس: كأنه يجيز ذلك للعرب الأوائل دون المتأخرين، و ما علمت أحد قال للاختصار غيره، فلو قال لاصلاح الوزن، أو للضرورة، كما قال غيره كانت ذلك أشبه»(31) فالقلب اذن ليس من أنواع البلاغة عند الآمدي و هو بذلك يتفق في نظرته مع سيبويه في رده و وصفه بالرداءة، و قد كان يحق للبلاغيين أن يهملوه في كتبهم و لهم في ذلك مندوحة بما قاله سيبويه، و الآمدي، و سوقهما للحجة بعد الحجة، و خلو القلب من الفائدة التي يلجأ اليها البلاغي لحسن البيان، أو قوة التأثير، و ما كان أغنانا عن الحديث عن القلب عند سيبويه باعتبار أنه ليس جديرا بهذه من ألوان البلاغة غير أننا رأينا السكاكي كما ذكرنا في صدر هذا الكلام يطنب في مدحه و يجعله مما يزيد الكلام ملاحة، و يصل به الي كمال البلاغة. و كيف يكون ذلك و نحن لانري فيه الا نوعا من التكلف السقيم، و التعقيد الشنيع الذي يؤدي الي اللبس من جهة، و يخفي الحسن من جهة أخري، و هو ان ترك أثرا في النفس فانما هو أثر الزهر فيه، و الانصراف عن سماعه، حتي ان بعض النقاد مثل قدامة و المرزباني قد اعتبرا القلب من عيوب ائتلاف المعني و الوزن معا في شعر العرب»(32)
القصرأما حديث سيبويه عن القصر فليس مسهبا، و انما هو مبتور بترا، فقد تحدث عنه بما لايتجاوز الأسطر الثلاثة، و ربما لم يتجاوز السطر الواحد في بعض المواضع، و رغم هذا الاختصار الشديد، فقد تحدث عنه بما يفيد، فهو يحدثنا عن قصر القلب، و قصر التعيين في عبارة قصيرة موجزة من خلال حديثه عن النعت يقول «و منه مررت برجل راكع لاساجد، لاخراج الشك أو لتأكيد العلم فيهما»(33) فسيبويه في هذا المقال يري أن المخاطب متردد في وصف الرجل بأحد الوصفين، الركوع أو السجود، فأراد مع المتكلم ازالة هذه الشك و هو ما سمي في عرف البلاغيين بقصر التعيين. أو أنه أراد أن يؤكد للمخاطب أن الرجل متصف بالركوع و ليس بالسجود و هذا ما سمي بعد ذلك بقصر القلب هذا فيما يختص بالقصر بأحد حروف العطف و هو (لا). أما حديثه عن بقية حروف العطف وصلتها بالقصر، فلم يكن فيها واضحا كل الوضوح و انما غلب غليه الطابع النحوي الصرف، و ليس البيان البلاغي الذي نتعقبه في هذا البحث.
القصر في اصطلاح البلاغيين هو تخصيص شي ء بشي ء بطريق مخصوص و سيبويه أفاد هذا المعني الاصطلاحي، فقد خصص ما قبل الا بما بعدها، و نفي ما سوي ذلك كما ذكر أداة القصر و هي النفي و الاستثناء غاية ما في الأمر أن سيبويه لم يذكر كلمة القصر، ولكنه أفاد معني القصر كاملاً، و هي تلك الفائدة التي تدخل في باب القصر، لما يؤديه هذا الضمير من التخصيص، أو تأكيد التخصيص. أما التقديم فهو عنده يفيد الاهتمام بأمر المقدم، أو العناية بشأنه، أو التنبيه له، و لا يفيد التخصيص. و من ثم فان سيبويه لم يتناول من طريق القصر غير النفي و الاستثناء و العطف، ولكنه لم يذكر شيئا عن ضمير الفصل، أو انما، أو التقديم علي أن واحدة منها تفيد القصر.
