نشأة علوم البلاغة العربية

 علوم البلاغة العربية

نشأةعلم البلاغة
العلوم كالكائنات الحية ، تبدأ صغيرة ثم تنمو، وتبلغ أشدها ولا نعرف علما، من علوم العربية شذ عن هذه السنة إلا علم العروض فإن الخليل بن أحمد الفراهيدي أظهره تَامًّا، ولا نعرف له سلفًا قبله.وعلوم البلاغة لم توجد كاملة كما نراها الآن وإنما مرت بالأطوار التي مر بها كل علم وسنوجز هنا المراحل التي مرت بها.
أولا: مراحل النقد:
في كل مجتمع يوجد فيه شاعر أو كاتب أو خطيب يوجد من يستحسن الكلام، ومن يستهجنه، وقد يعبر هذا عن سبب استحسانه وهذا عن سبب استهجانه، وهذا ما يسمي بالنقد، وقد وجد هذا النقد مبكرا في الجاهلية الأولي ووصلتنا روايات فيها نقد لطائفة من الشعراء، وقد كان العرب في الجاهلية يفدون إلى سوق عكاظ يتناشدون الأشعار ويتحاكمون فيها إلى رجل من شعرائهم يثقون في ذوقه وفي حكمه، وكان النابغة الذبياني الشاعر المشهور، أحد حكام العرب في عكاظ.
ولم يكن المسلمون أقل إداركا لجيد الكلام من الجاهليين ... رووا أن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يُقَدِّمُ زهير بن أبي سلمي، وكان يُعَلِّلُ رأيه بأن زُهَيْرًا كان لا يُعَاظِلُ في المنطق، ولا يتتبع الغريب الحوشي ولا يمدح الرجل إلا بما هو فيه، فنري أن سيدنا عمر حَكَم، وعَلَّل، وأَحْسَنَ التَّعْلِيل.
أما في عهد بني أمية فقد كثر النقد، وكانت مجالس الخلفاء والأمراء ميدانا واسعًا له، لا سيما مجلس الخليفة عبد الملك بن مروان، ومما روي من نقده أنه أنشد قول نصيب:
أهيم بدعد ما حييت فإن أمت *** فوا حزنا من ذا يهيم بها بعدي
فقال بعض من حضر: أساء القول، أيحزن لمن يهيم بها بعده، فقال عبد الملك: لو كنت قائلا فماذا تقول؟ فقال أقول:
............... أو كّل بدعد من يهيم بها بعدي
فقال عبد الملك: أنت أسوأ قولا. والوجه أن يقال:
................ فلا صلحت دعد لذي خلة بعدى
وفي أوائل العصر العباسي رأينا ألوانًا من النقد، وكان الخلفاء والأمراء والأدباء ينقدون فيصيبون شاكلة الصواب في كثير من الأحيان.
قال بعض النقاد ينبغي للشاعر أن يحترز في أشعاره ومفتتح أقواله مما يتطير منه، أو يستجفي من الكلام والمخاطبات وقد عيب على أبي نواس قوله في مطلع قصيدة يمدح بها الفضل بن يحيى البر مكي:
أربع البلي، إن الخشوع لباد عليك *** ، وإني لم أخنك ودادي فتطير الفضل.
فلما انتهي إلى قوله:
سلام على الدنيا إذا ما فقدتم *** بني برمك من رائحين وغادى
استحكم تطير الفضل واشمأز حتى كلح وظهرت الوجمة عليه ثم قال نعيت إلينا أنفسنا يا أبا نواس فلم يمض إلا أسبوع حتى أوقع بهم الرشيد.
ولا شك أن النقد والبلاغة يجريان في مضمار واحد لأَنَّ موضوعهما واحد، وهو بيان وُجُوه حُسْن الكلام، وأسباب رداءته، وكثير من مسائل البلاغة بني على أصول وردت في النقد، ويحق لنا أن نقول: إِنَّ الأصولَ البَلاغِيَّة التي وضعت في عصر التدوين استفادت كثيرًا من مسائل النقد التي سبقت ذاك العصر.
ثَانيًا: مرحلة التأليف في علوم البلاغة
اتخذ التأليف في البلاغة صورا متعددة:
1) الصورة الأدبية
وفي هذا الدور كان الحديث في البلاغة يجري عرضا في كتب التفسير أو كتب الأدب ونمثل له بكتابين.
أ‌- كتاب (المجاز) لأبي عبيدة ، ومعمر بن المثني ، والكتاب أقرب إلى التفسير منه إلى البلاغة لها أهميتها، من ذلك حديثه عن التقديم والتأخير وعن التشبيه والاستعارة والكتابة ، أما حديثه عن المجاز فكان بمعناه العام، وهو الانتقال في التعبير من وجه لآخر، ثم تتبع ما جاء من ذلك في أسلوب القرآن مع موازنته بما جاء في الأدب العربي القديم.
ب‌- كتاب (البيان والتبيين) لأبي عمرو عثمان بن بحر الجاحظ وقد دعاه إلى تأليفه الدفاع عن العرب، ولذلك نجده يمتدح طرق العرب في التعبير، ويرد على الشعوبية الذين هاجموا العرب في خطابتهم، وفكرة الحديث عن الخطابة تشيع في الكتاب من أوله إلى آخره والكتاب غير مرتب، ولكن فيه لفتات خدمت البلاغة العربية من وجه:
1- استعمل لأول مرة الألفاظ والمصطلحات محققة إلى حد ما كالمجاز والبديع والسرقات الشعرية.
2- أشار إلى قضية اللفظ والمعني، وهذه النظرية لم تدون قبله، ولكن جري فيها كلام وفاز هو بفضل تدوينه، وكان من رأيه أن فضيلة الكلام ترجع إلى لفظه، وأما المعاني فإنها مطروحة في الطريق يعرفها العربي والعجمي، والحضري والبدوي.
3- ورد في الكتاب مسائل بلاغية حققت فيما بعد كمطابقة الكلام لمقتضى الحال وكالإيجاز وكالاستعارة.
2) الصورة البلاغية الأدبية:
وفي هذا الدور تتخذ البلاغة شكلا علميا إلى حد ما ولكن الطابع الأدبي لا يزال يغلب عليها، فالمؤلفون يكثرون من الشواهد ومن تحليلها والموازنة بينها، وخير ما نمثل به لهذا الدور.
أ‌) كتاب(الصناعتين) لأبي هلال العسكري المتوفى سنة 395هـ، وكان الغرض من الكتاب، كما يفهم من عنوانه، تعليم الكتاب صناعتي النثر والنظم، والمؤلف يقول في ختامه: (على أن هذا الكتاب مع من فنون ما يحتاج إليه صناع الكلام ما لم يجمعه كتاب آخر).
وقد تكلم عن التشبيه والاستعارة والإيجاز والإطناب وذكر من البديع خمسة وثلاثين نوعا، ومع أنه أكثر من الشواهد الأدبية يعتبر هذا الكتاب نقطة تحول في البلاغة، فقد بدأت موضوعاتها تأخذ وضعا مستقلا لا سيما علم البديع وإن كان سبقه عبد الله بن المعتز الذي ألف كتابًا سماه ( البديع).
ب‌) كتابا عبد القاهر (دلائل الإعجاز) و (أسرار البلاغة) وهما من خير ما أُلِّفَ في علوم البلاغة، وقد ضمن الأول أَبْحَاثًا كثيرة من مباحث العلم الذي أطلق عليه فيما بعد علم (المعاني ) كالتقديم والتأخير والحذف والقصر والفصل والوصل.
وأما أسرار البلاغة فقد ضَمَّنَهُ مباحث كثيرة من علم البيان، وبعض ألوان البديع ، وَتَغْلُب على عبد القاهر الْمِسْحَة الأدبية وتحليل النصوص واستقصاء الحجاج فيما يعرض له من آراء ، ويمكن أن نقول: إنه وضع في البلاغة ما يشبه القواعد، وبعض الباحثين يعتبره الواضع الحقيقي لعلوم البلاغة.
3) الصور العلمية:
وأخيرا وضعت البلاغة في صورة قوانين وقواعد، وحدود ورسوم وظهر فيها أثر المنطق جليا، وتضاءلت الناحية الأدبية.
وأول كتاب ألف على هذه الطريقة كتاب مفتاح العلوم للسكاكي.
ونمثل لهذا الصورة بكتابين:
أ‌) مفتاح العلوم: نظر السكاكي في صنيع المتقدمين فوجد مسائل البلاغة متفرقة فعمل على جمعها، وسمي العلوم الثلاثة ( البيان ، المعاني ، البديع) وقد كان اسم البديع معروفا من قبل، وموسوما به العلم الذي يبحث في محسنات الكلام، وقد رتب السكاكي مسائل البلاغة وهذب قواعدها وصاغها في أسلوب علمي يغلب عليه المنطق ، والجفاف.
واحتلت البلاغة القسم الثالث من الكتاب.
ب‌) الإيضاح:
وقد لخص الخطيب القزويني ما كتبه السكاكي في علوم البلاغة في متن سماه (التلخيص) وهو تلخيص للقسم الثالث من كتاب ( مفتاح العلوم).ثم شرح الخطيب (التلخيص) في كتاب سماه (الإيضاح) ومن ذلك الوقت بدأت الشروح والحواشي على (المفتاح) وعلي (التلخيص).
 
تعليقات