الفصل و الوصل:و في مواضع من الكتاب يتحدث سيبويه عن لون بلاغي آخر هو الفصل و الوصل كما نعرفه بصفة عامة، أو شبه كمال الاتصال كما نعرفه بصفة خاصة... و طبيعي أن سيبويه لم يذكر هذا المصطلح البلاغي في عمومه أو خصوصه، فذلك شي ء لم يعهد في زمنه، و انما عرف فيما بعد علي يد الفراء، ولكن الذي ذكره سيبويه هو ما يفيد شبه كمال الاتصال، و ان لم يصرح باسمه، (ففي باب بدل المعرفة من النكرة. و المعرفة من المعرفة، و قطع المعرفة من المعرفة مبتدأة) يقول أما بدل المعرفة من النكرة فقولك مررت برجل عبداللّه كأنه قيل له بمن مررت، أو يظن أنه يقال له ذلك فأبدل مكان من هو أعرف منه... و كذلك قول الشاعر:
و لقد خبطن بيوت يشكر خبطة
أخوالنا و هم بنو الأعمام


كأنه حين قال خبطن بيوت يشكر قيل له ما هم فقال اخوالنا و هم بنو الأعمام و قد يكون مررت بعبداللّه أخوك كأنه قيل له من هو أو من عبداللّه فقال أخوك... و تقول مررت برجل الأسد شدة كأنك قلت مررت برجل كامل، لأنك أردت أن ترفع شأنه، و ان شئت استأنفت كأنه قيل له ما هو»(34). (و في باب ما لا يعمل في المعروف الا مضمرا) يتحدث عن هذا الأسلوب أيضا في تقدير السؤال و الاجابة عنه يقول: «و أما قولهم نعم الرجل عبداللّه ، و عبداللّه نعم الرجل، كأنه قال نعم الرجل فقيل له من هو فقال عبداللّه ، و اذا قال عبداللّه فكأنه قيل له ما شأنه فقال: نعم الرجل»(35) و نلاحظ هنا أن سيبويه ضمن الجملة الأولي سؤالا و اعتبر الجملة الثانية جوابا لهذا السؤال المقدر، بل نلاحظ أنه نص أيضا علي أن الجملة الثانية استئناف، و الذي نعرفه من كتب المتأخرين أن هذا من مواضع الفصل، لأن الجملة الثانية فصلت عن الأولي كما يفصل الجواب عن السؤال، و يسمون هذا النوع شبه كمال اتصال، أو يسمونه استئنافا.
المجاز العقليو تناول سيبويه ذلك النوع الذي أطلق عليه المتأخرون المجاز العقلي أو المجاز الحكمي و رأي أنه توسع و اختصار في الكلام، و علي الرغم من تناوله هذا المجاز في مواضع متفرقة من الكتاب، الا أنها اذا جمعت تكاد تعطينا فكرة قريبة الي المجاز العقلي الذي نعرفه اليوم، و سنحاول هنا أن نبينها كما فسرها و نقلها عن لسان العرب، و نستهل ذلك بما ذكره في الكتاب بقوله: و تقول مطر قومك الليل و النهار علي الظرف... و ان شئت رفعته أي الليلُ و النهارُ علي سعة الكلام كما قيل صيد عليه و النهار، كما قال نهاره صائم، و ليله قائم، و كما قال جرير:
لقد لمتنا يا أم غيلان في السري
و نمت و ما ليل المطي بنائم


و كما قال الشاعر:
أما النهار ففي قيد و سلسلة
و الليل في قعر منحوت من الساج


فانه جعل النهار في قيد و الليل في جوف منحوت(36) فاسناد المطر الي الليل و النهار و اسناد الصيد كذلك، و الاخبار عن النهار بأنه صائم، و الليل بأنه قائم، و في بيت جرير حيث جعل الاخبار عن الليل بالنوم اتساعا و مجازا، والمعني و ما المطي بنائم في الليل، لأن الليل لاينام، و لايوصف بأنه نائم فهو ليس حيوانا و لا انسانا، فكان حقه اذن أن يقول بمنوم فيه. أما البيت الثاني فقد أخبر عن النهار بكونهن في سلسلة، وعن الليل باستقراره في جوف اتساعا و مجازا، و هذا كله يرد الي المجاز العقلي الذي عرف بهذا الاسم عن المتأخرين. و في موضع آخر يقول: «سرقت الليل أهل الدار فتجري الليلة علي الفعل في سعة الكلام كما قيل صيد عليه يومان... و المعني انما هو في الليلة، و صيد عليه اليومين غير أنهم أوقعوا الفعل عليه لسعة الكلام... و مثل ما أجري مجري هذا في سعة الكلام و الاستخاف قوله عزوجل بل مكر الليل و النهار، فالليل و النهار لايمكران ولكن المكر فيهما»(37) و واضح أن هذا من المجاز العقلي. و الآية الكريمة تدور في كتب البلاغة علي أنها من هذا الباب، و سيبويه حين يبسط هذا النوع من الكلام علي أنه اتساع في أكثر من موضع من كتابه، كأنه يحاول أن يقنعنا به، فهو يلح علينا في قبوله و الاعتراف به، و لايترك مناسبة الا ذكره (ففي باب استعمال الفعل في اللفظ لا في المعني) يقول صيد عليه يومان، و انما المعني صيد عليه الوحش في يومين، ولكنه اتسع و اختصر، و مثله بل مكر الليل و النهار»(38) و من ذلك قول الخنساء المشهور المتداول في كتب البلاغة علي أنه من شواهد المجاز العقلي يذكره سيبويه فيقول: «و من ذلك قول الخنساء:
ترتع ما رتعت حتي اذا أدكرت
فانما هي اقبال و ادبار


فجعلها الاقبال و الادبار، فجاز علي سعة الكلام، كقولك نهارك صائم، و ليلك قائم(39) و ابن الأنباري يري في كلام الخنساء حذف المضاف فهي تريد انما هي ذات اقبال و ادبار(40). ولكن ابن جني لايؤيد هذا الرأي و يضعفه، فالخنساء تريد أن تصف ناقتها كأنها مخلوقة من الاقبال و الادبار و ليس علي حذف المضاف أي ذات اقبال و ذات ادبار. و يكفيني من هذا كله قول اللّه عزوجل «خلق الانسان من عجل» و ذلك لكثرة فعله اياه و اعتياده له(41) و نري عبدالقاهر ينقل قول الخنساء و يعتبره من المجاز الحكمي، و أن الخنساء لم ترد بالاقبال و الادبار غير معناها فتكون قد تجوزت في نفس الكلمة، و انما تجوزت في أن جعلتها لكثرة ما تقبل و تدبر، و لغلبة ذلك عليها و اتصاله بها، و أنه لم يكن لها حال غيرها كأنها قد تجسمت من الاقبال و الادبار و قلت انما هي ذات اقبال و ادبار لأفسدنا الشعر علي أنفسنا، و خرجنا الي شي ء مغسول، و الي كلام عامي مرذول... و هذا مما لامساغ له عند من كان صحيح الذوق، صحيح المعرفة، و نسابة للمعاني»(42) و قد استهشد الزمخشري بهذا البيت عن قوله تعالي «ولكن البرَّمن اتقي»(43) علي أن الاسناد مجازي، بدعوي أن المتقي هو عين البر بجعل المؤمن كأنه تجسد من البر و كان الزجاج يأبي غير هذا(44) فسيبويه قد نبه اذا علي هذا البيت، و مافيه من مجاز، و ان لم يضع له الاسم الاصطلاحي، ولكنه بذلك قدم للنحاة و البلاغيين مادة يتناولونها في كتبهم، و يتعهدونها بالشرح و التفسير، متابعين في ذلك رأي سيبويه، أو مخالفين له، و مهما يكن فان سيبويه قد أثري بهذه الملاحظة اليسيرة أبحاث البلاغة، حتي صار العلماء من بعده عالة عليه في هذا الباب، فالقول اذن بأن عبدالقاهر الجرجاني هو مبتكر المجاز العقلي(45) فيه كثير من التسامح، بل انه زعم يدحضه ما عثرنا عليه من أدلة من تعطي الأسبقية في تناول هذا الفن من الفنون البلاغة ليس الي كثير من النحاة الذين سبقوا عبدالقاهر فحسب، بل الي سيبويه أيضا.
البيانو في البيان تناول التشبيه، و الاستعارة بالكناية، و الاستعارة في الحروف، و المجاز بالحذف، و الكناية و ان كانت بمعناها اللغوي.
التشبيهو لم يقتصر حديث سيبويه في الكتاب علي ألوان المعاني، بل تناول أيضا بعض مباحث علم البيان، كالتشبيه و الاستعارة، و المجاز، و الكناية و غير ذلك، و عندما تناول التشبيه، و التمثيل منه بصفة خاصة، لم يتناوله منفردا بحيث قصد أن ينبه الي هذا النوع من التعبير، و انما تحدث عنه من خلال موضوع آخر و هو أن الكلام: منه ما يأتي علي جهة الاتساع و الايجاز. و ما فيه من اتساع و مجاز يشمل أبواب كثيرة بحيث يحتوي المجاز العقلي مثل قوله تعالي: «بل مكر الليل و النهار» و المجاز المرسل كقوله تعالي «و اسأل القرية» و التشبيه التمثيلي كقوله تعالي «و مثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لايسمع الا دعاء و نداء» فهذه الخيوط الثلاثة يضمها عنده نسيج واحد هو الايجاز و الاتساع، أو هي صور من التعبير في اطار واحد. و الحق أن سيبويه عندما تحدث عن التشبيه ذلك اللون البلاغي المشهور تحدث عنه بطريقة بسيطة ساذجة لم يكن لها التأثير الكافي علي البلاغيين من بعده، بل اننا لو عقدنا مقارنة بين ما قاله سيبويه عن التشبيه و بين ما قاله المبرد مثلاً لوجدنا هوة واسعة عميقة بين نظرة الاثنين اليه. و علي الرغم من ذلك فلابد من القاء نظرة علي ما تركه سيبويه من ملاحظة علي فن التشبيه. (ففي باب استعمال الفعل في اللفظ لا في المعني لا تساعهم في الكلام و للايجاز و الاختصار)، يذكر سيبويه ألوانا من التعبير يطلق عليها هذا الوصف كالمجاز العقلي و المرسل ثم يقول: «و مثله في الاتساع قوله عزوجل: «و مثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لايسمع الا دعاء و نداء» فلم يشبهوا بما ينعق، و انما شبهوا بالمنعوق به.»
و انما المعني مثلكم و مثل الذين كفروا كمثل الناعق و المنعوق به الذي لا يسمع، ولكنه جاء علي سعة الكلام و الايجاز لعلم المخاطب بالمعني(46)، فالآية فيها ايجاز، و المخطاب يعلم أن في الآية ايجازا. ولو لا هذه القرينة لماجاز الاتيان بالايجاز في الآية حتي لايغمض الأمر علي المخاطب. فمن غيرالمعقول أن يشبه الكافر بالداعي للايمان، و لا يجد من ينصت اليه أو يلبي دعوته. ولكن المعقول أن تشبه وعظ الكافرين الذين لا يستجيبون بدعوة الأغنام التي لا تعي، و من يسمع الآية يقفز الي ذهنه هذا المعني فيعلم أن في الآية اختصارا. و الزجاج يعقب علي ذلك بقوله «قال سيبويه: و هذا من أفصح الكلام ايجازا و اختصارا و يلتمس و جها آخر للايجاز فيقول، ولأن اللّه تعالي أراد أن يشبه شيئين بشيئين: الداعي و الكفار بالراعي و الغنم، فاختصره ولكنه اكتفي بذكر الكفار من المشبه، و الراعي من المشبه به فدل ما أبقي علي ما ألقي و هذا معني كلام سيبويه»(47)
و كتاب سيبويه لايخلو أيضا من ذكر بعض أدوات التشبيه فهو يروي لنا أنه «سأل الخليل عن كأن فزعم (أن) لحقتها الكاف للتشبيه ولكنها صارت مع أن بمنزلة كلمة واحدة»(48) كما يتحدث عن الكاف الزائدة» و أن ناسا من العرب اذا اضطروا في الشعر جعلوها بمنزلة مثل، قال حميد الأرقط فصيروا مثل كعصف مأكول.(49) فقصد المبالغة في التشبيه فجمع بين الكاف و مثل. فالقول اذن بأن «الجاحظ أول من تنبه الي أدوات التشبية كالكاف و كأن و مثل.(50) ظاهر الفساد. و يتحدث أيضا عن وجه الشبه و أن الطرفين لا يكونان متشابهين و متساويين في كل الأمور، و انما التشبيه ليس من كل وجه فيقول «و قد يشبهون الشي ء بالشي ء، و ليس مثله في جميع الأحوال و سنري ذلك في كلامهم كثيرا.(51) و هكذا يمكن القول بعد شرح التشبيه عند سيبويه و الكيفية التي أظهره بها، و تناوله لبعض أنواعه و أدواته بأن سيبويه قد أسهم بنصيب ما في باب التشبيه، و هو نصيب ضئيل الأثر زهيد القيمة، الا أننا نلتمس له العذر حيث انه كان يهتم بوضع القواعد العلمية النحوية، و ليس بارساء الأسس الفنية البلاغية حتي يحصي الأبواب، و يفصل فيها القول اذا صادفه لونا بلاغيا كالتشبيه أو غيره من فنون البلاغة.
الاستعارة في الحروف:و ننتقل الي التوسع في الحروف و هي كثيرة في اللغة، متعددة الجوانب، واسعة التصرف، و ينوب بعضها عن بعض في كثير من المواضع، مما يكسب اللغة ثراء، و مرونة و اتساعا، و قد استعملت حروف الجر استعمالاً كثيرا. حتي اننا لانسرف في القول اذا زعمنا أن كل حرف قد ورد في غير معناه. و كتاب مشكل القرآن لابن قتيبة يزخر بأمثلة تؤيد وجهة نظرنا فما من حرف الا و له شاهد من القرآن يبين استعماله بمعني آخر غير معناه الأصلي. ولكن الذي يهمنا هنا أن نقول ان الاستعارة في الحروف يشيع استعمالها لتؤدي أغراضا متنوعة و معاني مختلفة. و العرب حينما يتوسعون في استعمال الحروف انما يريدون تصوير معناها و أثرها في البيان و سيبويه قد لاحظ توسع اللغة في استعمال الحروف، و ركونها الي مواضع مختلفة غير المعاني التي وضعت لها. و يحتم علينا البحث أن نذكر استعمالات الحروف عند سيبويه، و ما دمنا نتحدث عن البلاغة في كتابه. و نحن نعلم «أن الحرف ان قرن بالملائم كان حقيقة و الا كان مجازا في التركيب».(52) و سيبويه يتحدث عن استعارة الحروف بنصاعة بيان حتي لايدع مجالاً للتأويل، أو التمحل في اثبات أن هذا النوع قد ورد في الكتاب، أو أن سيبويه قد تحدث عنه. اقرأ قوله: «أما علي: فاستعلاء الشي ء تقول هذا علي ظهر الجبل و هو علي رأسه. فيكون أن يطوي أيضا مستعليا كقولك مر الماء عليه و امررت يدي عليه. و أما مررت علي فلان فجري هذا كالمثل و علينا أمير كذلك، و عليه مال أيضا، و هذا لأنه اعتلاه، و يكون مررت عليه أن يريد مروره علي مكانه ولكنه اتسع. و تقول عليه مال و هذا كالمثل كما يثبت الشي ء علي المكان، كذلك يثبت هذا عليه، فقد يتسع هذا في الكلام و يجي ء كالمثل.(53) «فقوله مررت علي فلان، و علينا أمير، و عليه مال، و هذا لأنه شي ء اعتلاه واضح كل الوضوح في أن الاستعلاء ليس حسيا، و انما هو معنوي. فالدين يعلو عليهم. و الرجل يمر علي الرجل فكأنه ثبت علي مكانه و علاوه. و هذا اتساع في اللغة لا يدل علي المرونة في استعمال الألفاظ فحسب، و انما أيضا يبرز الصورة و يوضحها كل الوضوح. و يبين أثرها علي المعني. أما اجراء الاستعارة فليس يعنينا و لا يعني سيبويه و لا المتقدمين منها شي ء و انما هو من خصوصيات العلماء المتأخرين فقط لتسويغ وضع الحروف في غير مكانه. و كما تحدث سيبويه عن اتساع (علي) في معناها، تحدث أيضا عن (في)، و أنها تتسع في الكلام فيقول و انما (في) فهي للوعاء كقولك هو في الجراب، و في الكيس، و هو في بطن أمه كذلك هو في الغل لانه جعله اذا ادخله فيه كالوعاء له و كذلك هو في القبة و في الدار. و ان اتسعت في الكلام فهي علي هذا،و انما تكون كالمثل يجاء به يقارب الشي ء و ليس مثله»(54)، فالحرف في قوله «هو في الغل لأنه جعله اذ أدخله فيه كالوعاء له. فيه معني المجاز، لأنه مستعمل في غير الحقيقة، و لأن في متعلق معني الحرف: و هو الغل نوعا من التشبيه و المقاربة بين الشي ء و الشي ء حيث كان الغل لا يصلح للظرفية الحقيقة و هل تخرج الاستعارة في الحروف عن هذا المعني.
الاستعارة بالكناية،يذكر سيبويه الاستعارة بالكناية، كما يذكر قرينتها، و هي الاستعارة التخييلية يذكر ذلك نقلاً عن أحد الذين يثق بهم من العلماء و ربما كان الخليل. و اذا أردنا أن نكشف عن الاستعارة المكنية في هذا البيت لقلنا مثلاً: شبهت الخنساء الداهية بحيوان مفترس شديد البأس ثم حذف المشبه به، و رمز له بشي ء من لوازمه و هم الفم هنا قرينة الاستعمارة المكنية أو ما يجوز أن نطلق عليه أيضا الاستعمارة التخييلة. و سيبويه لم يكن وحده مدركا لهذا الفهم، بل أدركه معه نقل عنه، غير أنه لايعطي لما يدرك أسماء اصطلاحية، فهو يقول عن هذا البيت «فجعل للداهية التي حدثنا بذلك من نثق به»(55) و اذا أردنا الآن أن نضع اصطلاحها بلاغيا للداهية التي يكون لها فما، لما و دنا غير الاستعارة المكنية للداهية و الاستعارة التخييلية للفم. و ابن سنان الخفاجي يتعرض في الفصاحة لهذا البيت فيقول: و أنشد سيبويه:
و داهية من دواهي المنون
يرهبها الناس لا فالها


فجعل للداهية فما استعارة(56) و بذلك يكون سيبويه قد سبق غيره من العلماء في تناول هذين النوعين من الاستعارة أيضا. و عندما يتحدث سيبويه عن الكناية فلا عنها بالمعني الاصطلاحي المعروف بأنه «اللفظ الذي يراد به لازم معناه مع جواز ارادة ذلك المعني» و انما يريد بها المعني اللغوي فقط بأن يريد مجرد الخفاء و الستر حين يتكلم بشي ء و هو يريد غيره، أو كان جاهلاً باسم المحدث عنه. «و تقول العرب يافل... و انما بني علي حرفين، لأن النداء موضع تخفيف، و لم يجز في غير النداء لأنه جعل اسما لايكون الا كناية لمنادي و أما فلان فانما هو كناية عن اسم به المحدث عنه خاص، قد اضطر الشاعر فبناه حرفين في هذا المعني. قال أبوالنجم:(57)
في لجة أمسك فلانا عن فلفهنا فل و فلان بمعني واحد و هما كناية عن شخص معين لانعرف اسمه علي وجه التحديد، أو عن شخص مجهول، غير أن فل استعملت علي حرفين فقط، لأن النداء موضع تخفيف، و يجوز فيه ما لايجوز لغيره، و استعمل في البيت علي حرفين من غير نداء للضرورة، و في موضع آخر من الكتاب يذكر سيبويه أن كلمة فلان تستعمل أحيانا كناية للآدمي فهي مجردة من (آل) فتقول فلان، و ان استعملت كناية لغير الآدمي اقترنت (بأل) فتقول الفلان و يعبر عن ذلك بقوله «فاذا كنيت من غير الآدميين قلت الفلان و الفلانة، و الههن و الهنة، جعلوه كناية عن الناقة التي تسمي بكذا، و الفرس يسمي بكذا ليفرقوا بين الآدميين و البهائم»(58) فسيبويه اذا لم يكن يعرف الكناية الاصطلاحية، و لم يشر اليها اشارة تنبي ء عنها، و هو ما كنا نود أن نعثر عليه في كتابه، فاننا نلتمس العذر لسيبويه، لأن الكناية، الاصطلاحية لم تعرف تقريبا الا في نهاية القرن الثالث الهجري علي يد ابن قتيبة (ت 276 ه) و المبرد (285 ه) اللذين تحدثا عن أقسامها بصفة عامة أما قبل ذلك فكانت تستعمل في المعني اللغوي، و قلما نراها استعملت في معناها الاصطلاحي المعهود.
البديعو كتاب سيبويه لم يكن مقصورا علي ذكر أنواع من المعاني و البيان، بل تجاوز ذلك الي بعض ألوان من البديع في عرف المتأخرين، و أول هذه الألوان تأكيد المدح بما يشبه الذم، و قبل أن نخوض في هذا اللون البديعي ينبغي أن نمهد له فنقول: ان الاستثناء نوعان منه ما يتعلق باللغة، و يتمثل في استخراج القليل من الكثير، و هذا نطرحه الآن جانبا، لأنه لا يعنينا في دراسة البديع و ان كنا قد تناولناه و في علم المعاني باعتباره من أدوات القصر... نوع آخر يفيد فوق المعني اللغوي ما يزيد به الكلام حسنا و يستحق أن يدرج في أبواب البديع. و هذا هو الذي نتعرض له. فالاستثناء الفني الذي نطلق عليه «تأكيد المدح بما يشبه الذم» قد ورد في كتاب سيبويه فهو في باب (ما لايكون الا علي معني ولكن) من الاستثناء يذكر قول النابغة:
و لا عيب فيهم غير أن سيوفهم
بهن فلول من قراع الكتائب


أي ولكن سيوفهم بهن فلول و يعقب الأعلم علي هذا البيت و يشرحه ليبين مقصد سيبويه و مراده فيقول «ان سيوفهم ليس بعيب، لأنه دال علي الاقدام، و مقارعة الأقران. فالنابغة مدح آل جفنة ملوك الشام فنفي عنهم كل عيب، و أوجب لهم الاقدام في الحرب، و استثني ذلك من جملة العيوب مبالغة في المدح و هو ضرب من البديع يعرف بالاستثناء. فثلم السيوف و تفللها ليس عيبا حتي نخرجه من الشطر الأول من البيت، و لذلك فقد نبه سيبويه علي أن الاستثناء منقطع بمعني لكن. و هذا البيت مشهور قد تداوله العلماء في تصانيفهم، و قد أورده علماء البديع شاهدا علي تأكيد المدح بمايشبه الذم، فانه نفي العيب عن هؤلاء القوم علي جهة الاحاطة ثم أثبت لهم ما يوهم أنه عيب و هو تكسر السيوف في مضاربة الأعداء و هذا ليس بعيب، بل هو غاية المدح، و من ثم فقد أكد المدح بما يشبه الذم أي أنه مدح في صورة ذم. و قد يكون أوضح في التدليل علي أن سيبويه قد عرف هذا اللون البديعي ما عقب به علي بيت النابغة الجعدي:
فتي كَمُلت خيراته غير أنه
جواد فما يبقي من المال باقيا


فيقول «كأنه قال ولكنه مع ذلك جواد».(59) فواضح أن سيبويه يفهم من البيت أن الشاعر يضيف للممدوح صفة مدح الي صفة مدح و لا يسلبها عنه. و في ذلك تأكيد للمدح، و ان فهم من ظاهر الاستثناء أنه ذم و ليس مدحا. و قال الأعلم عن هذا البيت هو مثل ما قاله عن بيت النابغة الذبياني «فهوم استثني جوده و اتلافه للمال من الخيرات التي كملت له مبالغة في المدح فجعلها في اللفظ كأنهما من غير الخيرات كما جعل تفلل السيوف كأنه من العيوب.(60) و هذا البيت أيضا من شواهد علماء البلاغة علي أنه من البديع، و يدخل تحت باب تأكيد المدح بما يشبه الذم... ولو طالعنا كتاب البديع لابن المعتز لو جدنا قد اعتبر النوع الخامس من المحسنات... تأكيد المدح بما يشبه الذم... و استشهد بهذين البيتين اللذين ساقهما سيبويه و اقتصر عليهما دون غيرهما، و بطبيعة الحال لم يشر الي سيبويه أية اشارة، و ان كان قد أشار الي الخليل في بابي التجنيس و المطابقة.
التجريدو سيبويه كما تحدث عن المدح الذي يشبه الذم، تناول كذلك التجريد و حديثه عن التجريد لا ينقع الغلة، و لايطفي ء الظما الي معرفته كلية، و انما ذكره في ايجاز شديد، و بمثال و احد، و رغم ذلك فان العلماء لم يهملوا رأي سيبويه، بل نقلوه في كتبهم و نسبوه اليه (ففي باب ما يختار فيه الرفع و يكون فيه الوجه في جميع اللغات) يقول سيبويه «ولو قال أما أبوك فلك أب لكان علي قوله فلك به أب أو فيه أب، و انما يريد بقوله فيه أب: مجري الأب علي سعة الكلام»(61) فقوله لك به أب، أو لك فيه أب، نوع من التجريد الذي يكون الانتزاع فيه بالباء أو بفي كقولهم لئن سألت فلانا لتسألن به البحر، أو كقوله تعالي «لهم فيها دار الخلد». و ابن جني يردد هذا النوع الذي تستعمل فيه الباء من التجريد الي سيبويه حيث يقول «و منه مسألة الكتاب أما أبوك فلك أب: أي لك منه، أو به، أو بمكانه أب».(62) و ما فعله ابن جني من اشارة الي وجد هذا النوع من التجريد و تفسيره في كتاب سيبويه قد فعله الزجاج أيضا.(63) و في هذا ما يبين مدي أهمية الكلمة الموجزة التي يطلقها سيبويه، لأنه لا يطلق الكلمة الا في دقة، و بعد تحديد، و ما علي العلماء بعد ذلك الا النقل و التفسير.
فالفكرة التي كان سيبويه يرعاها و يصدر عنها في تنويع مباحث النحو، و ترتيب أبوابه كما تمثلت لي بالنظر و المراجعة في الكتاب، مدارها العامل أولاً و أخيرا: نظر في الجملة حين تكلم عن المسند و المسند اليه، فاذا هي فعلية و اسمية... ثم تكلم عن الفعل المحذوف و الفعل المذكور و المتعلقات... ثم صار الي الجملة الاسمية فتكلم عن الابتداء و نواسخه. و يبدو أن النسق الذي أخذ به سيبويه هو الذي ألهم علماء المعاني فكرة انحصار مباحثه في أبوابه الثمانية المعروفة. و ليس يسع المرء و هو يقرأ كلامهم في ذلك ال أن يتبين اقتباسهم منه، و اقتداء هم بهداه».(64) و الأبواب الثمانية التي تنحصر فيها مباحث علم المعاني هي أحوال الاسناد الخبري، و المسند اليه، و المسند، و متعلقات، الفعل، والقصر، و الانشاء، و الفصل، و الوصل، و الايجاز، و الاطناب و المساواة، لأن علماء المعاني بطبيعة الأمر قد اعتمدوا في مباحثهم علي المسند والمسند اليه. و ما يتبع ذلك من بقية الأبواب الأخري. و هذا النهج الذي ساروا عليه لم يكن معروفا عند علماء النحو وقت تحديد العلوم و تقعيد القواعد، و انما الطريق الذي سلكه النحاة في ذلك الوقت ينحصر في أثر العوامل و ما يعقبها من حركات الاعراب، و ما فيها من رفع و نصب و خفض و جزم و ليس الي العوامل نفسها. و هذا النهج مخالف لنهج سيبويه الذي حصر اهتمامه بالعمل نفسه فتولدت عنه هذه الأقسام و انتفع بها البلاغيون بعد ذلك في وضع علم المعاني، و حصر أبوابه.(65)
و هكذا في مواضع كثيرة من الكتاب نجد سيبويه يتناول تأليف العبارة، و تركيب الكلمات، و ما فيها من صحة و حسن، أو ما يطرا عليها من فساد و قبح. و لا نستطيع هنا أن نتعقب كل ما شرح سيبويه، و أطنب في شرحه، و زاده تفصيل بعد تفصيل، مما يتصل بالنظم، أو توخي مراعاة معاني النحو، فذلك يحتاج الي بحث خاص يتفرغ له أحد الباحثين، و انما يكفي أن نشير هنا الي أن سيبويه قد أدراك معني نظم الكلام، و أن النحو عنده لم يكن مجرد اعراب لأواخر الكلمات، و ما فيها من رفع، و نصب، و خفض، و جزم، بل كان النحوعن البلاغة فتمزقت أوصال العلمين، و كان هذا الفصل جناية عليهما معا. و بعد فاذا كان عبدالقاهر هو الذي ينسب اليه ابتكار نظرية النظم، لانّه بسطها وفصلها وطبقها علي ابواب جمة من البلاغة فان سيبويه هو الذي أمسك المصباح بكلتايديه، و أنار الطريق أمام عبدالقاهر، و هداه الي الغاية المنشودة، أو بعبارة أخري اذا كان النظم قد أصبح علي يد عبدالقاهر بمثابة شجرة عظيمة، شاهقة، متعددة الأغصان، مثقلة بالثمار. فان سيبويه هو الذي القي البذرة قبل أن تبرز الشجرة أمام العيون بمئات السنين.
الخاتمةو لا شك أن هذه المسائل البلاغية التي طرقها سيبويه في كتابه تشكل كثيرا من أبواب البلاغة، و لذلك فان كثيرا من العلماء الذين يعتد بهم في تاريخ البلاغة قد اغترف من هذا البحر الزاخر دون أن ينضب له معين، و منهم من يعترف بأنه استقي من كتاب سيبويه بعض مسائلة البلاغة كعبد القاهر، و منهم من يغفل ذلك اغفالاً تاما كابن المعتز و أبي هلال العسكري، ولكنا نكتفي بأن نشير في ايجاز الي أن عبدالقاهر قد استأنس بسيبويه في كثير من مباحثه كالتقديم و التاخير،و المجاز بالحذف، و المجاز و العقلي و التشبيه التمثيل. ابن المعتز ينقل عنه تأكيد المدح، و ابن جني يذكر مسألة الكتاب في التجريد، و أبو هلال العسكري يأخذ عنه تقسيم الكلام الي مستقيم حسن، و محال، و مستقيم كذب، و مستقيم قبيح، و محال كذب، و يذكر أمثلته بعينها و لايشير اليه، و كلام سيبويه عن المسند و المسند اليه قد أوحي الي العلماء حصر علي المعاني في الأبواب البلاغية الثمانية المعروفة. و غير ذلك مما لاينكر أثره و من ثم فان لسيبويه في البلاغة جهدا مشكورا، و بلاء مرفورا حيث ألقي بذورا طيبة في أرض خصبة نمت و ترعرعت بمرور الزمان علي أيدي العلماء حتي بلغت تمام النضج علي يدي عبد القاهر الجرجاني.
المنابع و المصادرأحمد بدوي، أسس النقد الادبي عن العرب، نهضة مصر ط 2.
ابن الانباري ابو البركات الانصاف في مسائل الخلاف، للسعادة ط 3
الانباري محمدبن القاسم الاضداد الكويت 0619
البغدادي خزانة الادب دار الكاتب العربي
التفتازاني سعدالدين المطول 1330.
الجاحظ البيان و التبيين الخانجي 0619
الجرجاني الوساطة بين المتنبي و خصومه عيسي الحلبي ط 3
ابن جني الخصائص دار الكتب 4195
ابن المعتز البديع دارالجيل بيروت 1990
الزجاجي اعراب القرآن المؤسسة المصرية العامة للتاليف و الترجمة و النشر 3619.
زكي مبارك مصطفي الموازنة بين الشعراء البابي الحلبي القاهرة 6193
الزمخشري الكشاف الاستقامة ط 2
السكاكي مفتاح العلوم مصطفي الحلبي
سيبويه الكتاب الامرية
السيوطي المزهر عيسي الحلبي
شوقي الضيف النقد دار المعارف 8619
شروح التلخيص، سكاكي بيروت دار السرور
الشهرستاني الدلائل و المسائل مطبعة النجاح بغداد 1958
عبدالقاهر الجرجاني دلائل الاعجاز المنار ط 1
عبدالقاهر الجرجاني أسرار البلاغة
علي النجدي ناصف سيبويه امام النحاة نهضة مصر
قدامة نقد الشعر المليجية 4193
قدامة نقد النثر لجنة التاليف و الترجمة و النشر 1937
المرزباني الموشح دارالفكر العربي القاهرة 1358
الهوامش


--------------------------------------------------------------------------------

1. خزانة الادب 1/371
2. الخصائص 2/312
3. المزهر 2/054
4. سيويه امام النحاة علي النجدي الناصف 158-159
5. الكتاب 1/22
6. الكتاب 1/27
7. الكتاب 1/411
8. الكتاب 1/17
9. الكتاب 1/109
10. الكتاب 1/33
11. أسرار البلاغة584
12. الكتاب 1/137
13. الكتاب 1/283-428
14. اعراب القرآن1/292 .628
15. الكتاب 1/941
16. الكتاب 1/412
17. الكتاب 1/203
18. الكتاب 1/92
19. الكتاب 1/14-15
20. الكتاب 1/41
21. الكتاب 1/16
22. الكتاب 1/834
23. الخصائص 1/298
24. المنهاج الواضح: حامد عوني 135
25. الكتاب 1/319، 318
26. خزانة الأدب 2/261
27. الكتاب 1/325
28. المفتاح 1/27
29. الكتاب 1/92
30. الوساطة 946
31. الموازنة انظر 1/207 210
32. الموشح 128، نقد الشعر 130
33. الكتاب 1/213
34. الكتاب 1/622، 225
35. الكتاب 1/300.
36. الكتاب 1/80
37. الكتاب 1/89
38. الكتاب 1/108
39. الكتاب 1/961
40. الاضداد 942 لابن الانباري.
41. الاضداد 942 لابن الانباري
42. الدلائل 233 235
43. الكشاف 1/361 الزمخشري
44. الخزانة 1/314.
45. مقدمة نقد النثر 29، النقد 95 شوقي ضيف
46. الكتاب 1/109، 108
47. اعراب القرآن 1/74.
48. الكتاب 1/474
49. الكتاب 1/203.
50. البلاغة عند السكاكي 310
51. الكتاب 1/93
52. المزهر 1/063 السيوطي
53. الكتاب 2/310
54. الكتاب 2/303
55. الكتاب 1/159
56. سرالفصاحة 31 ابن سنان
57. الكتاب 1/333
58. الكتاب 2/841
59. الكتاب 1/762
60. لبديع لابن المعتز ص 496 ضمن كتاب ابن المعتز و تراثه في الأدب و النقد و البياند. خفاجي
61. الكتاب 1/195
62. الخصائص 2/754
63. اعراب القرآن 2/566
64. سيبويه امام النحاة 178 180
65. شروح التلخيص 1/361، 261

تعليقات